في الذكرى الخامسة لرحيل نيقولا زيادة.. مؤرخ الأمة العربية

في الذكرى الخامسة لرحيل نيقولا زيادة.. مؤرخ الأمة العربية

لعله المؤرخ الأكثر انتشارًا في حقبة ما، ولكن نيقولا زيادة لا يختصره هذا العنوان، الذي يثير بدوره جدالاً، إذا كانت شهرته مستمدة من هذا الموقع، أم أنه بشموليته، على مساحة التاريخ والأدب والرحلة، إلى الجغرافيا، لم يدع مجالاً للتميّز فقط في حقله الأساسي. فقد بدت هذه الدوائر متشابكة في مسيرته العلمية، تشابك الدوائر عينها في نصّه التاريخي، المرتفد من ذلك النبع المتفجّر على امتداد عقود من زمانه، ما انفك خلالها الحاضر دائمًا، وقطب المجالس والمنتديات. فهو وقد قارع القرن، لم تزده السنون إلا نضارة وتألقًا، وإن نالت أخيرًا من الجسد، فأعجزته عن الترحّل، إلا أنه ظل في صميم اللحظة وفي قلب الحدث وفي صخب حركة الضوء، فيما عبارته الشهيرة «اسمع»، تخترق فضاء المجال، وإذا ثمانون عامًا، قل أكثر، تنهال أمامك، ولا تترك لسائل أن يستزيد من التفاصيل المفعمة بعبق التاريخ، وكأنه قائم فيه أو عائد لتوّه من حلباته.

خصوصية نيقولا زيادة، في شموليته على المستوى العربي، فلم يدع قطرًا إلا وكان له نصيب من قلمه المطواع لانتمائه، حتى ليصح القول من دون مبالغة، إنه مؤرخ الأمة العربية من خليجها إلى محيطها. ولم يكن ذلك مجرد مصادفات، بقدر ما كان نابعًا من مؤثرات، استفزت هواجسه واصطفقت بها نفسه منذ أوائل القرن الذي قطعه واستلحق سنوات مما تلاه. فقد وُلد في دمشق (1907) عشية متغيرات عصفت بالسلطة العثمانية، وانداحت تداعياتها الخطرة في ما يشبه انقلابية التاريخ. وكان «حي الميدان» أول ما أبصر النور فيه، فخورًا بذلك حتى أواخر سنيه، ولطالما جال في الأحياء الدمشقية القديمة ودروبها الضيقة، من «سوق الحميدية» إلى متفرعاتها، مكثرًا من الترداد على المسجد الأموي، وضريح صلاح الدين المجاور له، وبدا حينئذ أن حياة هادئة مقبل عليها، لولا أن حدث ما حدث، وتحوّلت أحلام الطفولة إلى كوابيس في صباه وبعض شبابه. فلم تلبث الحرب الكبرى أن ذرّت قرنها، وفي مستهلها افتقد الأب وهو دون الكهولة، ما اضطر الأسرة إلى مغادرة دمشق، من دون أن تعرف سبب موته أو المكان الذي غار في ترابه.

لم يكن قد بلغ التاسعة من عمره حين عاد إلى جذوره في الناصرة «فلسطين»، لتبدأ معاناة الصبي كبير الأسرة بشتى ألوانها المأساوية، ولكنه واجه تحدياتها بصبر الرجال، وتحمّل أثقالها، فلم يئنّ تحت وطأتها، أو يدخل اليأس إلى نفسه.

