ملف مئوية.. نجيب محفوظ: برفقة نجيب محفوظ

ملف مئوية.. نجيب محفوظ: برفقة نجيب محفوظ

نحتفل هذا العام بذكرى مرور مائة عام على مولد الأستاذ نجيب محفوظ بتاريخ 11 سبتمبر 1911، عاش منها ما يقرب من الخمسة والتسعين من الأعوام حياة مثمرة ثرية بالعطاء والإسهام المتميز فى الحضارة الإنسانية. يتحدث رفيقه الروائي نعيم صبري عن سنوات معه.

عرفت الأستاذ لمدة تقترب من ربع القرن، كان ذلك فى ندوته بكازينو قصر النيل المطل على نيل القاهرة العريق. ترددت كثيرا قبل التجرؤ على التوجه إلى الندوة التى دعانى إليها الصديق سامى البحيرى، الذى كان مواظبا على حضور الندوة، شجعنى بحماسة عندما لاحظ ترددى، قال لى إنها ندوة مفتوحة للجميع وإن ترددى لا محل له، فسوف أتبين بنفسى ترحيب الأستاذ بزائريه. كان مبعث ترددى هو إحساسى بقيمة الأستاذ ورهبتى من اقتحام خصوصيته فى مجلسه.

تغلبت على ترددى وذهبت وأنا أقدم رجلا وأؤخر أخرى، كان عدد الحاضرين محدودا، فقد كان التاريخ قبل حصول الأستاذ على جائزة نوبل وازدحام ندوته بعدد أكبر من العدد المعتاد. حلقة صغيرة يتراوح الموجودون فيها بين العشرة والخمسة عشر من الحضور. لحظات معدودات وشعرت بالاسترخاء والألفة، فقد عاينت بساطة آثرة من الأستاذ وترحيبا قلبيا، تلك البساطة التى عرفت في ما بعد أنها تمثل سمة أساسية من سمات شخصيته.

يعرف العالم الأستاذ نجيب محفوظ أديبا عظيما أثرى الآداب العالمية بإنتاج فذ، كما وكيفا، ويعرفه أبناء الحضارة العربية إلى جانب ذلك كمؤسس لفن الرواية العربية الحديث. ما لا يعرفه من لم يحتك به شخصيا، هو أنه كإنسان يمثل قيمة إنسانية قل أن توجد، قد تفوق قيمته الأدبية التى عرفها قراؤه فى العالم كله. عَدِّد ما شئت من القيم الإنسانية النبيلة، فسوف تجدها فيه، وسوف تلحظ تطور تلك القيم معه دائما إلى الأكمل والأفضل يوما بعد يوم، فالرجل لا يكف عن مجاهدة النفس بدأب للسعى نحو الأفضل والأشمل والأعلى نبلا وبلوغا للغايات العلى. مجاهدة النفس سمة أصيلة فيه تشعرها من نموه الروحى المستمر والملحوظ لمن يتأمله عن قرب.

اكتسب الأستاذ نعمة الاستغناء نتيجة لقدرته الفذة على مجاهدة النفس، يظهر ذلك لكل من يتأمل تصرفاته. يكتفى من الدنيا بأقل القليل ، رشفتان من فنجان القهوة وسيجارتان هى كل متعته المادية من الحياة، حياة بسيطة تقنع بالمعنويات، لم يقتنِ سيارة فى حياتة واستمتع بالسعى فى الطرقات واستخدام وسائل المواصلات العامة. يحجز تذكرة الأوتوبيس لرحلته الأسبوعية إلى الإسكندرية فى الصيف، ويركب التاكسى مع الناس عندما كان سائقو التاكسى يلتقطون الركاب من الطريق ليحيلونه إلى تاكسى بالنفر، يجىء إلينا سعيدا فى المساء ليبلغنا إنه ركب مع شاب التاكسى ودخل معه فى حديث ثم دعاه لندوتنا ليطرح موضوعه ويشاركنا فى النقاش وتبادل الرأى، عندما فاز بجائزة نوبل قسَّمَ قيمتها المادية إلى أربعة أنصبة، فقد اعتبرها حقا لأسرته التى تتكون منه وزوجته وابنتيه، أعطى كلا من أفراد الأسرة نصيبه ثم تبرع هو بنصيبه لبريد الأهرام ليضعه وديعة مصرفية يكون أول ريع فيها من نصيب الهلال الأحمر الفلسطينى. رجل نجح فى الوصول إلى الاستغناء ليحلق حرا معافى من أثقال الاحتياج الملح والتملك المرهِق، ويجىء مع الاستغناء البساطة فى السلوك وإنكار الذات إلى أبعد الحدود إلى جانب الزهد والتقشف فى كل الدنيويات.

