نزار قباني.. هل كان شهريارًا؟

 نزار قباني.. هل كان شهريارًا؟

ينعت الباحث المصري محمد رضوان الشاعر الكبير الراحل نزار قباني بـ«شهريار هذا الزمان» في مقدمته لكتابه الصادر حديثًا عن دار الكتاب العربي في كل من دمشق والقاهرة. وشهريار، كما هو معروف يرد في كتاب ألف ليلة وليلة ملكًا غريب الأطوار كان يمضي كل ليلة من لياليه مع امرأة يلقي بها في صباح اليوم التالي من أعلى قصره إلى حيث تلقى حتفها. أي أنه كان رجلاً غريب الأطوار، شبقًا متلافًا للنساء. فإذا صحّ أن شهريار كان على هذه الصورة، فإن الشاعر نزار قباني لم يكن أبدًا كذلك، لا في شبابه ولا في أي مرحلة لاحقة من حياته. ففي حديث له وارد في كتابه: «المرأة في شعري وفي حياتي»، يسأله صحفي: «يتهمونك بأنك عاملت المرأة في شعرك بوصفها سلعة أخرى مكمّلة لديكور الليل، والبيت والسرير»، فيجيب بالحرف الواحد: «الشهريارية لم تكن أبدًا مهنتي، فشعري مسرح تحرّكت فيه ألوف النماذج البشرية، كان فيه رجال طيبون ونساء طيبات، وكان فيه رجال سيئون ونساء سيئات».

يبدو أن محمد رضوان يؤسس وصفه هذا لنزار على ورود عبارة «شهريار» في بعض قصائد الشاعر، ومنها:

لا أحد يفهمني
لا أحد يفهم ما مأساة شهريار
لن تفهميني أبدًا
لن تفهمي أحزان شهريار
فحين ألف امرأة ينمن في جواري
أحسّ أن لا أحد ينام في جواري..

ولكن هذا ما يرد في قصيدة «لا» في سيرة ذاتية صحيحة ودقيقة. ففي هذه السيرة لا تلعب المرأة في حياة نزار قباني سوى دور ثانوي. وعلاقة الشاعر معها كانت على العموم علاقة تقليدية وحتى عفة ومحتشمة، بالرغم من كل ما كُتب عن «شاعر المرأة»، و«مؤسس جمهورية النساء»، وما إلى ذلك من الألقاب التي تستند إلى شعر الشاعر لا إلى سيرته. وقد كانت ابنته هدباء صادقة كل الصدق عندما كتبت عن والدها في الكتاب التذكاري. الذي صدر عن الشاعر «نزار قباني.. شاعر لكل الأجيال» دار سعاد الصباح 1998: «الذين يقرأون شعر أبي، ولاسيما دواوينه الأولى، يتصوّرون أنه دونجوان عصره، وجامع نساء، وأن حياته مبعثرة على أرصفة الليل والمقاهي والكاباريهات.. إنها كذبة كبيرة روّجتها عنه صحافة التابلويد والفضائح، حتى إنني كنت أمازحه دائمًا بقولي: سوف أفضحك يومًا، إذ سأقول للناس كم أنت نقي، وعذري، وبيتوتي، تنام الساعة السادسة مساء وتنهض مع أذان الفجر، وكم أنت نظيف ونظامي، ومعتزل ضوضاء الحياة الاجتماعية. فلا ليالي حمراء ولا زرقاء ولا صفراء ولا من يسهرون، ولا تسكّع ولا مَن يتسكعون».

وسواء كانت هذه الأحكام لهدباء، أم لنزار الذي وضع مثل هذه الصورة عنه بقلمها، ذلك أن الأسلوب أسلوبه، فإن هذه الأحكام عن الشاعر صحيحة كل الصحة. فنزار لم يكن يومًا شهريارًا، ولا حتى دونجوانًا، وبالرغم من حيازته كل الشروط التي تؤهله - بالطبع - لذلك، بل كان شخصًا تقليديًا تمامًا: لا نساء في حياته إلا فيما ندر، وإذا كان قد تزوج مرتين، ففي المرتين لم يكن ذلك نتيجة حب عاصف. في المرة الأولى تزوج إحدى قريباته ثم انفصلا لاحقًا. وفي المرة الثانية تزوج من سيدة عراقية كانت تعمل في وزارة الإعلام ببغداد، وبعد زواجه منها انتقلت إلى العمل سكرتيرة لدى الملحقية الصحفية بسفارة العراق في بيروت. وليس في ملف هذه العلاقة ما يفيد أن نزار كان قيسًا، وأن بلقيس الراوي زوجته كانت ليلاه. لقد كان زواجًا تقليديًا أو شبه تقليدي، خاليًا إلى حد بعيد من الرومانسية.