مرحلة التفتح

وبصعوبة التحق متأخرًا بالمدرسة، متنقلاً ما بين «جنين» و«القدس»، و«عكا»، تلميذًا ومدرسًا، راصدًا بعقل متفتح الفرص التي وجد فيها كوة من ضوء، حين تلقى منحة للدراسة في بريطانيا، حائزًا في وقت متأخر أيضًا، على شهادة الدكتوراه في التاريخ، ومن ثم بعد النكبة تحقق الحلم الذي طالما صبا إليه، ليحطّ رحاله في الجامعة الأمريكية في بيروت، إلى جانب أقطاب مشتهرين سرعان ما اتخذ مكانه المستحق معهم، ولكن على طريقته الخاصة في إثارة الصخب من حوله. فكان من هذا المنظور مؤسس مدرسة، من سماتها أنها تعكس روحه وذوقه ونمط حياته، وأنها ليست أسيرة اللون الواحد، وربما القاتم، وإنما هي مشرّعة الأبواب على الماضي، تراثًا وفكرًا وأصالة، بقدر ما هي مضطربة بالحاضر، ولها من الحداثة نصيب، من دون أن يخلّ ذلك بالثوابت الراسخة فيه. كما أنها ليست منقطعة عن حركة السياسة التي واكبها بعقله الرصين ونبض عروبته، منحازًا إلى كل ما يؤدي إلى الارتقاء الحضاري للأمة، وإنتاج ثقافة تماشي التطور العلمي، من غير أن تتخلى عن أصالتها، أو تأخذها التبعية إلى الهجانة، أو إلى الانقطاع عن الجذور.

بهذه الرؤية، قدّم لنا زيادة دراسات ريادية في التاريخ الإسلامي، متصديًا لإشكاليات مهمة خصوصًا في العهدين الأموي والعباسي. وقد لا تكون دراساته بمجملها تندرج مباشرة في المنهج العلمي، القائم على مبدأ السببية الخلدونية، إلا أنه في انفتاحه وثقافته المتنوعة، حقق أعمالاً فيها من الرصانة ووضوح الهدف، إلى النكهة الخاصة في الأسلوب. ما كرّسه قطب المنهج المتوازن في التاريخ. فهو، وإن لم يلتزم بقواعده الصارمة، فقد كانت المعلومة هاجسه، يرصدها من روايات ليست دائمًا عربية صرفة، وإنما هي معزّزة بمصادر عن اليونانية التي عرفها جيدًا، فضلاً عن احتكاكه المباشر بالثقافة الإنجليزية، ما أسهم في توسيع دائرة المعلومة بمعطيات أحسن توظيفها في استخلاص مقاربات هادئة وصياغتها بأسلوب شائق جذّاب.

ومن اللافت أن الشام، على الرغم من الصدمة التي رجّت طفولته، بقي لها موقع الصدارة في أبحاثه، حتى أن أطروحته كانت في موضوع «الحياة المدنية في الشام في عهد المماليك». وما انفك يستحضرها في السياق الطويل من الزمن، سابرًا تاريخها، ومرتقيًا منابرها، ومن ثم متوجًا علاقة الشغف بكتابه «شاميات» الصادر في التسعينيات من القرن الماضي. إلى ذلك كان مثابرًا على المشاركة في «المؤتمر الدولي لتاريخ بلاد الشام» المنعقد غالبًا في الجامعة الأردنية، حيث كان أحد نجومه المتألقين في كل ندواته. وكانت أبحاثه على هذه المساحة، مفعمة بلمحات تخترق الرتابة في موضوعات تنوء بالتفاصيل، ولكن الدلالة كانت ما تستثيره دون الاستغراق فيها. وفي ضوء ذلك لا يعود مجديًا، بعد التراكم الهائل للدراسات في التاريخ السياسي، الخوض في مسائل تندرج في هذا الاتجاه من دون قراءة جديدة، تُفسح المجال لمقاربات ليست حاسمة في النتيجة، وإنما هي مفتوحة على مزيد من البحث والتعمّق والمساءلة، وربما الفرضيات. هذا ما تنبّه له زيادة في سبره التاريخ الإسلامي، مركّزًا في مراحله الأخيرة، ليس على الموضوعة السياسية، بقدر ما كان مهتمًا بالموضوعة الحضارية، لاسيما في الجانب الخاص بالإدارة والجيش والاقتصاد والعلاقات الخارجية.

