ملف المدرسة المباركية: مائة عام على التعليم الحديث

ملف المدرسة المباركية: مائة عام على التعليم الحديث

تحتفل دولة الكويت بمرور قرن على إنشاء المدرسة المباركية، التي دشّنت عهدًا جديدًا في التعليم. فمنذ مائة عام أدركت النخبة الكويتية، التي انصرف معظم أهلها لصيد اللؤلؤ، وتجارة البر والبحر، أن الاستثمار الأفضل للمستقبل يكون بالتعليم. هذه الصفحات تتذكر ذلك التاريخ المبكر للنهضة الكويتية.*

في مطلع القرن العشرين كانت الكتلة الأساسية في المجتمع الكويتي منصرفة إلى صيد اللؤلؤ وإلى التجارة، سواء المحلية منها أو البرية أو الخارجية البحرية، ولا يقتصر ذلك على صنف معين، بل كانوا يتاجرون في جميع ضروب التجارة السائدة والرائجة في الخليج وما حوله من دون استثناء، مثل الأقمشة والأرز والسكر والخشب والأثاث والبهارات والقطن والقهوة والدخان والفواكه المجففة والحنطة والتمور والسمن والماشية والخيول.. إلخ. وكان لديهم عام 1331هـ(1912م) أسطول من السفن يبلغ 812 سفينة، يعمل عليها 30 ألف بحار وهي سنة الطفحة، أي سنة الخير والرزق الكثير الذي عمّ السكان، وبلغ هذا الأسطول بعد نشاطات الحرب العالمية الأولى ورواج النقل البحري والتحرك التجاري الواسع عام 1338هـ (1919م) 1200 سفينة، بزيادة 50%، صنع الكثير منها في الكويت.

هذا المجتمع التجاري الواسع النشاط كان يستند إلى قاعدة متزايدة الاتساع من المتعلمين الذين أضحوا هم قادة الرأي والعمل في الكويت. وهم الذين بدأوا بعد مرحلة الكتاتيب مرحلة جديدة في تاريخ التعليم هي مرحلة المدرسة. وكما لم يقض ظهور الكتاب المستقل على تدريس المسجد، فإن ظهور المدرسة لم يلغ تدريس الكتاتيب إلا في عهد متأخر، حيث زاملتها ومشت معها قرابة خمسين سنة، ولم تنقرض إلا حين استكملت المدارس (الرسمية) كامل عدتها، وزاد عددها سنة 1958 قبيل مطلع العهد الاستقلالي.

المدرسة المباركية.. بداية الفكرة

وهي مشروع شعبي بحت عبّر فيه عدد من رجال الفكر والمال عن حاجة البلد إلى تطوير التعليم بما يتفق مع حاجاتهم العلمية ومع التطور التعليمي في البلاد المجاورة التي يعرفونها بعد أن أحسوا أن الكتاتيب بدأت تفقد دورها في مسيرة التعليم، وأن الضرورات تقتضي الانتقال إلى مستوى آخر بعد أن توافر في أيدي الناس المال، وازدادت في الوقت نفسه الحاجات وتعددت، ودخل عدد من المتغيرات على المجتمع الكويتي، فكان لابد من إضافة علوم أخرى إلى مناهج الكتاتيب، ولابد من خبرات أخرى في التعليم لها مستواها، وتتفق مهاراتها مع حاجات النمو الاقتصادي في التجارة والغوص والسفر وفي الحسابات، وصرف النقد وفي اللغة الأجنبية، ولابد أخيرًا من تكوين جيل وطني يلم بكل ذلك.

وقد تضافرت مجموعة من العوامل المختلفة التي دفعت بعض أهل الكويت المتعلمين إلى التفكير بشكل جاد في ضرورة إنشاء مدارس نظامية، وإيجاد مؤسسات تعليمية تتفق مع طموحات المجتمع الكويتي وتحقيق أهدافه ومطالبه في تلك الفترة. ويمكن استعراض مجموعة العوامل التي صاحبت إنشاء أول مدرسة نظامية على النحو التالي:

