ملف مئوية.. نجيب محفوظ: ألف.. باء.. نجيب محفوظ: د. داليا توفيق سعودي

ملف مئوية.. نجيب محفوظ: ألف.. باء.. نجيب محفوظ: د. داليا توفيق سعودي

.. ولما كانت آفة حارتنا النسيان، وكانت «قوة الذاكرة تنجلي في التذكر كما تنجلي في النسيان»، طُرحت أبجدية بأسباب التذكر.بضع شذرات متناثرات.. لا تدعي تمام الإحاطة.. نسأل العفو عما شابها من تنافر ومن نقصان.

  • (أ) أديب

أديب من القطع الكبير.. في عيني النسر المحلق فوق بلاد الأدب البعيدة، الكائنة قرب موضع القلب من الضمير الإنساني، يتبدى ترامي حدود منجزه الرائد، المنبسط وحده على امتداد قارة فردوسية رابية، هي بتضاريس مصر وتاريخها أشبه، وإن كان فيها يُستقطر رحيق الوجود، وحكمة الأيام، ومآل الإنسان. أما على الأرض، فستلزمك أعوامٌ كيما تتفقد كامل المنجز، بنفائسه الخالدة، وشخوصه المصطخبة، وبالطبع معماره المتقن. فعلى نقيض كل من عُرفوا بغزارة الإنتاج، لا تشوب أديبنا نقيصةُ التهافت على الكم دون الكيف. فأدبه ليس بذلك الأدب الاستهلاكي المنتفخ بالغثاء. إذ تراه لا يثرثر من كان مثله عليمًا بحقيقة الزمن. فإن أردت معرفة قدره، فما عليك سوى أن تطبق عليه معيار «فرديناند برونتيير»Ferdinand Brunetière، فتتساءل: كيف كان سيبدو وجه إبداعنا العربي لو ما كان نجيب محفوظ؟!

  • (ب) بدايات

كان على بينة بمقتضيات المهمة. سينبذ النزعة الغنائية الطاغية على الأجواء، فهي قد تصنع شاعرًا فذًا يقتات فنه على زاد الذات، أما الرواية فهي شأن آخر. سيمضي مدرعًا بدراسة فلسفية، واطلاع على التراث، وتشوق للعلم، واستعداد فطري لرسم طرائق منطقية تروض وثبات الخيال. سيكون هو الكاتب المصري الجديد، وسيدون برديات العصر الحديث، لكنه سيبدأ بثلاثية الفرعونيات، ليسجل انحيازه المبدئي لبطولة الشعب لا لعظمة المليك، وليساير مدًا فرعونيًا انطلق عبقه منذ انفتحت مقبرة توت عنخ آمون وازدانت قاعة البرلمان بزخارف أزهار اللوتس ومشاهد المجد القديم. بعدها سيثوب إلى الحاضر، ليرسم خمس لوحات من الفن الواقعي الخالص، سيمرن يده فيها على انتقاء اللون وبسط الظلال ورسم الوجوه وإحياء الخلفية واستنطاق الحجر، تمهيدًا لإنجاز جداريته الأضخم: «الثلاثية».

  • (ت) تحدي

كان العام 1945، والشعر لايزال مستويًا على عرشه، وعلى رأسه التاج السلطاني، والعقاد في أوج مجده، راح يحط من شأن الرواية: هي كالخروب قال. قنطار خشب ودرهم حلاوة. تناسب بانحطاطها ذائقة العامة. أما الشعر، ذلك الفن الرفيع الذي لا يدانى، فلا يحصِّل ذوقه سوى نخبة النخبة من المثقفين. فما كان رد القاص الشاب نجيب محفوظ إلا أن دحض بشجاعة هذا المعيار الطبقي في تقييم الأدب، رافضًا تصنيم الشعر، كاتبًا أن الفنونَ سواسيةٌ من حيث المبدأ. هكذا، بمجيء محفوظ، شهد الأدب العربي اتجاهًا نحو التحول الديمقراطي!

  • (ث) ثورة

في عتو الشيخوخة، مازالت عيناه العليلتان تفيضان بالدمع حين يذكر رحيل زعيم الأمة، «لقد كان سعد باشا أبا الأمة بشيبته المهيبة»، «كان المدرسة التي تعلمنا فيها كيف نحب مصر». وكأن الطفل الذي شاهد من خصاص المشربية جموع الشعب المصري وهي تتدفق تحت البيارق الخضراء هاتفةً بعودة سعد زغلول لم يكبر قط، أو كأن أديبنا يكابد مع الذكرى ألم تبدد حلم الوطن في الانعتاق إثر فشل ثورة 1919. هكذا تتبدى فكرة الثورة المجهضة كنغمة أثيرة لديه، تتجاوب أصداؤها في استشهاد فهمي عبدالجواد المجاني في نهاية «بين القصرين»، وفي مأزق عيسى الدباغ الوجودي في «السمان والخريف»، وفي تبدد ثورات جبل ورفاعة وقاسم في «أولاد حارتنا»، وفي إخفاق انتفاضة الجياع في «الحرافيش»، وفي فشل ثورة إخناتون في «العائش في الحقيقة»، وفي عزلة عامر وجدي الوفدي الآسف على فردوسه المفقود في «ميرامار». ولسان حال تلك الأيام الدول: «هبوط.. صعود، موت.. بعث، مدني.. عسكري.. فلتسر الدنيا في طريقها»، كما قال سقراط «المرايا» إبراهيم عقل في ساحة مسجد الحسين.