نرى ذلك - على سبيل المثال - في دراسته عن «المراكز الإدارية والعسكرية في الشام في العهد الأموي»، رابطًا بين التنظيمات في الأخيرة، وبين المعرفة الوثيقة للقادة العرب - وهم من قريش - بالمنطقة، كذلك بما تناهى إليهم من أخبار عن أحوال البيزنطيين، أي أنها «كانت مزيجًا من الجغرافيا والاقتصاد» حسب تعبيره. وبمعنى أكثر تحديدًا هي تنظيمات لم تفرضها السياسة الحربية، وإنما جاءت مراعية لحركة التجارة وخطوطها التي وشجت الحجاز بالشام والعراق ومصر، فضلاً عن الجزيرة. وقد يفاجئنا في هذا السياق بسؤال غير متوقع، كأن يقول: «أين كانت عاصمة الخلافة الأموية؟»، ذلك أن دمشق، برأيه، كانت عاصمة فقط لثلاثة من الخلفاء وهم: معاوية، عبدالملك والوليد، فيما الآخرون قضوا أوقاتهم في مراكز خاصة بهم، مع التشديد على أن الأمر لا يتعلق بالراحة أو الانتجاع لعدد من الخلفاء الذين هجروا تعمدًا - حسب رأيه - مركز الخلافة. وإذا كنا لا نملك من المعطيات ما يؤكد هذا الرأي، لاسيما أن غياب الخلفاء أو بعضهم عن دمشق، لم يُقلّل من دورها عاصمة كانت لاتزال تتموضع فيها الدواوين والأنشطة الاقتصادية، إلى أجهزة الأمن والجيش، فإن طرح مثل هذه الفرضية لا يأتي من فراغ، وقد يحتاج إلى نقاشات أكثر أهمية مما تحمله الأجوبة الصمّاء.

منهج تفسير التاريخ

هذه الأسئلة، ليست عابرة في منهاج المؤرخ زيادة، وإنما هي جزء من أدوات البحث وآلياته، كما عناصر أخرى محكمة الربط في سياقه، لاسيما عنصر الجغرافيا الذي يوليه أهمية خاصة في تفسير الظواهر التاريخية، مما يذكّرنا بالمسعودي الذي صنّف التاريخ برؤية الجغرافي المتمرّس، ما أعطى لكتابه «مروج الذهب» تلك المسحة الإنسانية الشاملة. ولعل زيادة ينطلق من الرؤية عينها في قراءته للتاريخ غير منفصل عن الجغرافيا في موضوعة المراكز الإدارية والعسكرية، وذلك بما يستجيب للمرحلة الجديدة بعد الفتح العربي الإسلامي للشام. فقد توزعت هذه بين «جند الأردن» تأمينًا للاتصال التجاري المألوف مع منطقة دمشق في الشمال، حيث «كانت طبرية مركزًا له» على حد تعبيره، وبين جند فلسطين وعاصمته اللد، وجند الشام الأكثر أهمية، والذي يمتد شرقًا إلى تدمر وجنوبًا إلى بصرى وحوران، وعاصمته دمشق. كما أضيف في عهد يزيد جند رابع هو قنسرين، وكانت الجزيرة الفراتية تابعة له، وذلك لصعوبة إدارة جند الشام لهذه المنطقة الواسعة.

وأضيف بعد ذلك جندان آخران هما: حمص، والعواصم، حيث باتت الأخيرة تطلق على الجزيرة الفراتية. وهكذا كان التقسيم الإداري للشام، مراعيًا للواقع الجغرافي، ومستجيبًا للأخطار التي كانت الشام أكثر عرضة لها، مقارنة مع أقاليم الخلافة الأخرى، مما يفسر نشوء أجناد على تخوم الامبراطورية البيزنطية، الطامحة دائمًا إلى استعادة هذه المنطقة. كما يفسر صياغة العنوان السالف لبحث المؤرخ زيادة، بما يعبّر عن مفهوم الجند، بأن طابعه إداري وحربي في آن واحد.

