تجسير ثقافي: شارل مالك ودوره في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان

تجسير ثقافي: شارل مالك ودوره في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان

كثيرًا ما نردد، كمسلمين، أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان International Declaration of Human Rights الذي أقرته الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة في 10 ديسمبر عام 1948، إنما يجد أصوله في أوليات الفكر الإسلامي، لاسيما من حيث ما نص عليه من حقوق وحريات إنسانية أساسية (كالحق في الحرية والحق في المساواة). ولكن ما لا يعرفه الكثيرون هو أن التشابه لم يأت اعتباطًا أو نتاج قفزات فكرية منفصلة حضاريًا (ثقافات متباينة) وجغرافيًا (أطر مكانية منفصلة) وتاريخيًا (أزمنة متباعدة)، بل جاء - في جزء منه على الأقل - نتيجة اتصال موضوعي بين الفكر الإسلامي والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

وقد تمثل هذا الاتصال أو التجسير الثقافي بمساهمة قانونية عربية فذة، تمثلت في شخص المفكر والدبلوماسي اللبناني الدكتور شارل حبيب مالك الذي شارك مشاركة فعالة في إعداد هذا الإعلان وصياغته بصفته رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة آنذاك. وقبل ذلك، كان مالك رئيسًا لقسم الفلسفة في الجامعة الأمريكية في بيروت (American University in Beirut - AUB) في الفترة من 1939 إلى 1945. وقد عمل ممثلًا للجمهورية اللبنانية في بعثتها إلى الأمم المتحدة، ورئيسًا للجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.

فعندما قررت منظمة الأمم المتحدة إنشاء لجنة لحقوق الإنسان، تحددت مهامها في إصدار إعلان دولي لحقوق الإنسان، ألفت اللجنة في فبراير 1946، وترأستها السيدة إليانور روزفلت (قرينة الرئيس الأمريكي آنذاك، فرانكلين روزفلت)، والسيد بي سي شانج من فرنسا أعضاءً، بالإضافة إلى الدكتور مالك مقررًا.

اعتمد عمل اللجنة بشكل أساسي على «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» الصادر عن الثورة الفرنسية عام 1789 وشرعة «الماغتا كارتا» Magna Carta الصادرة عن نبلاء بريطانيا العظمى سنة 1215.

وقد كان لمالك، بصفته هذه، شرف صياغة مقدمة الإعلان والبناء الفلسفي الذي استند إليه. وتكمن المفارقة الحقيقية هنا في أن أبرز بصمات مالك على هذا الإعلان هي إصراره على المادة 18 منه (حرية التفكير والضمير والدين) والمادة 20 (حرية الاشتراك في الجمعيات والجماعات السلمية وعدم الإكراه على الانضمام إلى أي جمعية) والمادة 26 (حق الإنسان في التعليم) وهي المواد التي ترتبط بدوغمائيات إسلامية راسخة (الحرية السياسية: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا»، حرية العقيدة: «لكم دينكم ولي دين» و«لا إكراه في الدين»، الحق في التعليم: «اطلبوا العلم ولو في الصين»، إلخ)، بالرغم مما أثر عن مالك من كونه مسيحيا متدينا.

وعلى أية حال، فإن الفلسفات التي تقوم عليها الأفكار المتبناة في بنود إعلان حقوق الإنسان ليست حكرًا على ثقافة بعينها، فالدور الوظيفي لفكرة الإحسان المسيحية تقابله فكرة التكافل الإسلامية، على سبيل المثال.

وقد كان مالك مدركا من البداية لخطورة هذا المشروع ودلالته التاريخية، فقد كان يعارض، باستمرار، أي شكل من أشكال التسرّع في صياغة النصوص، مكررًا ضرورة أن تترك الأمور «لتنضج ببطء، حتى تخلو من الزوايا الحادة». كما كان يضغط بإصرار لأن يكون للإعلان قوة قانونية ما، وإن كانت أقل من قوة المعاهدات الدولية.

تذكر الأدبيات القانونية أن نقاش مالك وفريقه حول المادة الأولى وحدها امتد لستة أيام (حتى أنه حدد لكل من المتكلمين فترة معينة للنقاش، وجاء لهم بساعة توقيت للتأكد لضمان ألا يتجاوز أي منهم الوقت المحدد له).

في منتصف ليلة 10 ديسمبر 1948، تم التصويت التاريخي للجمعية العامة للأمم المتحدة على وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فصار هذا اليوم مناسبة احتفالية يذكرها العالم في كل سنة. ولدى إعلان هذه الوثيقة في باريس، صرح مالك هناك قائلا:

«كل من يقدّر الإنسان وحريته ويعليها على كل ما عداها من الأمور، يعرف أن هذا الإعلان العالمي هو بمنزلة سلاح أيديولوجي فعّال. وإذا ما صاحبته نوايا حسنة، جدية، وحقيقية، فإنه قد يكون السلاح الأهم في تاريخ الإنسانية».

أما العنصر الخاص بـ «عالمية» الإعلان كما ورد في النص القوي الذي جاء في مستهله، فهو أمر يعود الفضل فيه إلى مصر، التي ترافع مندوبها بقوة، دافعًا تجاه جعل أحكام هذا الإعلان صالحة للتطبيق على جميع شعوب الدول الأعضاء في المنظمة، بما في ذلك الشعوب الخاضعة لسلطاتها القانونية في المناطق غير المستقلة.

وبذلك، ومع الحرص على عدم التسطيح الساذج الذي يتجاهل دور الفكر السياسي الحديث الذي بدأ بالتطور منذ عصر التنوير The Enlightenment، فهذه المقدمة يمكن أن تنتهي إلى نتيجة مهمة، وهي أن - على خلاف ما يراد إفهامنا دائمًا - الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ليس منتجًا حضاريًا غريبا عنا. إن انصباب ما يبدو فكرًا إسلاميًا في هذا القالب القانوني المسمى بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان إنما تم من خلال أداة موصلة تمثلت في المسيحي العربي مالك، دون زملائه من القانونيين المسيحيين الأجانب.

وربما كانت القيمة المشتركة بين محددات هوية مالك المسيحية والإسلامية هي قيمة الحرية، هذه التي كان مالك يقول عنها، في بعض كتاباته إنها القيمة التي اشترك المسلمون والمسيحيون معًا في إدراك «عظمتها وشرفها وفخارها وقدسيتها». إن هذا الأمر له دلالته المهمة التي قد تصح، وإن بهامش محدود، وهي تشربه كعربي للحضارة الإسلامية التي شكلت المحيط التاريخي والجغرافي لوجوده.

ربما كان من الأدق أن تطرح الفقرة السابقة بصيغة السؤال، وهو سؤال لعلنا لن نعرف الإجابة عنه أبدًا. لقد قال أرسطو: «الأسئلة مبصرة والأجوبة عمياء». ولكن إذا كانت الفرضية السابقة صحيحة - وأظنها كذلك وفق منطق الاجتماعيات - أفلا يعني ذلك أن التسامح والتعايش الدينيين إنما هما استثمار طويل الأمد، تعود علينا أرباحه، كمسلمين، على مدى أجيال طويلة، وما مالك ودوره في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إلا أحد أوجه هذه الأرباح؟.
----------------------------
* أكاديمية من الكويت.

 

 

 

مشاعل الهاجري*