ملف مئوية.. نجيب محفوظ: قاهرة نجيب محفوظ.. مدينة الأدب التي لا وجود لها في الواقع

 ملف مئوية.. نجيب محفوظ: قاهرة نجيب محفوظ.. مدينة الأدب التي لا وجود لها في الواقع

تصوير: راندا شعث*

يعد نجيب محفوظ واحدًا من الكتاب القلائل الذين استطاعوا أن يمنحوا المكان خلودًا أدبيًا، وعلى نحو خاص مدينة القاهرة القديمة المعروفة تاريخيًا بالقاهرة المعزية، أو الفاطمية، وانضم بذلك إلى قائمة الكتاب الذين منحوا الخلود لمدنهم، لكنه تفرد عن غيره بأنه أعطى البطولة المطلقة للأحياء والأماكن، حين أطلق على أشهر رواياته أسماء أزقة وشوارع قديمة، خلق منها عوالم فسيحة لاختبار النوازع والأهواء والصراعات والأشواق والعواطف البشرية التي رسم بها ملامح أجيال شكلت الشخصية المصرية التي عاشت واستقرت في أحياء القاهرة.

وقد كان هذا الموضوع موضع اهتمام عدد من النقاد ممن قرأوا أعمال محفوظ، وبينهم مثلا الأكاديمية الهندية بيتي سينج الأستاذة بجامعة دلهي، التي كتبت في واحدة من دراساتها عن محفوظ: «إن الروائيين العظام يظهرون سعة في أفق التفكير والخيال تخلق، إذ تتجسد في أعمالهم آفاق رحبة للوجود في نطاق رواياتهم، ومما لا شك فيه أن ذلك لا يتضمن ما تختص به التجربة الإنسانية فحسب، ولكن أيضا حسًا ملموسًا بالمكان والزمان، وقد استطاع نجيب محفوظ مثلما فعل ديكنز في مدينة لندن وجويس في دبلن وأديث وارتون في نيويورك، أن يستوطن القاهرة بشوارعها وحواريها التي عرفها عن كثير، وإذا كانت القاهرة تعد بالفعل إحدى أشهر مدن الشرق الأوسط بتاريخها الثري، فقد زادها تجسيد نجيب محفوظ للناس والأماكن في رواياته ثراء أن الزمن سوف يحمل - لاشك -، لحظة تختفي فيها البيوت والآثار والأماكن التي اختارها نجيب محفوظ لتتضمنها أعماله، ولكن هذه اللحظة لن تستطيع، بحال من الأحوال، التسلل إلى صفحات رواياته، ولعل الحظ كان كريمًا حين احتفظ لنا ببعض تلك الأماكن حتى نستطيع أن نراها كما رآها نجيب محفوظ».

لكن، وبالرغم من ذلك، فإن المدقق في أعمال محفوظ، في الحقيقة، لن يجد أوصافًا تفصيلية للأحياء والأزقة والشوارع على طريقة بلزاك أو ستاندال أو حتى ديكنز في وصفه للندن، فكل ما هناك لا يتجاوز رتوشا سريعة كضربات الفرشاة التي يرسم بها فنان تجريدي ملامح عامة لشخص أو مكان، وعلى سبيل المثال فهو يصف زقاق المدق في مطلع الرواية التي تحمل الاسم نفسه كما يلي: «تنطق شواهد كثيرة بأن زقاق المدق من تحف العهود الغابرة وأنه تألق يوما في تاريخ القاهرة المعزيّة».

كما يصف رؤية ياسين أحمد عبد الجواد لشارع قصر الشوق قائلا: «وتراءت له عطفة قصر الشوق، لم يتغير من الحي شيء، مازال ضيقا تسده عربة إذا اعترضت سبيله وها هي بيوته تكاد تتماس مشربياتها ودكاكينه الصغيرة في تلاصقها وزحمتها.. وأرضه التربة بفجواتها المفعمة وحلا».