  • (ج) جبلاوي

سيقت القصة في القرآن الكريم لأغراض دينية بحتة، فهي مقيدة بخدمة غرض دعوي وليست طليقة كما هو شأن القصة الفنية الحرة. ولما وازى محفوظ بين المقيد والطليق في «أولاد حارتنا»، إنما كان يطمح، في نوبة من نوبات جسارته الرؤيوية، إلى إضفاء غطاء كوني على الواقع الاجتماعي المحكي، السابح في خضم حلم كبير بالعدالة، وبحث فلسفي دائب عن أسباب إقامتها: أهي القوة، أم الحب، أم العلم؟ بيد أن أديبنا- بدافع من حسن الطوية الناصعة - لم يحسب في هذه المغامرة التجريبية الهائلة حساب سطوة القصة المقيدة، ومبلغ سلطان السياق المقدس الذي تستصحبه بالضرورة لاستحالة انفصالها عنه. ومن ناحيته، كان القارئ العادي، الحديث العهد بالنسق الروائي، والمنتمي لذهنية باتت تنبذ «الأيقنة» وتحرمها، قد هاله أن يجد القصة ذاتها التي كان القرآن الكريم قد قدمها في لغة شاعرية نورانية مكثفة، وقد أعيدت على مسامعه في لغة ذات مخالب حسية، يختلط فيها الطين والعرق والدم. هكذا، ما كان من المستعار منه (المقدس) إلا أن أطبق على المستعار له (الروائي)، ليتوارى الهمّ الاجتماعي الذي شغل الكاتب خلف الغطاء الديني، الذي تبين مدى ثبات استحكامه مع الأيام. وقد زاد من وطأة هذه البلبلة الهرمينوطيقية ما كان من مسلك نقاد الرواية المدافعين عنها، الذين راحوا يكرسون تفاسيرهم الفلسفية لمزيد من الربط بين الصورة الروائية والأصل المقدس. ومن ثم، تحت وابل الطلقات، بدلًا من طرح الأسئلة الفنية والفكرية، راح الجميع - مريدون ومبغضون - يفتشون بمنقاب في ضمير الرجل عن دلائل البراءة أو الإدانة. أما السلطة السياسية، المتمثلة في فتوات عصر الثورة، فقد أدركت أنها المعنية بالاستعارة، لذا ارتأت أن تتم طباعة الرواية في الخارج. إذ يظل نشدان العدالة أمرًا محمودًا ما دام بعيدًا عن الديار، أما في الداخل فهو هوسٌ وكفر وإلحاد.

  • (ح) حرافيش

لوحات هي أشبه بمنمنمات «بهزاد». فيها من عِبر الأجيال وعجائب المصائر ما يُقر في القلب فضيلة الشجاعة، وفي العقل فضيلة الحكمة، وفي الحس فضيلة الاعتدال. البحث فيها يتواصل عن حلم العدالة، منتهيًا إلى أنها كامنة في حكم الشعب بواسطة الشعب. ولعلها الرواية المتممة لـ«أولاد حارتنا». فهذه الأناشيد الفارسية المنبعثة في جنباتها من التكية هي استرجاع منغم لتلك النقوش الفارسية على السجادة في البيت الكبير. وفي تقسيم الرواية إلى عشرة فصول ما يُذكر بشروط الوقف العشرة، وكأننا بصدد استعارة تمثيلية ضخمة للوصايا العشر. لكن ميزة الحرافيش الكبرى هي تلك اللغة البلورية المكثفة التي اهتدى إليها محفوظ في لحظة من لحظات احتداد البصيرة. لغة ملحمية النبرات، تضيق فيها العبارة إفساحًا لاتساع الرؤية، ويُعتمد فيها التخييل والتجسيم دعامةً للسرد، ويسودها التناسق الفني الدقيق، كأنه موزون بميزان. نعم، هي روح الشعر ولبابه كما وُصفت، لكنها في باطن الأمر استلهام لجماليات التصوير الفني في القرآن الكريم...

لغويًا، الفرق بين «أولاد حارتنا» و«الحرافيش» في تعاملهما مع النص المقدس هو الفرق بين التعالق مع النص واستلهام روح النص.