  • ظهور جماعة من الفقهاء ورجال الدين في البلاد سبق لهم أن تعلموا ودرسوا في عدد من الأقطار المجاورة مثل نجد، والإحساء، والعراق، والهند وغيرها من الأقطار ذات الصلة القوية بالكويت، وكان اطلاعهم على مستوى التعليم والثقافة ومدى انتشارهما في تلك الأقطار دافعًا لهم نحو التفكير في ضرورة إيجاد مدارس نظامية في الكويت تكون كمؤسسات تعليمية تساهم في نشر التعليم المنهجي المنظم.
  • سعت مجموعة من العلماء ورجال الدين إلى تعليم أبناء الكويت في المساجد والكتاتيب المنتشرة، فساهموا في نشر العلم، وكان تأثيرهم في الدارسين والمتعلمين عميقًا.
  • كانت الكويت ملتقى العديد من أهل العلم والمعرفة من أمثال عبدالعزيز الثعالبي، ومحمد رشيد صاحب مجلة المنار، ومحمد الشنقيطي مؤسس مدرسة النجاة في الزبير، وكان لندوات هؤلاء العلماء ولقاءاتهم مع أهل الكويت أثر في زيادة اقتناع الكويتيين بأهمية وجود مدارس نظامية، تأخذ مهمة نشر التعليم ذي المناهج العلمية والخطط الحديثة، حيث لم تتوافر في الكتاتيب المنتشرة في الكويت الإمكانات التي تساهم في وضع مناهج وكتب حديثة، أو تعيين مدرسين جدد، الأمر الذي يمكّنها من تقديم مستوى عال من العلوم والمواد الدراسية، بل استمرت الكتاتيب بما تقدم من دروس لا تتعدى قراءة القرآن الكريم ومبادئ القراءة والكتابة والعد، وهذه لا تتلاءم مع طموحات المجتمع الكويتي وأهدافه التي تسعى إلى نشر مستوى متقدم من العلوم والمواد الحديثة، والتي أصبحت من متطلبات الحياة الاقتصادية والاجتماعية الجديدة.
  • أدى اتصال بعض الكويتيين من أهل الغوص والتجارة في أثناء أعمالهم التجارية «البرية والبحرية» بالشعوب المختلفة، إلى إدراكهم مدى الحاجة إلى مستوى متقدم من التعليم والمعرفة، يؤهلهم للتعامل مع تلك الشعوب التي سبقتهم في هذا المجال ويزوّدهم بمهارات وقدرات تفيدهم في أداء أعمالهم ومهنهم المختلفة، كما أدى النمو الاقتصادي الذي شهدته البلاد في مجال «التجارة والغوص والسفر» إلى حاجة البلاد من المتعلمين أو المتخرجين في مدارس نظامية بما لديهم من مهارات عالية في القراءة والكتابة والعمليات الحسابية وإتقان بعض اللغات الأجنبية، تلك المهارات التي لا يمكن أن تكتسب من خلال الكتاتيب المنتشرة آنذاك.
  • ظهور العديد من الوظائف والمهن الجديدة في البلاد التي تستدعي ضرورة التمكن من بعض القدرات أو المهارات التي تكتسب بتعليم نظامي له جميع المواصفات التي تحقق تلك الأهداف، كذلك ظهرت الحاجة إلى حملة بعض الشهادات الدراسية.

البداية في الديوانية

بدأت الحركة في ديوانية الشيخ يوسف بن عيسى القناعي يوم الاحتفال بالمولد النبوي في 12 من ربيع الأول عام 1328هـ (22 من مارس عام 1910م)، فقد تلا الشيخ محمد بن جنيدل قصة المولد الشريف بحسب قصة البرزنجي، وكان المجلس محتشدًا بالسامعين، ثم وقف السيد ياسين الطبطبائي 1277-1337هـ (1860-1918م)، فألقى كلمة قال فيها: «ماذا يفيدكم أيها السادة استماع القصة إن لم تقتدوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم. إن القصد من تلاوة المولد هو الاقتداء برسول الله، ولا نعرف سيرته حق المعرفة إلا بتعليمها، ولا نتعلمها إن لم يكن لنا مدارس ومتعلمون يفيدون النشء.. لابد من سراج يضيء طريقنا المظلم، ولا سراج كالعلم، ولا علم دون مدارس، فلنتعاون لنبعد عنا الأمية ونخلص أبناءنا من ظلام الجهل..».

وإذا كان السيد الطبطبائي قد أثر في السامعين تأثيرًا قويًا لأنهم يشاركونه الشعور بذلك، والحاجة إليه، فقد أثر في الشيخ يوسف القناعي أكثر، وظل يفكر في الطريقة التي يحقق بها هذه الأمنية، وكتب مذكرة بيّن فيها فضل العلم والتعليم، ومضار الجهل، وقيمة التعاون على هذا المشروع، وابتدأ التبرع بمبلغ خمسين روبية لم يكن يملكها حينئذ كما يقول، وإنما دفعها بعد أن يسرها الله، وقرأ هذه المذكرة على الشيخ سالم ابن أمير البلاد الشيخ مبارك، فرد أمر قبول الفكرة أو رفضها إلى الأمير. عند ذلك فكر الشيخ يوسف في الاستعانة مباشرة بالأهالي وشرع يعرض فكرته عليهم.