لكنه عبر الحياة اليومية للشخصيات، وأحلامها ونوازعها وقيمها، وعلاقاتها المعقدة والمركبة داخل هذا الحيز المكاني أسبغ على المكان الجغرافي الواقعي ما يمكن وصفه بـ«روح المكان»، لكن ارتباط اسم محفوظ بالقاهرة في الحقيقة قد يعود لأنه منح أسماء الأماكن لأعماله الأدبية، ولأنه اختار أن تكون أغلب أعماله في القاهرة إضافة إلى الدور الذي استكملت به السينما هذا «الكلاشيه»: حيث يقتضي العمل السينمائي، كمُنتَج فني بصري بامتياز، على المخرج السينمائي أن يقدم تصورًا بصريًا تفصيليًا للمكان، يبنيها من رتوش محفوظ الوصفية المقتضبة، والنتيجة كانت تثبيت أحد الكلاشيهات الأساسية التي تم ويتم تداولها عن محفوظ بوصفه الكاتب الذي يمتلك مفاتيح القاهرة، بينما أعتقد عبر قراءتي المتأنية لأعماله الروائية جميعا أنه استطاع أن يخلق «قاهرة أدبية» تخصه، أو بمعنى آخر يمكن أن نطلق عليها «قاهرة محفوظ الأدبية».

إن محفوظ الذي تتهم أعماله بالواقعية دون كثير من التمحيص في الحقيقة أنشأ قاهرة أدبية لها مدلولاتها التي تخص محفوظ نفسه، مما نرى من وصفه المستمر مثلا لتكايا الدرويش وما ينطلق منها من أناشيد غامضة في «ملحمة الحرافيش»، ومن فكرة الصحراء والخلاء كمكان بعيد ينفي الشخص نفسه إليه، خارجًا عن عالم الحياة الذي تمثله الحارة، وغير ذلك، لكن محفوظ في ظني هو كاتب الرمزية المكانية والزمانية والفلسفية بامتياز، ولا أظن تعمده إنطاق شخصياته وأغلبها من العوام والبسطاء باللغة العربية الفصحى، إلا إخلاصًا منه لنموذجه الأدبي الرمزي هذا.

هذا هو المنطق نفسه الذي عمل من خلاله على اتخاذ بعض الأماكن من الواقع ليحولها إلى عالم روائي واسع وممتد كما شأنه مع زقاق المدق، الذي لا يتجاوز في الواقع سوى مساحة ضيقة صغيرة لزقاق يكاد يتسع لبنايتين متجاورتين، حوله هو في العمل إلى عالم كامل ممتلئ بالنماذج البشرية والآثار من المساكن إلى المقاهي وباعة الزقاق الذين يجسدون جزءًا من ملامحه.

وأيًا كان منهجه الفني فقد قدم محفوظ مجموعة من الأعمال الأدبية التي صاغ من خلالها التحولات التي مرت بها الشخصية المصرية على امتداد القرن الماضي، فأين أصبحت هذه الشخصية اليوم؟ وإلى ما انتهت قاهرة محفوظ الآن وهنا؟

في محاولة فنية خاصة حاولت الفنانة راندا شعث أن تتقصى بعضا من ملامح قاهرة محفوظ بعدستها وعينيها، عبر اختيارنا المشترك لفقرات دالة من نصوصه، في محاولة فنية جديدة تتقصى ملامح القاهرة التي كتب عنها محفوظ كما عاينها قبل أكثر من نصف قرن وزيادة، فكيف أصبحت اليوم بعد 100 عام من ميلاده؟.

------------------------------------
تعليقات الصور

(1 - 2) عندما بلغ السيد أحمد عبد الجواد دكانه الذي يقع أمام جامع برقوق بالنحاسين كان جميل الحمزاوي وكيله قد فتحه وهيأه للعمل، ولم تكن عجلة الدكان تدور قبل الضحى. فجعل السيد يراجع حسابات اليوم السابق بمثابرة ورثها عن أبيه. وكان السيد يرفع رأسه من الدفتر في فترات متباعدة فيستمع إلى التلاوة أو يمد بصره إلى الطريق، حيث لا ينقطع تيار المارة وعربات اليد والكارو، وسوارس التي تكاد تترنح من كبرها وثقلها والباعة المغنون وهم يترنمون بطقاطيق الطماطم والملوخية والبامية كل على مذهبه. (بين القصرين)