لقد بدا نزار بالنسبة لكل مَن كانوا يعرفونه شخصية شامية واقعية يزن كل شيء بميزان العقل لا القلب، بل إنه في كل أمر صادفه، كان يلجأ إلى احتسابه وتقييمه بدقة معروفة عن تجار الشام الذين كان ينتمي والده إليهم. فعندما عرض عليه مرة أحد الأدباء نموذجًا لديوان شعر فرنسي ذي ورق رقيق من أجل اعتماد ورقه في دواوينه المقبلة، أخذ نزار الديوان الفرنسي ورازه بيديه وتأمله، ثم صمت لحظة ليقول: مثل هذا النموذج لا «يمشي» عندنا.. ثم شرح ما يقول على ضوء السائد في السوق وعلى ضوء ذوق القارئ العربي.

قد يقول قائل: إن مثل هذا التكييف لتقليدية الشاعر وواقعيته تتناقض مع الصورة التي يشيعها الشاعر عن نفسه في شعره، فلا يمكن لشاعر يخوض مغامرات صاخبة مع النساء في شعره أن يكون هذا الحمل الوديع الذي تتحدث عنه. فلابد أن ينقل في أدبه وفي شعره نماذج تعكس واقع حياته، وإلا من أين أتى بكل هذا الذي رواه وشاع في الناس وذاع لدرجة تلقيبه بـ«شهريار» عصره؟ ألا يعكس أدب الكاتب أو الشاعر عادة صورة حياته؟

الواقع أنه ما من نظرية تتضمن قدرًا كبيرًا من الخطأ كالنظرية التي تقول إن الأدب لابد أن يعكس صورة كاتبه. هو يعكس حينًا ولكنه لا يعكس دائمًا. ودليلنا على ذلك هو نزار قباني الذي عرفته معرفة عميقة على مدى ربع قرن تقريبًا ولم أضبطه يومًا مع امرأة، أو عاشقًا لامرأة، أو مشغولاً بامرأة. كنت أزوره أحيانًا، وبلا موعد، في الثامنة مساء فأجده يغط في النوم، أو يغسل رجليه بماء ساخن وهو جالس في الصالون. ونمضي سويًا أيامًا متواصلة، ليلاً ونهارًا، فلا ألمح في حياته طيف امرأة. ونذهب معًا إلى مسابح بيروت، ونصادف هناك نساء جميلات يقتربن منه يسلّمن عليه دون سابق معرفة، ولينسجن، إن أمكن، علاقة ما مع شاعر المرأة الشهير صاحب الدواوين الدافئة، فيزوغ منهن بلطف حينًا، ويعرض عنهن متجاهلاً مشاعرهن تجاهه حينًا آخر. وكلما أمعنت إحداهن في التقرّب، امتقع الوجه وزاد التهرّب وكأن وراء كل ذلك موقفًا صلباً لا يتزحزح. وقد اهتديت بعد طول تحليل لأمره، أن المرأة لم تكن من مشاغله أو من أولوياته، لقد كان يسخر منها، أو يخشاها، أو يمقتها، ولا يثق بها. ولعله كان يعاني في داخله نوعًا من الرهاب منها. وهو يبتعد عنها عامدًا مع أن أكثر شعره من وحيها، أو موجه إليها، وكثيرًا ما أدار قصيدته على لسانها.. كان نزار في واقع الأمر بعيدًا عن المرأة بمقدار ما كان قريبًا منها في شعره. كان يريد منها أن تلهمه القصيدة لا أكثر، فإذا حصل عليها فما عليها سوى المغادرة على الفور. هو لا يريد منها أكثر من ذلك.