وما كان لهذه المذكرة أن تأخذ صداها في الناس لولا أنهم كانوا يشعرون في أعماقهم بأنها الحق، وأن التعاون التقليدي في هذا المجتمع يقضي بالاستجابة، لاسيما أن صاحب المذكرة بدأ بنفسه فتبرع بمبلغ كانوا يحسون بأنه يتجاوز طاقته، وحين فاتح الشيخ يوسف صديقه شملان بن علي بن سيف بن علي في ذلك طوى المذكرة وأخذها، ثم عاد إليه بعد زيارة لآل خالد بخمسة آلاف روبية. وتبرع شملان أيضًا بمثلها، وزادت التبرعات خمسة آلاف أخرى من هلال بن فجحان المطيري. وفضل الشيخ يوسف أن يشترك أكبر عدد من أهل الكويت في المشروع التقدمي ليشعروا بمساهمتهم فيه، وأنه منهم ولهم، فجرى اكتتاب كان من نتيجته أن اجتمع أيضًا له 12500 روبية، ولما لم يكن المبلغ كافيًا كتب بعض هؤلاء الوجهاء إلى بعض أثرياء الكويت في الهند من آل إبراهيم، فأتاهم من هناك 30 ألف روبية من قاسم الإبراهيم و20 ألفًا من ابن عمه عبدالرحمن، وتبرع آل خالد بمنزل قديم لهم في وسط الكويت ليكون الأرض التي تبنى عليها المدرسة، وأضيفت إليه بعض البيوت الأخرى. وقام البناء بإشراف الشيخ يوسف القناعي وبمساعدة آل خالد في تسعة أشهر، وكانت المدرسة من ثماني غرف، وأمامها باحة على شكل مربع، وكانت تكاليف ذلك لا تزيد على 16 ألف روبية، ولا نكاد نعرف في التاريخ الحديث بلدًا آخر سبقت عناية الأهالي فيه بالتعليم وفتح المدارس عناية الحكومة وتحملوا مسئولية ذلك سوى الكويت.

ويرجع الفضل في وجود هذه المدرسة بالدرجة الأولى إلى «عدد من الفضلاء في الكويت وهم الشيخ يوسف بن عيسى، والشيخ ناصر المبارك، والسيد ياسين الطبطبائي. فهؤلاء أول مَن حثّ على تأسيسها، وأول من دفع الناس إلى الإنفاق في سبيلها، كما كان لآل خالد وآل إبراهيم فضل كبير، فالأوائل تبرعوا لبناء المدرسة بالمال والأرض، وتطوّعوا لاستثمار أموالها من دون مقابل، وأما آل إبراهيم فقد كان لتبرعهم السخي بمبلغ خمسين ألف روبية - أي ما يعادل 80 في المائة من مجموع التبرعات جميعها - الفضل الأكبر، ولولا هذا الكرم التطوعي النبيل لكان مشروع المدرسة ووجودها وبناؤها قد تأخر كثيرًا.

المدرسة المباركية.. الشروع في العمل

بعد أن تم جمع التبرعات والحصول على أرض لتشييد أول مدرسة في الكويت، عين الشيخ يوسف بن عيسى تقديرًا لجهوده المثمرة مشرفًا على عملية البناء والتشييد، ويذكر الشيخ يوسف ما قام به في هذا الشأن حيث اشترى بيت سليمان العنزي وبيتًا آخر بقيمة زهيدة، كما ضم بيتًا ثالثًا كان موقوفًا تحت إشراف آل خالد، وينص وقفه على تقديم أضحيتين كل عام، فتعهدت سبيكة الخالد بتقديم أضحيتين كل سنة بحسب نص الوقف، فأصبح مجموع قيمة البيوت التي ألحقت ببيت آل خالد (4000 روبية).