  • (خ) خلافة

طوال قرون، بقي التأمل الفلسفي الإسلامي حكرًا على ميدان الفكر دون أن يمتد لميدان الفن. لكن أعمال نجيب محفوظ مثلت إجابة إبداعية فنية على أهم التساؤلات الفلسفية الكبرى. ولعل من أبرز تلك الأسئلة ما يتعلق بوظيفة الإنسان كخليفة لله على الأرض. وفي رواية «حضرة المحترم»، نتبين على لسان البطل وصفًا لمهام الوظيفة، ولمسوغات التعيين: «الوظيفة في تاريخ مصر مؤسسة مقدسة كالمعبد. الوظيفة خدمة للناس وحق للكفاءة وواجب للضمير الحي وكبرياء للذات البشرية وعبادة الله خالق الكفاءة والضمير والكبرياء». ثم إذا به يردف مفسرًا: «الوظيفة حجر في بناء الدولة، والدولة نفحة من روح الله مجسدة على الأرض!» وفي منتهى العمر، في «أصداء السيرة الذاتية»، يتجلى صوت الشيخ عبدربه التائه ناصحًا: «افعل ما تشاء بشرط ألا تنسى وظيفتك الأساسية وهي الخلافة».

  • (د) ديكتاتور

يتراءى السيد أحمد عبدالجواد في «الثلاثية» كأنموذج مكتمل للأوتوقراطية المستبدة، لكننا لو أبقينا على ملامحه الإنسانية، وأعرضنا عن استخلاص الرمز القابع بداخله، وقرأناه في ضوء أحداث ثورة الخامس والعشرين من يناير، لأمكننا أن نجد فيه أيضًا من طبائع المنتمين إلى الفئة المتعارف على تسميتها إعلاميًا بـ«حزب الكنبة»:

«الثورة وأعمالها فضائل لا شك فيها ما دامت بعيدة عن بيته.. فإذا طرقت بابه، وإذا هددت أمنه وسلامة حياة أبنائه، تغير طعمها ولونها ومغزاها، انقلبت هوسًا وجنونًا وعقوقا وقلة أدب، إنه يترحم ليل نهار على الشهداء ويعجب كل الإعجاب بالشجاعة التي يتذرع بها آلهم فيما يروي الرواة، ولكنه لن يسمح لابن من أبنائه بأن ينضم إلى الشهداء ولا تطيب نفسه بهذه الشجاعة التي يتذرع بها آلهم!» (بين القصرين، ص. 483-484).

  • (ذ) ذكرى

وتوالت دقات العجن في حجرة الفرن، في بيت السيد أحمد عبدالجواد، مذكرةً بضربات القدر. وها هي «الست أمينة»، أم الشهيد «فهمي» ما فتئت تذكره. ترى، كم من أمهات الشهداء في وطننا العربي يرددن اليوم ما فاض به وعيها:

«شباب العمر الذي حُرمتْ من احتضان ينعه، من قسمة التراب كان، يا انصداع القلب الذي يسمونه حسرة.. سلي الزعم الذي زعم بأنكِ لن تعيشي بعده يوما واحدا، عشتِ لتحلفي بتربته.. حمل وولادة ورضاعة وحب وآمال ثم لاشيء.. مهلًا، الإيمان والصبر، سلمي إلى الله، فكل ما جاء من عنده، أم «فهمي» إلى الأبد، سوف أظل أمك ما حييت يا بني وتظل ابني». (قصر الشوق، ص. 12-13).

  • (ر) رسالة

في رسالة إلى المفكر الإسلامي سيد قطب، نشرها محفوظ عام 1945 في مجلة الرسالة، يقدم الأديب قراءة لكتاب ناقده المحبوب «التصوير الفني في القرآن الكريم»، يتوقف فيها بكثير من إعجاب المحب وإجلال العارف أمام المفاهيم الإبداعية في القرآن، كما أبان عنها قطب في دراسته التطبيقية: من تصوير قصصي، وتخييل للحالات النفسية، وتجسيم للمعاني الذهنية، وتناسق فني فائق. وفي النهاية يوجه محفوظ إلى قطب سؤالًا مهمًا، كاتبًا: «تحدثت عن التصوير والتخييل والتجسيم والتنسيق الفني، وكل أولئك روح الشعر ولبابه قبل أي شيء آخر؛ أفلم يخطر لك أن تحدد نوع كلام القرآن على ضوء بحثك هذا؟».

ثم رحل سيد قطب، وبقي السؤال في حافظة محفوظ، يزيد فيه من دافعية التأمل والتجريب.

  • (ز) زعبلاوي

وفق طائفة من النقاد، الأقصوصة عند محفوظ هي بقايا أناس وأحداث وأفكار سقطت من أعمال روائية سابقة «كبقايا العجين يساقط من يد صانع الفطائر، أو بقايا الطين من صانع الخزف». ووفق طائفة أخرى، ما الأقصوصة إلا استعداد لوثبة أبعد، وهي بهذا المعنى «اسكتشات أو رسوم تخطيطية» لأعمال روائية مقبلة. وبذلك يمكن النظر إلى حكاية الشيخ «زعبلاوي» في «دنيا الله» على أنها بقايا من تجليات «الجبلاوي»، بمثل ما هي أيضًا إرهاص ذو نبرة صوفية لرحلة «صابر الرحيمي» الميتافيزيقية بحثًا عن أبيه، أو «رحلة ابن فطومة» الفلسفية بحثًا عن الدواء الشافي لأمته. هي توق الروح السقيمة لمقام الوصل، ونهل العاشق من المدامة منشدًا من أشعار جلال الدين الرومي:

«إن تكن تبحث عن مسكن الروح.. فأنت روح
وإن تكن تفتش عن قطعة خبز.. فأنت خبز
وإن تستطع إدراك تلك الفكرة الدقيقة.. فسوف تفهم:
أن كل ما تبحث عنه هو أنت».

