اللغة العربية لغة أدب وعلوم وعقيدة
السيد الدكتور سليمان إبراهيم العسكري المحترم رئيس تحرير مجلة العربي: لقد قرأت ببالغ الاهتمام مقالة د.عبدالله الجسمي في عدد «العربي» (634) سبتمبر 2011، والتي كانت بعنوان «الثقافة العربية... هل تطورها اللغة؟» وقد استهلها بسؤال آخر: هل باللغة تتطور الثقافة؟ وفي محاولته للإجابة عن هذا التساؤل وما قدمه من شواهد استدل بها على أن التراجع الثقافي والفكري لم يكن أساسًا بسبب تراجع اللغة العربية وإنما نتيجة لها، وأن السبب الرئيسي في إشكالية الثقافة العربية يكمن في دور الأنظمة الاستبدادية في وقف التقدم الثقافي أو العلمي والحضاري بما فرضته من أساليب القمع, وخنق الحريات، وتغييب دور العلم والعلماء, ونشر ثقافة الخوف والرعب والإذعان والتسليم. وبين أن إنقاذ اللغة العربية لن يؤدي إلى إنقاذ الشعب العربي من براثن الجهل والأمية والتراجع، على اعتبار أن اللغة العربية ذات طابع أدبي مجازي تفتقر إلى الدقة ومليئة بالصور البلاغية والتشبيهات وتخضع لتأويلات عديدة ولا تعرض موضوعاتها بشكل مباشر ولهذا يرى د. الجسمي أنه بطابعها هذا يصعب عليها أن تكون لغة للعلم والتقدم في عصرنا الحالي وانتهى إلى تقرير أن ما يحدث الآن على الساحات العربية من ثورات ساعية نحو التغيير ومنح الحريات سيكسر حالة الجمود الثقافي وسيصب في مجرى النهوض الحقيقي للثقافة العربية. وإن كنت أتفق مع د. عبدالله حول تحليله للأسباب التي أدت إلى انتكاسة الثقافة في الوطن العربي وتخلف الأمة العربية عن اللحاق بالتطور الحضاري، إلا أنني أخالفه الرأي بأن اللغة العربية إنما هي لغة أدب وبلاغة, وبحالها هذا فهي عاجزة عن اللحاق بالتطور العلمي. إن الاتجاه نحو التشكيك في قدرة اللغة العربية على مواكبة التطور العلمي المعاصر وتهميش دور اللغة في الارتقاء بالأمة تدحضه الشواهد التاريخية، والتي أثبتت أن اللغة العربية لغة أدب وعلوم وعقيدة، فقد اهتدى المسلمون بهدى القرآن واتبعوا تعليماته وكان أول هذه التعليمات يحض على التعلم (قراءة وكتابة) والتأمل والتفكير وكشف أسرار الكون ليزدادوا إيمانًا. وهكذا ارتبطت العقيدة الإسلامية بالعلم والعمل, فالقرآن الكريم بلغته العربية كان منهاجًا متكاملاً وسراجًا يسترشد به المسلمون في إنارة ظلمة الجهل والتخلف، وانطلقوا بوحي منه نحو سبر جميع المجالات الحياتية. واستخدمت اللغة العربية كوسيلة لتدوين أفكارهم وشروحاتهم حول نظريات العلوم الجديدة التي توصلوا إليها، وتطورت اللغة وفقًا لاحتياجات المراحل المختلفة. كما استوعبت اللغة العربية إنتاجهم المترجم واحتوت علوم ومعارف الحضارات السابقة لما تتميز بها من غنى في المفردات وقدرة على الاشتقاق وتوليد المعاني والتراكيب, ولم يقتصر إنتاج المسلمين على النقل والاستنساخ، بل أعملوا عقولهم, وأضافوا من إبداعاتهم رؤى جديدة متميزة وأسسوا صرحًا حضاريًا عبر عن هوية عربية إسلامية لها خصائصها وسماتها المميزة. وبلغت اللغة العربية مبلغًا لم تصله أي لغة أخرى، وارتقت بالأمة إلى مصاف الأمم المتحضرة ولا تكاد لغة حية في وقتنا الحاضر تخلو من مفردات عربية دخلتها إبان الفتوحات الإسلامية وازدهار حضارتها. وتكمن أهمية اللغة كما ورد في كتاب علم اللغة للدكتور علي عبدالواحد وافي، في أنها «تعتمد اعتمادًا جوهريًا على ظواهر عقلية كالإدراك الحسي والتفكير وإدراك