يقول الشيخ: وشرعنا في البناء أول المحرم عام 1329هـ (الموافق يناير 1911م)، وانتهى في رمضان من السنة نفسها الموافق سبتمبر 1911م وبلغ مجموع ما صرف على الأبواب والأخشاب نحو 16.000 روبية. وقد تكون البناء من ست غرف، أربع منها في الجهة الجنوبية من جهة المدخل واثنتان في الجهة القبلية، وقد قسمت الغرفتان كل واحدة منهما إلى اثنتين، فكان المجموع 8 غرف. كما بنيت في الجهة الشرقية ثلاثة مخازن فوقها غرفة صغيرة، رفع سقفها عن مستوى سقف المدرسة قليلاً وكانت معدة لراحة المعلمين، أو لسكن الغريب والأعزب منهم، وقد شغل هذا البناء مربعًا من الأرض، طوله من الشرق إلى الغرب (120) قدمًا، وعرضه من الشمال إلى الجنوب (85) قدمًا أي بمساحة تبلغ حوالي 10200 قدم مربعة.

كما تم بناء بيت للمرافق بالإضافة إلى هذه الغرفة، وبيت سكنه السيد عمر عاصم وكيل المدرسة ثم مديرها فيما بعد، فصارت مساحة المرافق والغرفة الملحقة وبيت المدير كلها 120x35 قدمًا مربعة أي نحو ثلث مساحة بناء المدرسة بأكملها.

وبعد الانتهاء من جميع الإعدادات والترتيبات لافتتاح أول مدرسة نظامية في الكويت، سارع الأهالي والآباء إلى تسجيل أبنائهم بها، وقد بلغ مجموع الطلاب الأوائل الذين التحقوا بالمدرسة عند الافتتاح أكثر من (254 تلميذًا). وقد فتحت المدرسة أبوابها في أول يوم من المحرم 1330 هـ الموافق 22 من ديسمبر 1911م - وأطلق عليها اسم المدرسة المباركية «تيمنًا باسم أمير البلاد آنذاك الشيخ مبارك» - كما أقيم بهذه المناسبة حفل شائق ألقيت فيه العديد من الخطب والقصائد ابتهاجًا بهذا الحدث الكبير. وعيّن الشيخ يوسف بن عيسى مديرًا لها، كما شكّل لها مجلس مالي من ثلاثة أشخاص هم «حمد الخالد الخضير، وهو المسئول عن الصرف والإنفاق وشملان بن علي بن سيف وأحمد محمد صالح الحميضي».

وعلى هذا النحو ظهرت أول مدرسة نظامية في الكويت، شيّدت بأموال المواطنين وتبرعاتهم فكانت أهلية في تنفيذها وفي دعمها بالأموال وفي المشاركة في عمليات التأسيس والبناء، ويتضح لنا من هذه الصورة المشرفة اهتمام الأهالي وحرصهم على إيجاد مؤسسة تعليمية نظامية تخدم أبناء الكويت، ومشاركتهم في القيام بهذا الدور الإيجابي في تاريخ التعليم في الكويت.

المدرسة المباركية.. خطة الدراسة والمنهج

حرص الرواد الأوائل الذين أسسوا المدرسة المباركية على وضع خطة مطوّرة للدراسة بها تختلف عمّا هو متبع في الكتاتيب، بحيث تكون أكثر تنظيمًا ومنهجية، وكان من أهم أهداف الخطة ما يلي:

1 - التمكن من القراءة والكتابة وقواعد اللغة العربية.

2 - حفظ بعض الآيات من القرآن الكريم والتعرف على تعاليم الدين الحنيف.

3 - التركيز على السيرة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين.

وقد سايرت هذه الأهداف ظروف الحياة التي كان الكويتيون يعيشونها آنذاك، فلم تكن الأمور الحياتية تتطلب منهم أكثر من ذلك، كما أن الإمكانات المالية والفنية لم تكن تسمح بأكثر من هذا.

وفي ضوء الأهداف السابقة تم وضع منهج دراسي يحتوي على المواد التالية:

1 - التربية الإسلامية: وتشمل القرآن الكريم والتفسير والفقه والفرائض.

2 - اللغة العربية: وتشمل الإنشاء والمحفوظات والقواعد والإملاء والخط.

3 - الرياضيات: وتشمل الحساب الذي يتكون من حساب الغوص وحساب الجص، وحساب الدهن، بالإضافة إلى العمليات الأربع، كما درست مادة الهندسة أيضًا.

4 - التاريخ الإسلامي.

5 - مبادئ الجغرافيا.