  • (س) سينما

ولد فن الرواية في اللحظة التي قرر فيها الكاتب ألا يكتفي بالـ«حدوتة» التي قام عليها فن القص منذ فجر التاريخ. فراح ينسج من حولها نسيجًا باذخًا من تفريعات موضوعية ووصفية وتأملية. ثم جعل ينظم مادته المركبة في بنية معمارية تتبدل وفقًا للموضوع. وهو ما يهب كل رواية جمالها الخاص وفرادتها الأسلوبية. فما الذي تفعله السينما؟ إنها تعيد استخلاص «الحدوتة» فتنتزعها من صلب الرواية، وتستأصل منها كل ما كانت تستصحبه من نسيج متشابك، هادمةً المعمار السري الذي ارتآه الكاتب، لتقدم ما استخلصته من ذُبالة شاحبة عبر وسيط آخر ووجهة نظر مغايرة بحسابات يحكمها شباك التذاكر. الفيلم إذن يقتل الرواية، لذلك حين يعرض التلفاز فيلمًا «مأخوذًا» عن رواية لمحفوظ، أكاد أقرأ في مقدمته سطورًا تقول ناعيةً: هنا ترقد بسلام رواية الأديب العالمي التي كانت.. فيتسرب إلى وجداني صوت كمال عبد الجواد صبيًا وهو يغني: «زوروني كل سنة مرة...» وأجدني أهتف من القلب: وحدووووه!

  • (ش) شمس

عند نقطة ما، كسر نجيب محفوظ القالب الشكلي الذي كان يُلزم به روايته. كسره عن عمد، بعد أن ضاق بالنسق الأوربي المستجلَب، معلنًا الثورة على التقليد. يلفتني الشكل الدوراني في الحرافيش، المتناغم بعمق مع مضمون تلك الحدوتة المتواترة على وقع تعاقب الليل والنهار. وكأن البنية العامة للرواية ما هي إلا رقصة مولوية كبرى، أو كأن فصولها العشرة هم عشرة دراويش منهمكين في الدوران التأملي في ساحة التكية، كما الكواكب حول الشمس. رواية أخرى تتخذ بنيتها شكل الشمس، هي رواية ميرامار، تلك الرواية السكندرية المطلة على مجتمع ما بعد الثورة الخارج من كهف أفلاطون. فكل غرفة من غرف البنسيون تفتح على قصة، وكل قصة نافذة على الحياة، وفي المنتصف تقف زهرة، التي يشبهها محفوظ غير ذات مرة بالشمس، الأمل البازغ في وطنٍ أكثر إشراقًا.

  • (ص) صمت

«... وماذا بعدُ يا نجيب؟» لعله تساءل وهو لم يكد يفرغ من الثلاثية، بإلحاح إسكندر أكبر يراكم الفتوحات. «ماذا بعد هذا العمل الروائي الهرقلي؟» فكانت فترة صمت طويلة. غشيتها مظنةُ أن المعين قد نضب. ثم إذا بدبيب عمالقة واصتكاك نبابيت، تؤذن بميلاد «أولاد حارتنا». ثمة ضجة تترامى، سيتجاهلها. وعاصفة تهب. سينحني أمامها.سيكون صمته السمح لحظتئذٍ فسحةً للتأمل وفرصةً للمراجعة واحترازًا من الاشتباك. بعدها سيستمر جريان النهر فياضًا بالعطاء، سخيًا بالبهاء، متجددًا في كل موسم، متفردًا بالقمة في النعيم وفي الشقاء. فبمثل ما سيعرف مجد نوبل، سيجرب ألم السكين الجهول الثلم إذا ما نفذ في الأعناق. بعدها لن يصمت مستسلمًا، بل سيسمعنا سلاف الحكمة، منتخبًا من سيرته جوهر أصداء الذات، ومن سكنته الأخيرة أجلى أحلام المساء.

  • (ض) ضاد

مثل كراتيل، الذي رأى أن اللغة سابقة على الفكر، فطن محفوظ مبكرًا إلى سحر الكلمة، لكونها عماد المفكر ومتكأ الأديب. أما التزامه، في جميع أطوار أعماله الأدبية باللغة العربية الفصحى دون العامية فيعكس مستوى أرقى من الفطنة، قوامها الوعي بمرتكزات الهوية الثقافية العربية في تصديها لتحديات الفكر الغربي الاستعماري. وفي وقت اشتدت فيه دعاوى المستشرقين لإحلال العامية محل الفصحى، وتبعهم في ذلك مثقفون زرع فيهم المستعمر قبل رحيله بذرة الوعي الكولونيالي السالب، تمسك محفوظ باختياره العروبي لمصلحة الفصحى، مشيرًا إلى أن اللهجة العامية «مرض» اجتماعي، ستبرأ منه الأمة متى ما نهض التعليم. فالقومية العربية بالنسبة لمحفوظ لم تكن يومًا عرقًا أو عصبية، بل كانت انتماء حضاريًا وروحيًا يرتهن بالتمكن من اللغة العربية الفصيحة، القابلة لأعلى مستويات التطويع.