ولعل نزار كان صادقًا كل الصدق مع نفسه ومع الواقع ومع المرأة عندما كتب مرة هذه القصيدة العجيبة:

اجلسي خمس دقائق
لا يريد الشعر كي يسقط كالدرويش
في الغيبوبة الكبرى
سوى خمس دقائق
لا يريد الشعر كي يثقب لحم الورق العاري
سوى خمس دقائق
فاعشقيني لدقائق
واختفي عن ناظري بعد دقائق!

إنها قصيدة عجيبة فعلاً لم أعد أذكر عنوانها بالضبط، وإنما يمكنني أن أضع لها عنوانًا من نوع: كي يمكنك أن تستدرّ الشعر من امرأة في أقل وقت ممكن ودون أن تنفق عليها لا من مالك ولا من صحتك ولا من وقتك.. أو عنوانًا آخر من نوع: أسرع طريقة لإنتاج سلعة شعرية دون أن تبدّد طاقتك الجنسية. وهي عجيبة لأنها نتاج تعاون بين ثلاثة علوم: الشعر والاقتصاد والحب. وهذا لا سوابق له لأن الشاعر على مدار العصور كان يحيا ويموت ولا يُسأل عن الثمن من أجل أن يصل إلى محبوبته، فإذا تحقق الوصل تمنّى ألاّ يزول. لم يكن للوقت عنده قيمة، والوقت كله منذور لها ومسفوح من أجلها. أما شاعرنا الحديث فلا يتعامل مع المرأة إلا بساعة رجال الأعمال، بالدقائق. للمرأة فقط خمس دقائق، وهو يصرف هذه الدقائق الخمس على أغرب صورة: إنه لا يبادر إلى شيء. لا يقيم معها علاقة ما عاطفية أو جنسية كما يفترض أن يكون اللقاء بين المحب والمحبوب، وإنما يطلب منها هي أن تتصرف، أن تعشقه، وعلى الأصح أن تثيره لا غير ولا أكثر، دون أن يصلا إلى حالة الاحتراق. إن ما يريد أن يثقبه هو لحم الورق العاري. الهدف إذن هو الإثارة لا المتعة. هو غير معني بأمرها. لا يهمه أن تتابع هي حتى تعود إلى ساحل السكينة. عليها التزام مسبق محدد هو أن تثير الشاعر ليسقط بعدها كالدرويش في الغيبوبة الكبرى، وينتج السلعة الشعرية التي أشرنا إليها.

كان شعر نزار قباني، كما ذكر، عبارة عن مسرح تحرّكت فيه ألوف النماذج البشرية من نساء ورجال. في هذا المسرح الشعري، إن جاز التعبير، كان نزار هو الراوي لا البطل، وهذا ما لم يتنبه إليه كثيرون، وما بنى عليه كثيرون نظريات حول شخصية الشاعر وشعره، لم تكن في محلها. كان للشاعر قدرة على تقمّص الآخر واستبطانه. ولعل أحدًا، بمن فيه المرأة، لم يتمكن من التعبير عن خلجات المرأة وأحوالها، كما تمكن نزار، بل إنه صاغ قسمًا كبيرًا من شعره عن الأنثى، كما لو أن الأنثى، لا الذكر، هي التي كتبت القصيدة، وبنجاح باهر أيضًا. ولكن حالات العشق التي وصفها لم تكن في الغالب نتيجة معاناة، بل نتيجة كفاءة وصفية وفنية. إنه تمامًا كالروائي الذي يمزج الخيال بالواقع، ويأتي بما يأتي به، فيظن قارئه أن ما رواه مرّ في الواقع قبل أن يمرّ على الورق، في حين أنه، وبحسب تعبير نزار نفسه «تأليف روائي وشطحات خيال»:

كبّري عقلك يا سيدتي
إن ما تحكينه عن وجود امرأة ثانية
في جواريري، وفي ذاكرتي،
هو تأليف روائي وشطحات خيال!

برع نزار قباني في وصف مقامات العشق وأحواله سواء عند المرأة أو عند الرجل. كان من الطبيعي أن يصوّر في شعره الرجل الذي يستهلك، أو يبذّر، النساء. أمعن في وصف الرجل الذي لم تبق زاوية بركن خميلة إلا ومرت فوقها عرباته. ولكنه عندما تحدث عن هذا الرجل في شعره، ظن قارئه أن هذا الرجل هو هو، في حين أن الأمر لم يكن كذلك:

تعبتْ من السفر الطويل حقائبي
وتعبتُ في خيلي ومن غزواتي
لم يبق سهل أسود أو أبيض
إلا زرعت بأرضه راياتي
لم تبق زاوية بركن خميلة
إلا ومرّت فوقها عرباتي
فصّلتُ من جلد النساء عباءة
وبنيتُ أبراجًا من الحلمات..