وقد استمد المنهج الدراسي المتبع في المدرسة المباركية أهدافه ومادته الدراسية من حاجات المجتمع الكويتي، فقد ارتبط التعليم بظروف المجتمع ومطالبه، ويتضح هذا من المواد الدراسية التي يحتويها المنهج الدراسي، فالمجتمع الكويتي مجتمع إسلامي يحافظ على تعاليم دينه الحنيف، لهذا حرص المسئولون عن التعليم على إعطاء مزيد من الاهتمام بالتربية الإسلامية واللغة العربية وقواعدها، لكي يسهل على التلاميذ فهم القرآن الكريم وتعرُّف معانيه وإدراك وجوه الإعجاز به. أما اللغة العربية فإن إتقان المهارات الأربع «القراءة، والكتابة، والتحدث، والاستماع» وكذلك التمكن من قواعد اللغة ومفرداتها كان من الأهداف الرئيسة، والآمال التي سعى المجتمع الكويتي في السابق إلى تحقيقها. أما فيما يتعلق بالتاريخ الإسلامي، فلقد كان الاهتمام منصبًا حول تعرّف سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين، والاطلاع على حياة أبطال التاريخ الإسلامي والعربي ومراحل تطور الدولة الإسلامية.

أما الجغرافيا فقد احتوى منهجها على بعض المعلومات الجغرافية عن مختلف الأقطار المجاورة، التي كان الكويتيون في أمس الحاجة إليها نظرًا للارتباط القوي بينها وبين الحرف البحرية التي يمارسونها، والتي تعتمد حياتهم عليها، وقد كان لمنهج الحساب أهميته القصوى لارتباطه بحسابات الغوص والسفر وتوزيع الأنصبة على العاملين فيهما، وكذلك العمليات الحسابية التي يحتاج إليها الكويتي في عمله وتجارته. فقد كان للكويتيين طريقة خاصة في كتابة الكسور الحسابية يتعلمونها لحاجتهم إليها في حساب أرباحهم وخسارتهم.

وكانت الدراسة في المدرسة المباركية مستمرة كما في الكتاتيب طوال العام، فلا عطلة صيفية، ولا راحة للطلاب الذين يداومون قبل الظهر وبعده في يوم دراسي كامل ذي خمسة دروس، ثلاثة منها قبل الظهر، واثنان بعد الظهر، إلا أن عادات المجتمع الكويتي فرضت منذ ظهرت المباركية فرصة في مطلع الربيع هي «الكشتة» أو النزهة للتمتع بالربيع كعادة أهل البلاد، وتستمر أسبوعين تنصب فيها الخيام في الخلاء المخضر. بالإضافة إلى أيام الجمع، والعيدين، ويوم المولد، ويوم المعراج، والنصف من شعبان، ويوم القفال وهو عودة سفن الغوص «أواخر سبتمبر» في احتفال كبير، أو بعض المناسبات كيوم شديد المطر، أو زيارة بعض ذوي الشأن للكويت، أو عيد الجلوس، أو جائحة من مرض، أو وفاة كبير، أو عودة من الحج أو من سفر طويل، على أن أعداد الطلبة كانت تنقص أيام الغوص لغيابهم مع آبائهم، ثم يعودون بعدها لمتابعة الدراسة من دون حرج، ويغيب بعضهم مدة بعد عطلة الربيع لأن أهاليهم يتأخرون في العودة إلى المدينة من منتجعاتهم.

قضت مدرسة المباركية عمرًا طويلاً وهي عماد الحركة التعليمية، ومرت عليها أزمات عدة وتبدلات شتى خلال هذا العمر قبل أن ينقض بنيانها ثم يبنى غيره، وتتغير طبيعة تدريسها وتصبح أشبه بالمدارس المتوسطة. ولكنها تذكر دومًا لا على أنها المدرسة الأولى في الكويت فقط، ولكن على أنها سبقت المدارس الأخرى بعدد من الخطط والمناهج التربوية والتعليمية أيضًا.

«وفي هذا الدور أيضًا صار تعليم القراءة والكتابة متلازمًا لكل تلميذ منذ دخوله المدرسة، وكان من قبل يقرأ أولاً، فإذا ختم القرآن وأعاد قراءته وأراد له أبوه أن يكتب كتب».

المدرسة المباركية.. الإدارة والمدرسون

بعد افتتاح المدرسة المباركية، عيّن الشيخ يوسف بن عيسى مديرًا لها، وسارت المدرسة بإدارته مدة ثلاث سنوات، وفي السنة الرابعة تم تعيين الشيخ يوسف بن حمود مدرسًا ومديرًا في المدرسة، ولكنه لم يستمر مدة طويلة، فجاء بعده السيد عمر عاصم، وكان له فضل كبير في تغيير منهج التعليم، ثم عيّن الشيخ عبدالعزيز الرشيد، وأعيد السيد عمر عاصم مرة أخرى إلى وكالة المدرسة فإدارتها، ثم لم يلبث في عام 1926 أن اختير السيد محمد خراشي المنفلوطي مديرًا لها.

