أرقام محمود المراغي

  أرقام

عندما تصبح الحدود سجناً
يلتصق الإنسان بالوطن. يتغنى به، يموت من أجله، وحين يغترب تكون أمنيته هي العودة، ومع ذلك فإن ظاهرة مهمة قد بدأت تسود العالم، ويمكن أن نسميها "الفرار من الأوطان".

وفق إحصائيات الأمم المتحدة هناك 17 مليون لاجئ في العالم، ولكن وفقا للحقيقة.. فإن الأرقام تتجاوز ذلك بكثير، فاللجوء الرسمي جزء صغير من حالات الفرار.

في عالمنا العربي عرف السودان - في أوائل الثمانينيات - أكثر من مليون نازح، وكلهم قادمون من الدول المجاورة، ولكن وفي السنوات الأخيرة انقلبت الآية وأصبح السودان وبسبب الحرب الأهلية والحالة الاقتصادية مركز طرد رئيسيا، حتى أن بعض التقديرات تذهب إلى أن عدد السودانيين في مصر وحدها قد تجاوز الثلاثة ملايين. وفي عالمنا العربي أيضا عرفت لبنان النزوح الجماعي، وبينما كانت الجالية اللبنانية دعامة طبقة رجال الأعمال في عدد من بلدان العالم ، أصبحت الجالية وحتى ظروف الحرب الأهلية ثم الغزو الإسرائيلي مجموعة لاجئين ينتشرون هنا وهناك. وعلى امتداد الخريطة شرقا، جاء الغزو العراقي للكويت بكل ما صاحبه من وحشية ليشهد نزوحا مؤقتا أو غير مؤقت للمواطنين والوافدين، لكن النزوح الأكبر كان من العراق ذاتها، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها.

يقول تقرير لمنظمة العفو الدولية (ديسمبر 1992): "إن محنة اللاجئين في العالم تتميز بخطورتها البالغة، ومرجع هذه الخطورة إلى الأعداد الضخمة والموجات الهائلة من اللاجئين الذين يرحلون من أوطانهم في آن معا". ويضرب التقرير مثالا أول بما يجري في العراق حين فر- وفقا لتقديره - أكثر من مليون ونصف المليون إلى إيران وتركيا وسوريا، خلال أسابيع معدودة من أبريل 1991.

حدث ذلك في شمال العراق نتيجة الاضطهاد وهجمات الجيش، بينما تعذر أن يحدث في الجنوب رغم ما سجلته التقارير الدولية حينذاك من أن القوات العراقية قد قامت بهجمات أرضية وجوية على الأهوار الجنوبية، وأن السلطات كانت تقتل لمجرد الاشتباه ودون محاكمة، عشرات القرويين الذين لقوا حتفهم في هور العمارة على أيدي قوات الحكومة التي كانت تحاول تنفيذ أمر بإخلاء السكان. كذلك سجلت التقارير أن أكثر من 2000 شخص قد تم القبض عليهم في الجنوب، ونقلوا إلى أماكن مجهولة.

بطبيعة الحال فقد انحسر ذلك بعد الحظر الجوي وإقامة مناطق آمنة وتدخل الأمم المتحدة، لكن ما سجلته تلك الشهور من عام 1991 كان سابقة تاريخية من حيث الحجم، فالفارون بالملايين وليسوا بالعشرات أو المئات كما يحدث في حالات الاضطهاد السياسي. الشيء نفسه حدث في الصومال، مع اختلاف الأسباب اشتعلت الحرب الأهلية، سقطت الدولة. أصبحت السيطرة لمن يحمل سلاحا ونفوذا. تنازعت القبائل والمليشيات والعصابات أرض الصومال وثروتها. ولم يجد الصوماليون مفرا من البحث عن مأوى أكثر أمنا، فالآلاف يموتون من الحرب تارة والجوع تارة أخرى. والأطفال في مقدمة شهداء الحماقة.

لا أحد يعرف الأرقام بالتحديد، لكن التقديرات تذهب إلى أن عدد النازحين يتراوح بين المليون والمليونين، أي أنه بين كل أربعة أو خمسة من الصوماليين، مهاجر للخارج فر إلى اليمن أو كينيا أو غيرهما لمعسكرات أقامتها الأمم المتحدة، أو لمأوى وفرته الدولة المضيفة.

مسلمون في كل مكان

خريطة المأساة تمتد إلى الشرق في آسيا، كما تمتد إلى الشمال في أوربا وإلى الغرب في أمريكا.