  • (ط) طوق نجاة

ولم يحُل اعتزاز محفوظ بالهوية العربية دون إيمانه بوحدة البشرية وبكونية الإنسان:

«اقتنعت في النهاية بأنه لا نجاة للجنس البشري إلا بالقضاء على قوى الاستغلال التي تستخدم أسمى ما وصل إليه فكر الإنسان في استعباد الإنسان(..). وذلك كخطوة أولى لجمع العالم في وحدة بشرية، تستهدف خيرها معتمدة على الحكمة، العلم. فتعيد تربية الإنسان باعتباره مواطنا في كون واحد، وتهيئ لجسمه السلامة والقوة الخلاقة الانطلاق ليحقق ذاته ويبدع قيمه ويمضي بكل شجاعة نحو قلب الحقيقة الكامنة في ذلك الكون الباهر الغامض». (المرايا، ص. 58)

  • (ظ) ظلم

في منظومة فكرية نمطية تنبذ التعددية وتنظر للآخر بكثير من الارتياب، مثَّل النص المحفوظي تحديًا مقلقًا للنقد الأدبي. هكذا اتصفت كثير من محاولات المقاربة والتصنيف والتأويل بالاعتساف المستبد. فمن النقاد من بحث عن نفسه في النص، بدلًا من التحاور نقديًا مع مقوماته الإبداعية الداخلية. ومن لم يكن يرى منهم في النص مرآة لمذهبه الأيديولوجي أو السياسي أو الديني، كان يستبيح دم الرواية! فاستباحة الدم، في ثقافتنا أيسر الحلول وأكثرها اتساقًا مع تكويننا المعرفي.

  • (ع) عرفة.. عفرة..

مثل أفلاطون، فرَّق محفوظ بين المعرفة والإدراك تفريقه بين الظاهر والباطن، وربطهما بنظرية الأخلاق.

فالفكرة الأسمى لديه هي فكرة الخير. يعدها أساس المعرفة، ومبدأ الحقيقة، ومنبع العقل. فالمعرفة المجردة من القيمة تهوي بأبطاله إلى الرذائل. والمعرفة الحسية لا تكتمل عنده بغير الإدراك الباطني. وإن كان الإدراك خليقًا بأن يسد مسد المعرفة في بعض الأحوال. وها هو «عرفة»، رمز المعرفة العقلية الخالصة في «أولاد حارتنا»، الموصوف مرارًا بأنه «حاد البصر»، ينتهي علمه كأداة رخيصة في يد السلطة الغاشمة لاستذلال أهل الحارة. وعلى النقيض، يجسد الشيخ «عفرة» الأعمى، في مستهل «ملحمة الحرافيش»، فكرة إحلال البصيرة محل البصر. فـ«مولاي يعرف مواقعه بالرائحة وحساب الخطوات ودرجة وضوح الأناشيد والإلهام الباطني». وكأننا بصدد منطق كشفي يعلي من علوم الذوق على حساب علوم النظر بما يتفق مع الروح الأسطورية العامة لرواية الحرافيش. هكذا، سيسعى «عفرة» إلى تنشئة عاشور، استنادًا إلى قيم تناقض تلك التي أدت إلى سقوط «عرفة»، ناصحًا الصبي مرارًا: «لتكن قوتك في خدمة الناس لا في خدمة الشيطان».

فما أشد التنائي بين «عرفة» و«عفرة»، ولعله سر الجناس المبثوث بين اسميهما.

  • (غ) غواية

لم يقطع هوميروس برأي في هيلانة الطروادية. هي بالنسبة له ذلك «الوجه البديع الذي دفع بألف سفينة إلى الحرب». فشاعر «الإلياذة» لا يساءل الغواية بقدر ما يرصد نتائجها المأسوية. أما محفوظ، إذ يقدم في «الحرافيش» شخصية زهيرة، الدافعة بالرجال إلى مصارعهم، فهو يدينها في تهامس أهل الحارة من دون أن يقدم فنًا وعظيًا. وإذ يفرد لها نهاية مروعة، نجده، في حرصه على هذا المنحى الأخلاقي الثابت في أدبه، أقرب إلى آباء التراجيديا الإغريقية. لكن الغواية في أدب محفوظ، ليست محض جبرية خارجية كما تناولها الفلاسفة منذ أوغسطين حتى بول ريكور، إنما مناطها بالأساس هوى النفس وضعف الباطن أمام الشهوات، و«تلك الشياطين المستترة في أعماقكم» كما صاح جبل بأصحابه حين استهوتهم الفتونة. لذا، لم يستقم الحال لعاشور الحفيد، سيد الحرافيش، إلا حين هزم الصبوات الكامنة في أعماق خواطره. ولما اعتنقت نفسه الفضائل، «تم له أعظم نصر. وهو نصره على نفسه».