أما عن هيئة التدريس في المدرسة المباركية فقد ضمت كلاً من:

الشيخ حافظ وهبة المصري، عبدالملك الصالح المبيض، الشيخ محمود الهيتي، الشيخ محمد بن نوري، الشيخ نجم الدين الهندي، الشيخ عبدالقادر البغدادي، الشيخ عبدالعزيز الرشيد، السيد عمر عاصم، ويوسف بن حمود.

كما ضمت كلا من:

الشيخ عبدالعزيز بن حمد المبارك الأحسائي، الشيخ أحمد بن خميس الخلف، أحمد السيد عمر، محمد أحمد الحرمي، محمد الوهيب، جمعة بن حودر، خليفة بن خميس، عبدالرحمن الدعيج، يوسف العمر، عبدالله عبداللطيف العمر، عبدالعزيز العتيقي، عبدالمحسن بن بحر، عبدالعزيز الفارس، عثمان عبداللطيف العثمان، محمد الإسماعيل، سالم الحسينان، عبدالله محمد النوري، محمد زكريا الأنصاري، عيسى مطر، محمد الشايجي، إدريس جاسم إدريس، محمد بن شطره، سعد المجرن، وحجي جاسم بن حجي.

لم تختلف أساليب التعليم في المدرسة المباركية عنها في الكتاتيب، وكان من أهم صفات المعلم الصرامة والشدة في معاملة التلاميذ، وتختلف أعداد الطلبة المسجلين طوال السنة ما بين (160و400) طالب في السنة الدراسية نفسها. وعملية تحصيل الأموال لم تكن تعتمد في الدرجة الأولى على أعداد الطلبة الذين يسجلون للدراسة، ولكن على قدرتهم المالية في دفع الرسوم المستحقة، ومدى انتظامهم في المدرسة، وفي هذا المبدأ اختلفت «المباركية» عن جميع الكتاتيب والمدارس التي سبقت وجودها، فألغت جميع بنود عمليات التمويل فيها عدا رسم الالتحاق، أما مصروفات المدرسة المباركية، فكانت بصورة أساسية هي رواتب المدرسين، وبعض الحاجات الأخرى من كتب ولوازم ومعدات للتدريس، وكان مدير المدرسة يتقاضى حوالي مائة روبية، وهو أعلى راتب، فيما تراوحت رواتب المعلمين ما بين عشرين ومائة روبية.

وقد تدهورت أحوال المدرسة المباركية وهبطت مواردها المالية تدريجيًا ولم تعد بالمستوى الذي بدأت به بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وعلى الرغم من إنشاء المدرسة الأحمدية عام 1340هـ (1921م) لإنقاذ العملية التعليمية، إلا أنها لم تلغ المباركية، إلى أن جاءت أزمة اللؤلؤ والأزمة الاقتصادية العالمية عامي 1347-1348 هـ (1928-1929م) وما بعدهما متزامنتين مع أزمة المسابلة مع نجد، فأوصلت المباركية مع الأحمدية إلى حالة من الركود لعدم توافر الموارد المالية، وأغلقت المباركية أبوابها مدة شهرين قبل أن يتداركها مجلس المعارف عام 1936م بالإنقاذ، فدخلت المباركية عهدًا جديدًا في إثر ذلك، حيث أصبحت حكومة رسمية بعد أن كانت أهلية، وبدأت بها انطلاقة جديدة في التعليم والمناهج والسلم التعليمي والأنشطة.

«وتغيرت معالم المباركية من حيث الشكل والبناء، فأضيفت إليها ساحات وتغيرت فيها رسوم حتى صارت كما كانت قبل بنائها الحديث. ثم أنشئ مبنى حديث لها عام 1378هـ (1958م) على طراز نموذجي تتوافر فيه كل الاحتياجات التربوية التي يحتاج إليها المعلمون والمتعلمون، والتي تتناسب مع التطور الحضاري، وقد استمرت في العمل التدريسي حتى تقرر أن تكون مقرًا للمكتبة المركزية في الكويت سنة 1407هـ (1985م).
----------------------------------------
* بتصرف عن موسوعة تاريخ التعليم في دولة الكويت، بإشراف وزارة التربية ومؤسسة الكويت للتقدم العلمي، إصدار مركز البحوث والدراسات الكويتية.