وفقا لتقديرات منظمة العفو الدولية فقد رحل على مدار عام 1992 ربع مليون مواطن مسلم من مياغار ببورما. والسبب اضطهاد الحكومة العسكرية في مياغار للمسلمين الذين يمثلون أقلية وسط شعب بوذي في معظمه. قتلت قوات الجيش المئات وصادرت الأراضي والمحاصيل، ودمرت البيوت والمساجد وجرى اغتصاب النساء في معسكرات نظامية. وحين تم توقيع اتفاقية بين بنجلاديش التي استقبلت اللاجئين وبين مياغار لإعادة الفارين، احتجت منظمة العفو الدولية قائلة: "لا توجد ضمانات، والعودة غير آمنة "، وطالبت عشرون دولة بالتدخل، بالإضافة لمفوضية شؤون اللاجئين بالأمم المتحدة ويتكرر الأمر بين فيتنام وبورما، كما يتكرر وبأشكال أخرى في سيرلانكا. وأخيرا، جرى ما نعرفه في البوسنة والهرسك حيث فر المسلمون إلى المجر وبلاد أخرى مجاورة، هربا من وحشية قوات الصرب، وبما أثار قضية مهمة في أوروبا. أين يذهب هؤلاء اللاجئون؟.. ما هو أثر وجودهم على الدول المضيفة اقتصاديا واجتماعيا؟ في الوقت نفسه فقد أثار ذلك قضية اضطهاد المسلمين، وتركز حالات الهجرة بينهم، ابتداء من الصومال إلى شرق آسيا وجنوب إفريقيا، كلهم مسلمون أو هكذا تبدو الصورة.

لاجئو القوارب

في الوقت نفسه وفي نصف الكرة الغربي كان هناك ما يمكن أن نسميهم "لاجئي القوارب" وهم هؤلاء الذين فروا من هاييتي بعد الانقلاب العسكري الذي وقع في سبتمبر 1991 وأطاح بالحكومة المنتخبة.

فر العشرات من الآلاف وكانت وسيلة الفرار قوارب صغيرة في المياه الدولية، وهناك كانت تلتقطهم البحرية الأمريكية لتعيدهم إلى بلادهم، ضاربة عرض الحائط بالقوانين الدولية والأمريكية التي تنظم حالات اللجوء السياسي، وحقوق اللاجئين وطريقة معاملتهم.

ووفقا للأرقام المتاحة فإن حرس السواحل الأمريكية قام خلال فترة تمتد بين نوفمبر 1991 ومايو 1992 بالقبض على نحو 37 ألف لاجئ من مواطني هاييتي تم اعتراضهم في البحر ونقلهم إلى قاعدة بحرية أمريكية في خليج "جوانتانامو" بكوبا حيث تم فحص طلبات اللجوء التي تقدموا بها، وحيث تقرر إعادة 25 ألفا منهم إلى بلادهم، وكان بينهم آلاف الأطفال الذين جاءوا بلا ذويهم. وهكذا تصبح ظاهرة اللجوء أوسع انتشارا من أي وقت مضى، ليس اللجوء الرسمي فقط، وإنما اللجوء غير الرسمي أيضا، وليس اللجوء السياسي وحده، وإنما الفرار من الجوع والفاقة كذلك ويمكن القول إنه "تتعدد الأسباب والفرار واحد".

إنهم يفرون من وجه سلطة غاشمة، تبطش بمواطنيها أكثر مما تفعل قوات أجنبية، وتسجل المنظمات الدولية حالات خرق حقوق الإنسان في عدد هائل من دول العالم الثالث أيضا، فإنهم يفرون أمام الحروب الأهلية، والنماذج كثيرة في إفريقيا وآسيا وأوروبا، كما يفرون أمام الاحتلال كما هو الحال في فلسطين التي شهدت موجات متتابعة من الهجرة وتناثرت معسكرات وتجمعات لاجئين في كل مكانه وهم قبل ذلك وبعده يفرون بحثا عن مأوى اقتصادي آمن، فعندما ضرب التصحر عددا من البلدان الإفريقية في آخر الثمانينيات، وعندما أنهار اقتصاد الصومال والسودان في التسعينيات، وعندما ضاقت فرص العيش أمام مواطني اليمن، عندما حدث كل ذلك، كانت الهجرة أحيانا للعمل، وفي كثير من الأحيان على باب الله.

لقد سقطت الحدود أمام هؤلاء، لم تعد حاجزا يمنع أو حاجزا يحمي، أصبحت أسوأ سجن لا بد من الفرار من بين قضبانه.

 

محمود المراغي