شاهد على زمان الاحتلال

عرض: علاء الديب

المكتبة التي تنمو حول موضوع المحنة العربية في الكويت تتحرك بسرعة وفي كل اتجاه، فإن التضاعيف الإنسانية والاجتماعية ناهيك عن المواضيع السياسية والاقتصادية بلا حدود!

           إنها محنة أمة، ومحنة قيم حضارة، ومنعطف هام في تاريخها.ومن المهام العاجلة الآن جمع هذه الكتب التي تكتب في الشرق وفي الغرب ودراستها دراسة متأنية حرة مفتوحة الأفق والعقل.

          فصل الحقائق عن الأكاذيب في عصرنا، أصعب من لضم العقدة في الظلام!

          وكتاب "شاهد على زمان الاحتلال العراقي في الكويت: 2/ 8/ 1990، 26/ 2/1991" للكاتب الكويتي "سليمان الفهد" الصادر في القاهرة عن مكتبة مدبولي كشاف ضوء صغير، يسلط على ظلام المحنة القاتم، ليكشف قدر ما يستطيع.

          "بطارية" صغيرة لا تسلط على الوقائع أو الأحداث، ولا تشغل نفسها كثيرا بتفاصيل صراع القوى العاتية التي هبت في عاصفة الصحراء الفريدة، التي لم تشهد الصحراء قبلها عواصف من هذا النوع المبرمج الموقوت المكيف الهواء. لا يشغل الكتاب نفسه بالمؤامرات السياسية ولا " المؤلف كاتب كويتي معروف والعرض لكاتب وقصاص مصري بالحسابات المالية والاقتصادية الفلكية.. ولكنه يتكلم عن بسطاء الناس. عن أهل الكويت العاديين. عن الوافدين والمغتربين عن الفقراء عن "ملح الأرض" الذين سقطت عليهم الكارثة من السماء. فأفسدت أحلامهم البسيطة، وطموحاتهم المشروعة الطيبة، وأربكت "غزل" حياتهم. خلطت التركيبة الاجتماعية الآمنة المستقرة، وحرثت أرض الأمن والأمان. انطلقت وسط رخاء الكويت ووفرتها ضباع خائفة ملهوفة بلا خلق، ولا قيم.

          كتاب الفنان سليمان الفهد مشغول أساسا بهذه الصورة العبثية. التى أبرزت كل المتناقضات في حياتنا العربية. مشغول أساساً بالجانب الإيجابي للمحنة. ذلك المعدن النفيس الذي كان مدفونا تحت رخاء الكويت ووفرته: المعدن الصلب النادر للإنسان الكويتي. كفرد وكتركيبة تاريخية عريقة "كويت بيوت الطين، والبحر، والغوص، وقيم الشهامة والكرامة والكرم والعمل والبطولة".

إلى الجبرتي المؤرخ، أم إلى "نواف"
          تردد سليمان الفهد لمن يهدي كتابه هذا، هكذا يقول في المقدمة. يهدي الكتاب إلى المؤرخ المصرى الفنان "الجبرتي" الذي كتب تاريخ الحرافيش والصعاليك، وقدم في كتابه أندر وأجمل صياغة لحياة الناس العاديين، وقدرة أعمالهم البسيطة الطيبة على صناعة التاريخ، والذي يبدو أن سليمان الفهد يعشق كتابته، كما يعشق كل أصيل في مصر المحروسة. تردد المؤلف وهو يعيد ترتيب المقالات والصرخات التي كتبها يوما بيوم في قلب أتون المحنة المجنونة.. هل يهدي هذه "السوالف" و"الغرائب" والتأملات الخارقة الحارقة للجبرتي أم لابنه "نواف" المعتقل في سجون العراق مع آلاف غيره من أهل الكويت. آثر "أبونواف" أن يكون الإهداء حميميا شخصيا.. يربط بين المحنة العامة والمحنة الخاصة في أخص معانيها.. كتب إهداءه الشعري المؤثر: "أهداء إلى نواف. جرحنا الأعمق. حيا أو شهيداً ".

لمن النداء يا جماعة الخير؟
          إلى من يتكلم هذا "الشاهد" على الاحتلال؟ هل يتكلم للمرابطين أنفسهم، هؤلاء الذين اكتووا بنار المحنة، يوما بعد يوم على نار هادئة في ليل طويل؟، أم يتكلم إلى هؤلاء الذين تابعوا المهزلة في الجرائد ووكالات الأنباء المصورة والمسموعة والمنقولة على لسان الشائعات والحقائق والأكاذيب التي ملأت العالم العربي بها يكفيه لقرون من مآس وأساطير.

          هؤلاء، وهؤلاء أخذوا كفايتهم من الإثارة والصور المأساوية والهزلية، ما يصدق منها ومالا يصدق. أفرزت محنة الكويت للعالم العربي- لو أحس وشعر- ما يكفيه من دموع وضحكات، من مآس ومهازل، لقرون من ليله الطويل.

          لمن إذن يكتب أبو نواف شهادته؟ إنه لا يكتبها لمن يبحثون عن الأخبار والغرائب، ولا الأسرار والمؤامرات، ولا من يبحثون عن حل اللغز وسط غابة العصر المليء بالمعلومات والحقائق والأضاليل.