  • (ف) فاطمة

مباركة أنت أيتها الأم التي أمسكت بيد الصبي وطافت من ميدان بيت القاضي بالجمالية، حتى أقصى أرباض المدينة حيث الأهرامات وأبو الهول.. على وقع خطوات الزمان وخطوتِ مع الغلام في الأمكنة العتيقة. غذاء العباقرة في طفولتهم دفء وخبز وتجوال.. فمن زيارة أولياء ومساجد وأديرة ومعابد إلى مراقبةٍ للنيل في الفيضان وفي التحاريق وإنصات خاشع لأسرار الخلود والفناء في قاعة المومياوات بدار الآثار.. غذاء العباقرة معاينة وإصغاء وسعي على القدمين لا ينتهي، وطموح مترع بماء الحياة وفضول صاعد لعنان السماء، وخيال قابض على شعاع الشمس. ومشي ومشي ومشي. مباركة أنت أيتها الأم التي صنعت لنا أطول المشائين نفسًا.. وأنجب الرحالة قدرًا.

  • (ق) قمر

وقد يسافر الخيال النجيب بعيدًا لاقتطاف رموزه من السماء...

في ليلة حزينة، يختفي عاشور الناجي، حامي الحرافيش وفتوتهم، ومؤصل دولة العدل في حارتهم، فيجدّ في البحث عنه عند بزوغ الفجر ابنه شمس الدين، فنقرأ- في معرض التمهيد لهذا الأفول المهيب - هذه العبارات الثلاث، التي تجدر قراءتها بصوت مسموع، استجابةً لمسعى ميخائيل باختين لإشراك الأذن في عملية الكشف عن الاستعارة:

«.. وانتشرت سحائب الخريف مفضضة بالنور المستتر./ وانتصف النهار ولم يظهر لعاشور أثر./ عند ذلك تفرق الرجال في شتى الأنحاء وراء شهادة أو خبر./» (ملحمة الحرافيش، ص.91 ).

في العبارات سجعٌ ملحوظ. لكنه لا علاقة له البتة بسجع الكهان وكتبة التراث، ذلك المحسّن اللفظي المتكلف، الصاخب في تمرده على المعنى واعتداده برنينه الأجوف. فالسجع المحفوظي ههنا يتشبه بالفاصلة القرآنية ويستلهم منها قدرتها على ربط المبنى بالمعنى، بما تحمله من شحنتين متلازمتين: شحنة من الوقع الموسيقي، وشحنة من المعنى المتمم للفكرة العامة. فأي معنى يرتجيه محفوظ من وراء ترداد حرف الراء، لا في ختام كل عبارة فحسب وإنما في معظم كلمات الفقرة؟

لنعاود قراءة العبارات مرة ثانية، و- فضلا- بصوت مسموع:

«.. وانتشرت سحائب الخريف مفضضة بالنور المستتر./ وانتصف النهار ولم يظهر لعاشور أثر./ عند ذلك تفرق الرجال في شتى الأنحاء وراء شهادة أو خبر./».

حين قرأتُ الفقرة نفسها في الترجمة الفرنسية، بدت لي- بتقسيمها الثلاثي وإيقاعها الصارم- أشبه بمطلع الحركة الأولى من السيمفونية الخامسة لبيتهوفن، المعروفة بسيمفونية «ضربات القدر». ويا لها من ضربة أن تفقد الحارة عملاقها! لكن الأذن العربية المدربة حين تسمع هذا النظم المحفوظي في لغته الأصيلة، لا يسعها إلا أن تدرك بوضوح استلهام المؤلف لتكرار الفاصلة القرآنية، وبالتحديد: فاصلة الراء في سورة القمر وإيقاعها.

فضلًا، اقرأ بضع آيات من سورة القمر، تأمل جرسها وإيقاعها وفاصلتها، ثم عد إلى هذا التحليل.

...

كأن محفوظ قد أراد- عبر المشابهة الموسيقية- أن يرمز لاختفاء الحاكم العادل بانشقاق القمر... فهل هذا التناصّ الشفيف قائم حقًا؟ لنر :

لقد عهدنا في سيرة عاشور الناجي أن نراه ساهرًا في ساحة التكية عند السور العتيق، وحيدًا طوال الليل الساجي وحتى مطلع الفجر، حتى «بات صديقا للنجوم وللفجر».

- فإن لم يكن المقصد أن يُرمز لعاشور بالقمر، فلمَ سمى ابنه «شمسًا»، لاسيما والرواية تقوم على فكرة تعاقب الأجيال، وتبدل المواسم والأحوال، وسريان الزمان في حركية ثنائية تبادلية لا تتوقف كما الليل والنهار.