لقد فصّل مثل هذه العباءة فعلاً، ولكن في خياله ثم على الورق.

ولتأكيد كل ذلك يمكن إيراد مقاطع من قصيدة لمحمود درويش كتبها في شهوره الأخيرة عن نزار قباني، عنوانها «في بيت نزار قباني»، ورد فيها:

كان أنيقًا كريش الطواويس، لكنه
لم يكن «دون جوان».. تحطّ النساءُ
على قلبه خدما للمعاني، ويذهبن في كلمات
الأغاني. ويمشي وحيدًا. إذا
انتصف الليل قاطعه الحلمُ: في
داخلي غُرَف لا يمرّ بها أحد للتحية..

وهو وصف دقيق ومدهش لشخصية الشاعر. لقد كان أنيقًا، لكنه لم يكن «دون جوان».. وهذه هي شخصية نزار باختصار، وبلا أدنى افتئات على الحقيقة.

وبالإضافة إلى كل ما أوردناه من أدلة تتصل بنفي الشهريارية والدونجوانية عن نزار، نعثر على شهادة حديثة للكاتبة الكبيرة غادة السمان تؤيد ما ذهبنا إليه. قالت غادة في بعض ما كتبت أخيرًا إن مثقفًا عربيًا اتصل بها محتجًا على تجريد بعضهم لنزار من صفة الشهريارية، «إذ كيف لا يكون شهريارًا وهو القائل: فصّلت من جلد النساء عباءة». فتجيبه غادة: «أن يكون نزار قد كتب قصيدة فيها صوت يقول إنه فّصل من جلد النساء عباءة، لا يعني بالضرورة أن ذلك حدث لشهريار/نزار. فأجمل الشعر أكذبه، والقصيدة ليست دفتر مذكرات ولا محضر تحقيق مع الشرطة والمدعي العام. وإذا كان على كل روائي وشاعر أن تتم محاكمته على ما اقترفه أبطاله من أقوال وأفعال، فسنُحكم كلنا بالإعدام مرات»!

وأضافت غادة: «ولأن نزار قباني قريبي وصديقي ومعرفتي به تعود إلى ما قبل قدرتي على القراءة، ولأننا كنا جيرانًا في دمشق، ففي بيروت ثم في أوربا، وتقاطعت أيامنا ومصائرنا، أسمح لنفسي بالإدلاء بشهادة مختزلة في محكمة التاريخ الأدبي، أؤكد فيها الرأي القائل بأن نزار لم يكن يومًا زير نساء، بل كان «بيتوتيًا» جدًا، ورقيقًا جدًا، يرثي على المنبر أديبة نضرة ماتت في ريعان الصبا، هي أمي، في حفل تأبينها وهو شاب صغير، ويتهم المجتمع الشامي بالتسبّب في موتها، وكنتُ بعد طفلة لا تعي شيئًا».

بقي أن نشير إلى أنه كما لا تؤخذ سيرة الكاتب، أو الشاعر، من أعماله الإبداعية، لا تؤخذ لزامًا من السيرة التي قد يكتبها عن نفسه. فكثيرًا ما أجهز التاريخ على سير ذاتية كتبها أصحابها عن أنفسهم، وتبين فيما بعد أنهم حشوها بغير الحقيقة.

ولكن كلمة نزار حول وصف شعره بأنه مسرح تحرّكت فيه نماذج بشرية بلا حصر، كلمة صحيحة بالفعل. لقد كان صاحب «مسرح شعري» ولو من نوع مختلف. حكى ما لا يُحصى من القصص بأسلوب الشعر، مثل قصيدته «حبلى»، وقصيدته الأخرى «أيظن»، ولكن علينا أن نحترز لجهة نسبة بطولة هذه القصص إليه. لقد كان مجرد مؤلف لا غير.

 

 

جهاد فاضل