أما عن الرضا فحدث ولا حرج، فلم أرَ إنسانا راضيا عما تمنحه له الحياة مثل الأستاذ نجيب محفوظ. أصيب بمرض السكر فى مرحلة مبكرة من حياته فأقلم نفسه بصرامة على التعايش معه. لم أره مرة واحدة يتناول أى حلوى، نحتفل بعيد ميلاده ونحضر تورتة الاحتفال، يرجوه الأصدقاء للتنازل عن انضباطه الصارم مؤملين تناوله قدرا بسيطا للمشاركة فيعتذر برقة لمرضه، القهوة سادة والشاى بدون سكر. أثر المرض على سمعه فتأقلم برضا وانطلق يسعى فى الحياة مطبقا برنامجه الصارم فى العمل والتلاقى مع الأصدقاء، تأثر نظره قتأقلم وأصبح يقرأ الجرائد بالاستعانة بالعدسة المكبرة، عندما زاد تدهور نظره اكتفى بعناوين الجرائد وما يقرأه عليه الأصدقاء من بقية الأخبار، بعد ذلك كان الحاج صبرى يجيئه يوميا من الأهرام ليقرأ له الجرائد، كل ذلك وعلامات الرضا تكسو وجهه وتشع من روحه دائما. لايشكو ولا يتذمر، لكنه ينطلق معانقا الحياة ومستمتعا برضا بما عساها أن تعطيه له.

مودته للأصدقاء صافية عذبة، أصدقاء الصبا والشباب وأصدقاء الحاضر، سعادته الغامرة عندما يجيئون لزيارته أو يذهب هو لزيارتهم عند المرض، صحبته لزيارة الأستاذ عادل كامل فى المستشفى، ورأيت عمق المودة وصفاء العلاقة، كأنها مستمرة لم تنقطع بهجرة الأستاذ عادل كامل إلى الولايات المتحدة الأمريكية منذ زمن طويل ومجيئه القليل إلى مصر، لكن عمق المودة وعذوبة الصداقة قائمة لم تتأثر، عندما يجىء الأستاذ توفيق صالح لزيارته بالندوة، يتهلل وجه الأستاذ كالأطفال فرحا بمقدمه وتشعر بمدى نشوته وعمق ترحيبه. استقباله لنا، رواد ندوته القدامى، وأهلا وسهلا التى تنبعث من القلب ولا تخطئ صدقها وحرارتها العين.

ونصل إلى التواضع، لم أرَ إنسانا متواضعا إلى أقصى درجات التواضع كالأستاذ نجيب محفوظ، تنسى معه أنك بحضرة ذاك العملاق الذى جاد بكل هذا العطاء الأدبى. يقف بهمة للسلام على كل من يحضر، مهما رجوته بعد تقدم العمر بألا يتكلف المشقة فإنه سينهض مهما ثقلت حركته وزادت معاناته، ومهما زاد عدد المترددين على مجلسه، قابلته ذات صيف على مقهى الرصيف لفندق سيسل بالإسكندرية المقابل للبحر، جلست معه لبعض الوقت وعجبت أشد العجب لعدد القادمين للسلام عليه من العابرين الذين لاحظوا وجوده بالمصادفة، عائلات بكاملها، كبارها وصغارها، يجيئون للسلام عليه، فينهض مرحبا ومُسَلِّما على كل فرد منهم بحماسة وترحيب، لا تمر دقائق إلا ويتكرر المشهد، وتفاقم الأمر عندما انتبه أحد مصورى الشارع لوجوده فأخذ يستدعى المارة للسلام عليه والتصوير معه ، فرصة ذهبية للتكسب والاسترزاق، وبدأت الحملة، عشرات الصور مع الكبار والصغار وفى كل مرة ينهض مرحبا، بنفس الحماسة والصدق، أشفقت عليه فأسررت إليه متسائلا، أليس ذلك مجهودا عليك؟!.. تبسم بسماحة أخاذة وقال لى موضحا، الناس تجيء للسلام علىَّ، كَتّر خيرهم.