- ومن ثم، بعد اختفاء عاشور، في لحظة احتدام الشقاق بين شمس الدين وأمه، إذ "اضطربت أعصابه تحت ضربات قدره"، نراه يمضي كالهائم في طلب خليلته، التي سماها محفوظ «قمر». ليهتف شمس الدين في لحظة يأسه : «إليَّ بقمر...» وكأنه في الباطن ينشد الخلاص. إما خلاصًا بعودة عاشور، القمر الذي كان عاليًا في سماء الحارة من قبله، وإما خلاصًا بموته هو، شمس الدين، ليخلفه قمرٌ آخر، يأتي من بعده، ويحمل عنه ثقيل الحمل.

- هذا وتشير أولى العبارات الثلاث الممهدة لغياب عاشور إلى «النور المستتر»، وقد ورد في سورة يونس: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا... (5) فالنور المستتر هنا كناية عن القمر الآفل، وعن عاشور الذي يبدو وكأنه قد تبخر عند مطلع الفجر.

- أما الجملة التالية لتلك العبارات الثلاث المرتبطة فيما بينها باستلهام فاصلة الراء في سورة القمر، فتقول:

«وعرفت الحارة الواقعة فاشتعلت بها، وشغلت بها عن الرزق والكدح».

فبعد مساحة زمنية وجيزة من افتقاد شمس الدين ورجاله لبدرهم الغائب، عرفت الحرافيش «الواقعة». والعجيب حقًا أنه في معرض ترتيب السور الكريمة في المصحف الشريف، ثمة مساحة مكانية وجيزة أيضًا تفصل بين سورتي القمر والواقعة. مساحة تشغلها سورة واحدة، هي سورة الرحمن، التي تمجد بدايتها حسبان الشمس والقمر:

الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ .

قمرًا كان عاشور، وكلاهما كلمة تنتهي بحرف الراء، الذي نثره محفوظ عبر الفقرة، وكأن كل لفظة تحتويه تند عنها صرخةٌ مؤذنة بنهاية عاشور وبأفول «القمر».

تلك براهين عقلية تؤيد انطباعات الأذن، وتكشف عن قطاع طولي في عمق النسيج الرمزي عند أديبنا، وهو إبداع يقتضي إدراكُه وتفسيرُه مراوحةً بين النسق السردي الحافل بالدلالات والإرث القرآني المنقوش على صفحة الضمير الناصع، داخل منظومة سردية يتحاور فيها السماوي والإنساني في تناغم فريد.

  • (ك) «كولونيالية»

«القراءة فعل مقارنة مركب»، كما كتب إدوارد سعيد. لكن لقب «بلزاك العرب» الذي أنعم به نقاد غربيون على محفوظ، ورددناه بإيعاز من نرجسيتنا الجريحة، لا ينم عن رغبة في المقارنة بقدر ما يفرض علينا خلفياته الاستشراقية الاستعلائية، التي تجعل من الحضارة الغربية مرجعًا سلطويًا مقدسًا لا تملك الشعوب النامية إزاءه سوى المحاكاة الببغاوية. فالمقارنة الجادة بين الرجلين، إن هي تمت، تعكس البون الشاسع بين التجربتين. وها هي بعدُ ترجمات روايات محفوظ تظهر اليوم باللغات العالمية وقد حمل غلافها الخلفي ألقابًا جديدة، لعل أطرفها هو ذلك الذي ينعت أديبنا بأنه «جابرييل جارسيا ماركيز المصري، لكنه ماركيز وقد تشبع بقراءة بروست بعد استنفاد مسالك زولا»!

  • (ل) لماذا؟

في تقلبات رحلة البحث عن الطريق، لا تكل الحارة المحفوظية من تلمس إجابات لأسئلة الوجود:

«تساءلت (الحارة) لِمَ يضحك الإنسان. لِمَ يرقص بالفوز. ِلمَ يطمئن سادرًا فوق العرش. ولِمَ ينسى دوره الحقيقي في اللعبة. ولِمَ ينسى نهايته المحتومة؟».

(الحرافيش. ص380).

  • (م) مرايا

ستبقى أعمال نجيب محفوظ مرايا تاريخنا الحي. مرايا سحرية تعكس ملامح حياتنا الاجتماعية والسياسية، في غلالة من الفن الجميل، لتسلم إلينا «الحقيقة ناصعة هبة للمتأملين». مرايا عجيبة سترى فيها وجه حضارتنا وهي ترتدي جميع الأقنعة وتركض في كل الاتجاهات. سترى وسط الزحام لصوصًا تطارد كلابا وكلابًا تطارد أبرياء. سيملؤك مرآها فزعًا ورهبة. ففيها يشير أديبنا بإصبعه إلى عالمنا كاشفًا فيه عن مطاوي الخلل. وبقلم يقطر إدانةً لفساد الذمم والظلم والجُبن والخيانة والانتهازية، يكاد يصرخ فينا مثل طنطاوي إسماعيل، مجنون رواية «المرايا»: «نحن في حاجة إلى طوفان جديد، لتمضي السفينة بقلة الفضلا، ليعيدوا خلق العالم من جديد». وستظل لسنوات بعد القراءة، كلما قلبت وجهك في الوجوه والأحداث، تطاردك الصرخة الثورية الملتاثة نفسها: «الطوفان ..الطوفان.. الطوفان»!