(3) هذا حينا القديم الجميل وهذا أنا أجول في أركانه حاملاً في قلبي ذكرياته، ثم خطر لي أن أقيم في البيت القديم حتى تخف أزمة المساكن ولكن تبين لي من أول يوم أنه لم يعد صالحًا للحياة الحديثة. (أحلام فترة النقاهة، حلم 141).
اشتقت لرؤية أهلي فانتقلت من فوري إلى البيت القديم، وهالني أن أجده غارقًا في الظلام كأنهم استأنسوا بالظلمة، فناديتهم معاتبًا رجلاً رجلاً وامرأة امرأة ولكن لم يجبني أحد.. رجعت أكرر النداء حتى دمعت عيناي. (أحلام فترة النقاهة، حلم 135).
(الصورة توضح موقع منزل عائلة نجيب محفوظ في الجمالية بعد هدمه)

(4) وتراءت لعينيه عطفة قصر الشوق فخفق قلبه بقوة حتى كاد يصم أذنيه، ثم لاحت على رأس منعطفها الأيمن سلال البرتقال والتفاح منضدة على الطوار أمام دكان الفاكهة فعض شفتيه وغض طرفه. (بين القصرين، 128)

(5) كان الحنطور يتابع سيره على شاطئ النيل حتى وقف أمام عوامة في نهاية المثلث الأول من طريق إمبابة وما لبث أن غادره السيد أحمد عبدالجواد، ثم تبعه على الأثر السيد علي عبد الرحيم. كان الليل قد جثم في مجثمه وغشيت الظلمة كل شيء إلا أضواء متباعدة تطل من نوافذ العوامات والذهبيات التي ينتظمها الشاطئان من جسر الزمالك فهابطا، وأنوار خافتة لاحت عند موقع القرية في نهاية الطريق كالسحابة الناضجة بوهج الشمس في سماء ملبدة بالغيوم الداكن. (قصر الشوق 79)

(6) بدا المقهى المدفون كجوف حيوان من الحيوانات المنقرضة طمر تحت ركام التاريخ إلا رأسه الكبير، فقد تشبث بسطح الأرض فاغرًا فاهه عن أنياب بارزة على هيئة مدخل ذي سلم طويل وثمة في الداخل صحن واسع مربع الشكل، مبلط بالبلاط المعصراني تتوسطه فسقية رصت على حافتها أصص القرنفل، وأحدقت بها من الجهات الأربع أرائك فرشت بالحصير المزركش والوسائد، أما جدرانه فقد انتظمتها مقاصير صغيرة الحجم متجاورة كأن الواحدة منها كهف منحوت في الحائط». (قصر الشوق 71).
هذا ليس وصف مقهى الفيشاوي بل مقهى يعرف بـ«مقهى أحمد عبده» ذكره محفوظ في غير موضع من أعماله، لكنه - للأسف - لم يعد له وجود، وتقول الدكتورة سينج: «أخبرنا جمال الغيطاني أن ذلك المكان يقام فوقه اليوم مقهى الفيشاوي الشهير المنعزل في ركن صغير من أركان خان الخليلي، حوصر المقهى القديم عندما أقيمت فوقه عمارات شويكار في الثلاثينيات، ولم نعرف سبيلا لأي صور له».

(7) ولاح له الجسر كتلة صماء متوهجة بأنوار المصابيح تمسك من طرفيها بالشاطئين في عناد وتصميم، كأنه وحش يغرز أنيابه في فريسته، وعند رأس الجسر وعلى الجانب المواجه له، رآها تتحرك في خطو ثقيل خافضة الرأس، يعلوها جمود غريب كأنها تمشي في سبات. رآها في وضوح تام تحت الأضواء المشرقة فثبتت عيناه على جانب وجهها المنعكس وهي تقطع الأرض قدما حتى بلغت المنتصف فتوقف عن المسير، ورفعت رأسها وأجلته فيما حولها ثم استدارت نحو السور وألقت ببصرها إلى الماء المصطخب الجاري. (بداية ونهاية- 399).

(8) تنطق شواهد كثيرة بأن زقاق المدق كان من تحف العهود الغابرة وأنه تألق يوما في تاريخ القاهرة المعزية كالكوكب الدري، كيف لا وطريقه المبلط بصفائح الحجارة ينحدر مباشرة إلى الصناديقية، تلك العطفة التاريخية، وقهوته المعروفة بقهوة كرشة، تزدان جدرانها بتهاويل الأرابيسك، هذا إلى قدم باد، وتهدم وتخلخل وروائح قوية من طب الزمان القديم الذي صار مع كرور الزمن عطارة اليوم والغد. (زقاق المدق).
------------------
* فنانة من فلسطين مقيمة في القاهرة

 

إبراهيم فرغلي