إصرار الأستاذ نجيب محفوظ وعزيمته شىء عجيب تبدى لنا بعد الحادث الذى تعرض له وهو يقترب من الرابعة والثمانين من العمر. كانت الطعنة فى رقبته وأثرت على العصب المتحكم فى حركة كفه اليمنى وأصابعه. أصبح غير قادر على الكتابة وبدأت جلسات العلاج الطبيعى والتمرينات التى طلب الأطباء أن يقوم بها لحركة أصابعه. كنا نلتقى به يوميا بعد الحادث حيث تغير برنامجه اليومى وصرنا نرتب له خروجا يوميا، نمر عليه فى السادسة مساء لأخذه من البيت ومصاحبته كل يوم إلى مكان جديد، قام بهذا الترتيب الدكتور يحيى الرخاوى ليرفه عن الأستاذ بعد الحادث الأليم ويرفع من معنوياته. لم يكن الأستاذ يتوقف طوال جلستنا عن أداء تمرينات أصابع يده اليمنى بالاستعانة بكفه اليسرى، يظل يحركهما بدأب أثناء جلسته ومشاركته معنا فى الحديث، لايسهو ولا يتوانى على مدى الساعات الأربع التى نقضيها معه، بعد فترة وجيزة بدأ فى تمارين الكتابة بالبيت، جاءنا يوما ضاحكا وهو يقول.... أخيرا تعلمت أن أكتب اسمى، واصل شهورا طويلة وملأ عشرات الدفاتر بتمرينات الكتابة، كان سعيدا عندما تمكن من أن يكتب على السطر بعد طول مجاهدة، مر بالمراحل العديدة التى يمر بها الطفل حديث العهد بتعلم الكتابة، لم يكل أو يمل حتى تمكن أخيرا من معاودة الكتابة، بدأ بكتابة الأغانى التى كان يحبها فى طفولته وشبابه، والتى نشرتها له مجلة نصف الدنيا، تطور الأمر حتى وصل إلى كتابة أحلام فترة النقاهة، لكن كيف تغلب على كتابتها مع ضعف نظره الشديد الذى منعه من رؤية ما يكتب ومتابعته وتصحيحه، ماذا فعل؟... لم يُعِقهُ ذلك عن العمل، بدأ فى حفظ الأحلام عن ظهر قلب وإملائها على الحاج صبرى عندما يجىء إليه لقراءة الجرائد الصباحية. مرض الحاج صبرى مرضا عابرا فاستسمح صديقنا الدكتور حسين حمودة ذات مرة أن يكتب له الأحلام، ورأيته بعينى يمليه أربعة أحلام عن ظهر قلب فى دفقة واحدة.

يعرف الجميع أن الأستاذ نجيب محفوظ رجل منظم، هو فى الحقيقة شديد النظام، فهو سيد الوقت بحق وليس عبدا له بأى حال من الأحوال كما قد يتصور البعض، هو الذى روَّض الوقت وأخضعه لسلطانه، فهذه قيمة إنسانية إيجابية شديدة الفعالية فى حسن الاستفادة من الوقت للوصول إلى أهداف الحياة التى يضعها الإنسان الحصيف لنفسه، وقد وضع الأستاذ الكتابة الأدبية كهدف أسمى له لايحيد عنه، لذلك كان النظام الصارم هو الوسيلة الوحيدة للوصول إلى إنجاز ملموس، فى ضوء عدم تفرغه للكتابة بسبب ارتباطه الملزم بالوظيفة التى يتكسب منها ليقيم حياته وحياة أسرته، هذا بالإضافة إلى التزامه بالاحتكاك بالناس فى ندوته الأسبوعية ورؤية أصدقائه من الحرافيش، وكما كان يقول هو نفسه، تنظيم الوقت هو السبيل الوحيد لعمل كل ذلك، الوظيفة والاحتكاك بالمجتمع والاستمتاع بلقاء الأصدقاء وعموما الأخذ بنصيب معقول من متع الحياة دون الإخلال بوقت العمل الأصلى الذى وهب له نفسه منذ مطلع الصبا.

خصال الأستاذ الحميدة عديدة لا يستطيع المجتهد أن يلم بها، فهودائما يفيض بما يثير الإعجاب والثناء، رجل متصالح مع نفسه إلى أبعد الحدود، فى السراء والضراء،يقبل على الحياة ويبجلها ويتكيف معها حسبما تجود به، لم أره متذمرا منها على وجه العموم، قد يرفض أشياء ويعترض عليها، لكن ليس إلى الدرجة التى تُخِلُّ بتقديره لقيمة الحياة وعظمتها، إلى جانب كل تلك الخصال، فهو فى العموم رجل يملك استقامة القصد وصفاء الوضوح إلى الدرجة التى تصل بالمرء دون أن يكون متجاوزا، إلى اعتباره أقرب النماذج الإنسانية إلى الحكمة. رحم الله الأستاذ الذى رحل عن عالمنا وهو يقترب من إتمام عامة الخامس والتسعين فى30 أغسطي 2006، والذى ستبقى روحه حاضرة بين أحبائه وأصدقائة ومريديه، يستحضرونها كلما عزت تلك القيم النبيلة عن التحقق والوجود.
-----------------------------------------
* روائي من مصر.

 

نعيم صبري*