  • (ن) نسيان

تنتهي حياة «آنا كارنينا»، لكن تولستوي يواصل الحكي، ويخصص فصلَ روايته الثامن لتصوير عالم صارت فيه بطلته نسيًا منسيًا. وتنتهي حياة «مدام بوفاري»، فيواصل فلوبير الحكي، متفحصًا إتيان الزمن على ذكراها. وكذلك فعل محفوظ في نهاية «زقاق المدق» وهو يسمعنا دبيب خطوات النسيان وهي تطوي ذكرى الراحلين. هنا يخضع الروائيون الثلاثة لقاعدة سردية ذهبية، ألا وهي حتمية ذوبان مصير البطل الأوحد في غمار العالم الشاسع الخاضع للزمن، المحكوم بدوره بحتمية النسيان. لكن من بين الروائيين الثلاثة العظام، محفوظ هو الوحيد الذي يُعرض عن تسمية روايته على اسم بطلته، لفرط انتباهه لحقائق الفناء والخلود. فقد كان على وعي متفرد- وهو يتعامل مع مثلث الإنسان/ المكان/ الزمان، الذي يقوم عليه فعل السرد- بأن الإنسان ما هو إلا الحلقة الأضعف، لذا نهتز لسماع الشيخ درويش وهو يهتف في المشهد الختامي:

وما سمي الإنسان إلا لنسيه وما سمي القلب إلا أنه يتقلب.

  • (هـ) هجران

في أول صفحة من رواية «السراب»، كتب أديبنا: «إن الذين يكتبون هم في العادة الذين لا يحيون..»، وفي آخر صفحة من مجموعة «رأيت فيما يرى النائم»، تراه يرسم حلمًا يتجرد فيه من سقط متاع الدنيا الزائل كي يحلق بغير أجنحة مسافرًا صوب القمر... وما بين تجليات السراب الأولى وآخر محطات الحلم الجميل، عاش نجيب محفوظ ومات «في بوتقة الهجران». يكاد يمشي بين الناس كما الحكيم سقراط موصيًا: «تخففوا من غلواء الطموح الدنيوي وارضوا من الدنيا بما تجود به، أما الشوق للحقيقة فلا ترسموا له حدًا...».

  • (و) وصايا:

وفي لحظات الحيرة التي تكتنف الوطن، تبدو وصايا حكماء مصر الخالدين كما خطتها يد محفوظ في المشهد الختامي لرواية «أمام العرش»، وكأنها خارطة طريق للخروج من الأزمة. فيها يدعو إخناتون «لعبادة الإله الواحد باعتباره المعنى والخلود والتحرر من أية عبودية أرضية»، ويشدد الملك مينا على «الحرص على وحدة الأرض والشعب»، ويوصي الملك خوفو بالإيمان بالعمل. وينصح الوزير أمحتب بالأخذ بالعلم، ويعلي أبنوم من الإيمان «بالشعب وبالثورة»، ويطالب الملك تحتمس الثالث بالاستمساك بالقوة النابعة من دور مصر في سياقها القومي، وينادي سعد زغلول بالديمقراطية، ويبشر جمال عبد الناصر بالعدالة الاجتماعية المطلقة، ويراود السادات حلم الحضارة والسلام... وها نحن نبسط معهم الأكف ونضرع بالدعاء.

  • (ي) يناير 25

«شغلتنا الثورة عن الاحتفال بمئويته كما ينبغي». ذلك هو الظن السائد، لكن محفوظ ما كان لينشد احتفالية أجلّ من تلك التي أقامها الشعب المصري في ميادينه الكبرى مناديًا بكل القيم التي بشر بها أديبنا في حارته الكونية. أحيانًا، في جلسات تجمعنا على عتبات الخيال، أمازحه قائلةً: في مئوية شكسبير، ضجت قريته «ستراتفورد أبون أيفون» باحتفاليات مسرحية كبرى، وفي مئوية بلزاك، أقيمت له متاحف جديدة تضم عجائب مقتنياته. أنت لم تترك مسرحيات ولا مقتنيات، لكنك تركت فينا ما مكننا من أن نهديك في مئويتك ثورة! فتجلجل ضحكته الشهيرة مفعمة بالرضا. وأروح أصور له كيف انطلقت الجموع في الاتجاه الذي يشير إليه إصبع تمثال سعد زغلول على كوبري قصر النيل. وكيف انجلى الشتاء الطويل بربيع عربي يواجه اليوم أعتى العواصف.. وكيف أن قصصه مازالت تمنحنا العزم والإلهام.. فتبتسم عيناه وسط غلالة من الدمع.
-----------------------------
* أكاديمية من مصر.

 

داليا توفيق سعودي