المعاني الكلية والحكم والاستدلال وخيال الحركة والخيال السمعي والخيال النظري والحافظة والذاكرة وتداعي المعاني والحالات وتداعي الحالات الوجدانية والانتباه والإرادة». ذلك أن وظيفة اللغة لا تقتصر على كونها وسيلة اتصال وتواصل، بل تبث دورها في تنمية القدرات الذهنية ودعم وتطوير المهارات الأساسية. وعدم السماح لها بالقيام بدورها في التنمية نشأ عنه هذا العجز والقصور في الإمكانات الفكرية والإنتاجية والعلمية.. إلخ. وأدى ذلك بدوره إلى فقر اللغة وتراجعها، بينما تشهد اللغات الأخرى اللغة الإنجليزية على وجه الخصوص - تطورًا هائلاً استوعبت تحت ردائها الثقافة والعلوم والتكنولوجيا، ذلك أن النظم التعليمية لديهم انتهجت من أساليب التعلم مادعت إليه رسالة الإسلام وهي القراءة والكتابة والتفكير والتدوين. أما القراءة فقد ثبتت أهميتها في العملية التعليمية بشكل أساسي فهي تدعم التفكير والفهم, وتعمل على الربط بين الأفكار والجوانب الأخرى من حيث إنها وسيلة لكسب المعارف والمعلومات, واستيعاب الفكرة الأساسية للموضوع, كما تعمل على تنمية المفردات اللغوية وإثرائها، وتدعم عملية الكتابة بشكل عام. وأما الكتابة فإنه لا يقصد بها تعلم الإملاء وموقع الكلمة من الإعراب وحفظ المفردات ومعانيها، ولكن يقصد بالكتابة تمكين الطلاب من كتابة ملاحظاتهم واستنتاجاتهم, وكتابة الوصف الدقيق، والتعبير عن أفكارهم الخاصة, وهذا ما يمكن الطلاب من التفكير وإدراك المعاني، وتطوير مهارة التفكير النقدي لديهم, لتساعدهم في تحليل الدوافع والأسباب، وتحليل المشكلة والحلول, فهم الفكرة الأساسية للموضوع, وتقديم المعلومات حول البحث وتقديم الأدلة والأفكار التحليلية للنص, التعبير عن الأفكار وتدوينها, وكل هذه الأمور إنما هي أساس المناهج العلمية التجريبية ووسيلته للوصول إلى حقائق علمية واكتشافات جديدة. وفي الاتجاهات التعليمية الحديثة زاد الاهتمام بالقراءة حتى أصبحت جزءا أساسيا في المنهاج الدراسي اليومي, وتم تضمين الكتابة في جميع المواد التعليمية لأهميتها في صقل المهارات الأساسية للتعلم, كما تبين لهم أهمية الكتابة الإبداعية في تطوير اللغة وتم تطوير آلية تعلمها مثل كتابة المسودة، التصحيح، المراجعة، حذف كلمة واستبدالها بأخرى، تصحيح الجملة من حيث القواعد والهجاء واختيار الجمل المناسبة لنوع الكتابة وأسلوبها وكل هذه الأمور ساعدت في صقل مهارات المتعلمين اللغوية والفكرية ودفعت بهم نحو الإنتاج الفكري والعلمي الذي يكاد يشهده العالم الحديث. أما المؤسسة التربوية في المجتمعات العربية فقد قصرت في فهم أهمية اللغة في العملية التعليمية, وأبقت على الوسائل التقليدية في التعلم من حيث الاقتصار على الحفظ والنقل واللذان نتجت عنهما حالة من الجمود الفكري والتقهقر القسري للغة العربية وولادة حالة من الكره والعداء إزاء تعلمها.. إضافة إلى خلو المناهج التعليمية من آليات التعلم الحديثة التي تدفع بالمتعلمين نحو التفكير والتأمل والتحليل والتجريب والتخمين والتقدير والنقد وغيرها من المهارات التي يتطلبها التعليم المنتج المفيد وتطوير اللغة التي تحوي كل ذلك. إن التغيير المنشود في المجتمعات العربية ينبغي أن يتجه نحو الاهتمام بالتعليم واتجاهاته الحديثة وضرورة دفع المتعلمين نحو الوعي بأهمية اللغة ودورها في تشكيل ثقافة وهوية الأمة. فتحية محمود صديق - لندن