الجغرافيا العسكرية

وعلى سبيل المثال أيضًا، نتوقف عند بحث آخر له في هذا الاتجاه، عن «الأسطول العربي أيام الأمويين»، وفيه يؤكد مجددًا على دور العنصر الجغرافي في الأعمال الحربية. فقد ظل البيزنطيون يمسكون بزمام التفوق، خصوصًا بعد احتفاظهم بعدد من الجزر في البحر المتوسط، معرقلين حركة الأسطول الأموي، حتى إنشاء دار الصناعة في تونس، مما يفسر فشل الحملات على المغرب حتى تسعينيات القرن الهجري الأول، خلافًا للعمليات التوسعية البريّة في المشرق. ولكن الأمويين في إصرارهم على اكتساب ثقافة بحرية، مستفيدين من خبرة السكان الأصليين في الشام ومصر، لم يتوانوا عن مواجهة التحدي في بناء أسطول، لم يصل إلى مستوى المنافسة الفعلية، ولكن كان ندًا في بعض الأحيان للأسطول البيزنطي، سواء في العمليات الدفاعية أو الهجومية.

وقد واجه الأمويون في مطالع عهدهم تحديين في هذا المجال: الأول تمثل في غزو البيزنطيين للإسكندرية والسيطرة لوقت عليها، قبل ارتدادهم نتيجة قتال عنيف، والثاني في أرواد، الجزيرة الصغيرة التي امتنعت على العرب المسلمين، بفضل تواصل الإمدادات البيزنطية، ما أخّر فتحها إلى خمسينيات القرن. ولم يكن ذلك ممكنًا لولا قيام معاوية بإنشاء قاعدة بحرية في عكا، حيث خاض أسطولها أولى تجاربه الناجحة في معركة «ذات السواري» بالقرب من ساحل كيليكيا، محبطًا محاولة الإمبراطور في الوصول إلى الإسكندرية. وقد رجع زيادة في تتبعه للأنشطة البحرية الأموية، بما فيها الحملتان على القسطنطينية، إلى مرويات البلاذري وابن عبدالحكم، مضيفًا إلى فرضية مقتبسة من المؤرخ الألماني إيكهوف Eickhoff، بأن الحملة الأموية التي واجهت أسطول الإمبراطور، بقيادة والي مصر عبدالله بن سعد، كانت موجهة إلى العاصمة البيزنطية.

ويولي زيادة عناية بتأسيس الأسطول، وإدارته وعُدّته وتمركز وحداته في القواعد الثلاث، مرجحًا الأولى في الإسكندرية، حيث عرف هنا بالأسطول المصري أو «أسطول الشرق»، حسب التوصيف البيزنطي القديم، ومفترضًا وجود دار صناعة في القلزم رديفة له. والثانية في تونس، وقد أنشأها حسان بن النعمان والي إفريقيا، وكان لها دور في التمهيد لفتح الأندلس، فضلاً عن صقلية. أما الثالثة فكانت في عكا ثم في صور، وامتدت لها فروع إلى بيروت وطرابلس واللاذقية. ويعرض زيادة لمسألة مهمة في موضوعة الأسطول الأموي، وهي المتعلقة بتموينه وصيانته، ما تطلب نفقات كبيرة، تندرج في نوعين من الضرائب: «العادي أو العام، وكان بعضه يُدفع نقدًا والآخر حبوبًا» حسب تعبيره، والثاني هو الإضافي الذي يؤدى عند الضرورة وبالوسيلة عينها. إلى ذلك كان على السكان تزويد الأسطول بالملاحين، وهم عادة من أسر احترفت هذا النوع من العمل، وكانت أغلبيتها من الأقباط وبقايا البيزنطيين كما في مصر، ومن أصول عربية أو من الموالي في القواعد الأخرى. أما السلاح في القتال البحري، فكان في معظمه شبيهًا بذلك المستخدم لدى البيزنطيين، باستثناء ما شهر به هؤلاء من السلاح المعروف بالنار الإغريقية، والذي بقي لوقت طويل عنصر التفوق في حروبهم البحرية.