          لكنه يكتبها "لجماعة الخير" هؤلاء الذين مازلوا يتمتعون بقدر من الاستقامة في النفس والنوازع والروح. هؤلاء الذين مازالوا يتمتعون بقدر من وضوح الرؤية لا يخلط بين الخير والشر، ولا يلتبس عليهم الخبيث من الطيب. هؤلاء الذين مازالوا يعرفون معنى حقيقيا محددا لكلمات مثل الكرامة والشهامة والعروبة والوطن.

نبوءة مسرحية وواقع مرير
          يحدثنا الكتاب عن مسرحية الفنان الكويتي عبد العزيز الحداد فيقول:

          منذ ثلاث سنوات كتب الفنان المسرحي "عبد العزيز الحداد" مسرحية كوميدية طريفة تناولت موضوعا طريفا لم يسبق لأحد أن طرحه. حيث كرسها للعمالة الوافدة، ودورها في الحياة اليومية الكويتية، وتخيل فيها البلاد، وقد خلت من هذه العمالة، ومن ثم راح يستعرض حال الديرة، بعد أن غادرتها العمالة الوافدة، والكيفية التي استجاب بها المواطنون لهذه الحالة غير المتوقعة.

          وحاول أن يسأل: ماذا يحدث للكويت وأهلها إذا غادرها الوافدون لسبب أو لآخر؟! وهل يمكن للحياة الكويتية أن تستمر بدون هزات ولا خلل في حالة غياب كل العمالة الوافدة عن الوطن ولعل اسم المسرحية "دفاشه" إذا لم تخني الذاكرة!

          تحققت تلك النبوءة المسرحية. لكن العرض لم يكن مضحكا فقط. لقد كان واقعا غريبا مريرا بالنسبة للوافدين والمقيمين وللعالم كله. كتب المسرحية وأخرجها جنون صدام ورغبته الشريرة المحضة في العبث بأقدار البشر.

          ولكن من هم المرابطون؟ إن الكاتب رغم عزوفه عن الدخول في مناقشات نظرية لا مجدية يقول في تعريف بليغ: " إن المرابطة كانت اختيارا عفويا، وفعلا جماعيا يمثل الاستجابة الجماعية، التي تصدى بها الشعب لتحدي الاحتلال العراقي وممارساته الإجرامية. "حين أذكر المرابطين، في أي سياق يردون فيه، فإنني أعني - بالضرورة - كافة المرابطين على اختلاف أعمارهم وثقافاتهم واختياراتهم الفكرية. أقول ذلك لأن هناك من حاول سرقة الاسم ونسبته إلى جماعته".

          ثم يقول:
          "ورب متسائل: لم ذهبت إلى الجهراء قبل غيرها من المحافظات والمناطق؟! فأقول لأنها تضم في بيوتها الشعبية الطينية مئات الأسر وآلاف المواطنين بالاختيار والولاء والانتماء والفعل والموقف. أي نعم هم من الناحية الإدارية غير كويتيين و"بدون" جنسية كويتية، إلا أنهم كويتيون "قولا وفعلا"، ولا يقلون عن بقية المواطنين المرابطين تضحية وفداء وانتماء للأرض التي احتضنتهم فولدوا وترعرعوا وتعلموا وتزوجوا وعاشوا فيها عشرات السنين لا يعرفون وطنا غير هذه الديرة ولا ينكرون أصولهم القبلية فضلا عن أن أهل الجهراء القدامى يعرفونهم عن كثب ولا يقولون فيهم سوى كلمة الحق والخير والعدل التي تزكيهم وتشهد لهم بأنهم مواطنون بالاختيار والسلوك والفعل والانتماء والولاء".

إسرائيل. والرشوة والاحتلال
          فتحت المحنة العربية في الكويت كل جراح الأمة. وعرضت علينا وعلى العالم صورة غريبة، ولكنها حقيقية عن العالم العربي. وليس جديدا أن نقول الآن إن أعباء ما بعد الانسحاب والتحرير صعبة وهائلة ولكن الغريب والجميل في الكتاب، أن المؤلف كان دائم الشعور بهذا المعنى وهو في قلب المحنة. وقف مع شيخ فلسطيني عجوز عاش في فلسطين "النكبة" و"النكسة" و"الاجتياح" وقال له كلمة مؤلمة بليغة: لم أشاهد في حياتي عسفا ولا ظلما ولا سلبا ولا تدميرا كذلك الذي مارسه هؤلاء الإخوة العرب في أرض الكويت العربية، ثم قال: إسرائيل لم تفعل ذلك بالعرب! كما يلفت سليمان الفهد النظر إلى الدور الذي قام به الإعلام الخليجي، ويوجه له نقدا معقولا عندما يقول إن النداءات التي كانت توجه خلال هذه الأجهزة لم تكن تساعد على الصمود بقدر ما كانت تدعو إلى الخروج والفرار.

          ومن أهم الصور التي ملأت مقالات الفهد صور النساء والأطفال، نساء الكويت الكبار والصغار، "أخوات الرجال".

          لقد رسم لهن صورة رائعة جميلة، في الصمود وقيم الحضارة العربية الحقة. كذلك الأطفال وما حدث لهم، والنقلة الصعبة " والصدمة العربية" التي تعرضوا لها. كقد نضج الأطفال جدا في ذلك الوقت القصير، وعلينا أن نبحث عن وسيلة جديدة لمخاطبتهم والرد على أسئلتهم المحرجة عن معاني الوطن والقومية والعروبة والأخوة وغيرها، إنهم أطفال خطرون لأنهم تعذبوا كثيرا وارتبكت أمامهم الأرض والقيم.







غلاف الكتاب