بحوث اقتصادية

ويبقى الأنموذج الثالث من البحوث المتأخرة للمؤرخ زيادة، وهو المندرج تحت عنوان «تجارة بلاد الشام الخارجية في العصر العباسي». وهو لايزال على هذه المساحة يؤثر الاختيارات الصعبة، والتي أكثر ما تعرّض لها المستشرقون. ولعل هذه الموضوعة من أصعب ما يواجه المؤرخ، ولكن زيادة بما يملكه من ثقافة وخبرة، خاض بكفاءة عالية في دراستها، مكتنهًا آفاق المرحلة، خصوصًا بعد القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، بادر إلى طرح تساؤلات أربعة عن أزمة الخلافة العباسية في ذلك الحين: الأول يتعلق بالأسباب التي أدت إلى انقسامها، والثاني بالتمايز بين دولة الخلافة والدويلات القائمة في ظلها، والثالث بدور القوى العسكرية في هذا الانقسام، والرابع بـ«مركز الإسلام» بالنسبة للخلافة والدويلات الأخرى، و«للمجتمع الذي ظل يعيش على حدود الدول الكبرى الأصلية» على حد تعبيره.

وفي محاولة للإجابة عن هذه التساؤلات، يتوقف عند التنوع لدى العناصر الحاكمة في المركز والدويلات، ما بين الفرس والترك والعرب. فقد كان النمط الاقتصادي الزراعي، إلى التقاليد البدوية يسودان الدويلات المتشكلة خلال تلك المرحلة، كما تنوعت فيها الاتجاهات الدينية والفكرية. أما التجارة فقد استعادت حيويتها القديمة، ما بين البحر المتوسط والشرق الأقصى، مستفيدة من تفكك الخلافة العباسية ومن ثم نشوء خلافة منافسة لها، بقيادة الفاطميين، مترافقًا ذلك مع نمو المدن وارتفاع عدد السكان بعد الهجرات المتواصلة من الريف إلى الأخيرة، ما فرض الحاجة إلى كثير من السلع التي كان التجار جاهزين لتلبيتها، كما كان على السلطة توفير الظروف المناسبة لها، كالعناية بالطرق وتأمين حمايتها، وتوفير المحطات للقوافل العابرة لها.

وكان مألوفًا من الطرق خطان رئيسان: الأول يربط بين دمشق وبغداد، ثم ينطلق من الأخيرة إلى الموصل مخترقًا ما بين النهرين إلى سنجار ونصيبين في الجزيرة، ومنكفئًا بعد ذلك عبر الرقة وحلب إلى دمشق، ليمتد جنوبًا عبر طبرية والرملة إلى القاهرة. والثاني يتجه من بغداد بمحاذاة الضفة الغربية للفرات مخترقًا بادية الشام إلى دمشق، أو ينعطف شمالاً نحو حلب، ومن ثم إلى أنطاكية إلى أرمينية، أو إلى الموصل. وإذا اتجهنا جنوبًا، فثمة طرق كانت مألوفة لقوافل الحج، وكانت تلقى عناية خاصة من السلطة التي اهتمت إلى جانب ذلك بطرق التجارة الشرقية، برًا وبحرًا، سواء بإعادة إحياء القديم منها، أو فتح طرق جديدة، وقد تشعبت هذه حتى إندونيسيا والصين، فضلاً عن بلاد الروس في الشمال.

أما النقود المتداولة في ذلك الحين، فكانت تلك التي تكرست منذ العهد المرواني، أي الدينار الذهبي والدرهم الفضي، إضافة إلى وحدات متفاوتة شاعت في العهود العباسية، إلا أن الذهب غلب التداول به في الأقاليم الغربية، فيما الفضة انتشرت في الأقاليم الشرقية بصورة عامة، ولكن دور الضرب - أو السكة - لم تعد محصورة بالمركز، إذ باتت كل دويلة تسكّ العملة الخاصة بها، من دون الإخلال بالوزن الذي يحدد قيمتها الفعلية. ومع تطور حركة التجارة، أخذ يسود ما عرف بـ«السفائج أو ما يشبه الصكوك» حلاً بديلاً عن الأموال المنقولة بكميات كبيرة، واتقاء لتربص اللصوص بها.

وهكذا فإن نمو المجتمع الإسلامي، متزامنًا مع التطور المدني، كان وراء انتعاش حركة التجارة الخارجية. وقد تناول زيادة بإسهاب مكونات هذا التحوّل، في أبعاده الاقتصادية والاجتماعية، إلا أنه يكاد ينقطع عن الموضوعة الرئيسة، وهو دور الشام في هذه التجارة، رائيًا إلى أن الأخيرة كان يصعب عليها قيادة الدور الشمولي للعالم الإسلامي في هذا المجال، ويرد ذلك إلى افتقارها عمومًا إلى المواد الأولية لاسيما المعادن، التي تشكّل مادة مهمة في التجارة الخارجية، وجلّ ما كانت تصدّره لم يتعد المصنوعات الخشبية المذهّبة، والقطن الذي راجت زراعته في المناطق القريبة من الفرات، بيد أن الشام أخذت تستعيد حيويتها التجارية منذ القرن الرابع الهجري، حيث ازدهرت فيها صناعة الأقمشة الحريرية التي كانت تُصدّر بكميات كبيرة عبر أنطاكية إلى القسطنطينية، هذا إلى جانب منتجات أخرى متنوعة لا يتسع لتعدادها المجال.

وقد اعترف زيادة بأن دراسته عن تجارة الشام الخارجية، شابها الاقتضاب، بسبب ضآلة المادة عنها في الروايات التاريخية، متكئًا في هذا السياق على المقدسي الذي عرض لما يسميه تجارات الشام، ولكن من دون ربطها بحركة الخارج. وعلى سبيل الخاتمة، أضاف زيادة عنصرًا يتعلق بوجود «أماكن مقدسة كثيرة» فيها، كان يقصدها الناس للتبرّك، وقد حملوا معهم أشياء للتجارة، حسب المقدسي أيضًا، إلا أن ذلك لا يندرج في حركة التجارة الخارجية.

هذه الأبحاث الثلاثة، فتحت لنا بابًا، أو ربما نافذة على عالم هذا المؤرخ الكبير، لنقرأه مختلفًا عن أعماله المسهبة في التاريخ الإسلامي وبعض التاريخ الحديث. فقد نزع في الأخيرة إلى السردية أحيانًا بما يوائم موضوعاتها، من دون إغفال مؤثرات المرحلة التي اتسمت عمومًا بالتقليد. ومن هذا المنظور كان زيادة في وقت ما في السبعينيات يأخذ على شريحة من المؤرخين الميل إلى التحديث، ولكنه في أبحاثه المتأخرة، بدا أكثر التزامًا بآليات المنهج، فقدم لنا نماذج مغايرة، ليثبت حيث يشاء أنه المتفوّق، الذاهب إلى العمق والباحث الغائص في التحليل. ولعل ما تفرّد به، أن التاريخ كان في جعبته، حتى بات لا يحتاج إلى أن يقلّب في المصادر للتوكيد على معلومة، كان غالبًا ما يستلّها من الذاكرة، تلك التي اختزنت تفاصيل باهرة في «أيامه»، وقد دوّنها بعد أن مضى ثمانون من الأعوام عليها.

وأخيرًا، هذا «الشامي» العتيق الذي نشأ في صخب تحولات عاصفة، وما توقف ضجيجها حين كان يلفظ أنفاسه (2006)، لم يكن إلا من أولئك الروّاد الذين تعملقوا في فضاء القرن الماضي ودمغوا بحبرهم تاريخ الأمة العربية. وكان لايزال الأكثر حضورًا على هذا المدى، فلم يملّ الحياة التي رَحُبت أمامه ونال منها دون أن تنال من عزمه، أو يرغن للشيخوخة التي كانت لطيفة به، وبالطقوس التي اعتادها، وبالتفاصيل التي ظل ممسكًا بزمامها، وبالحقيقة غير المشوشة في وعيه التاريخي اللمّاح.
------------------------------
* أكاديمي ومؤرخ لبناني.

--------------------------------------
بعد أن أكتب كل ما يروى لي
أقص دفاتري على شكل زورق وأشرعة وصوار
وألقيها في عباب المجهول
ثم أنصرف إلى الصحراء
لا أعرف ماذا أفعل بها
أو معها

محمد الماغوط

 

إبراهيم بيضون*