إلى أن نلتقي أنور الياسين

إلى أن نلتقي

في العلاقة بين الرأس والقدمين

تقول الأسطورة اليونانية إن "جيا" كان ابن الأرض. وكان مخلوقا ضئيل الحجم ولكنه خارق القوة، وكان قادرا في كل مرة تلامس قدماه فيها الأرض على أن يصارع أعظم العمالقة ويصرعهم. وفي يوم؟ اكتشف أحد الخصوم سر هذه العلاقة بين "جيا" وأمه الأرض، فتحداه للمصارعة، وعندما بدأت المباراة بين الاثنين حمل الخصم "جيا" ورفعه عن الأرض و... خنقه في الفضاء بعيدا عن حضن أمه (!).

تضيف الأسطورة الحكمة التالية: لا تترك رأسك يغري قدميك بالطيران لأن علاقتك مع أرضك هي سر قوتك. وهذه العلاقة بين الرأس والقدمين هي كلمة السر التي يطلقها مدربو فرق كرة القدم فإذا ما غاب التنسيق بين الطرفين تحولت المباريات إلى فرص ضائعة، وهو ما يبدو أكثر وضوحا في العلاقة غير المتوازنة بين الإنسان والبيئة، فالقدمان تلتصقان بالأرض، بينما الرأس يستسلم للغواية ولا يترك فرصة إلا ويستغلها لتلويث البيئة، لاهثا خلف ما يحسبه أحدث الوسائل العصرية لمواجهة الخصوم (!).

مع ذلك، فإن ما أعاد هذه الأسطورة اليونانية إلى الذاكرة ليس كرة القدم، ولا المحافظة على البيئة التي أصبحت اليوم أهم التحديات التي تواجه عالمنا المعاصر، بل حكاية رواها صديق عاد أخيرا من الشرق الأقصى، بعد أن قام بعمليات "ترميم" لجسده. قال الصديق: هل تصدق.. لقد أعادوا ترميمي باستخدام التمر (الرطب) واليقطين والبطيخ الأصفر والأحمر و... بالخيار، ثم توجوا هذا العلاج بالجزر. قالوا إن ترميم قوتي الجسدية لا يحتاج إلى أكثر من هذا العلاج "المسدس" وبعدها لن يشكو الجسد من أي ضجر.

وتزوج الصديق للمرة الثانية وهو يشعر أنه في ذروة نشاطه (!). ولعل غياب التنسيق بين الرأس والقدمين هو ما دفع صديقي للسفر إلى الشرق الأقصى، بحثا عن تلك النباتات المتوافرة في عالمنا العربي حتى التخمة، ما بين الرأس والقدمين، وتكفي نظرة واحدة نلقيها حولنا لنكتشف أن سر القوة ينبع من أرضنا وليس من أراضي الآخرين.

وتدخل هذه العلاقة بين الرأس والقدمين في باب الأقوال المأثورة إذ يقول أحد الحكماء في وصف أصحاب الثروة، إن هناك نوعين من الأثرياء، الأول يضع أمواله فوق رأسه فتصغر قامته، بينما الثاني يضعها تحت قدميه فيبدو عملاقا. أما الخلل الحقيقي في هذه العلاقة ما بين الرأس والقدمين فيبدو واضحا لدى عدد من المتعلمين في الخليج وفي العالم العربي الذين لا يتركون فرصة إلا واستغلوها للفصل بين أقدامنا ورؤوسنا، بحيث لا يعود أمامنا إلا خياران: إما أن نحتفظ بأقدامنا أو برؤوسنا، مع أن واحدنا خرج من بطن أمه دفعة واحدة، رأسه مع قدميه، من دون فصل أو تقسيط، وهم في هذا يقترحون علينا جيلا جديدا لا يمكن أن يجمع المجد من طرفيه: الرأس والقدمين، فهم يرفعون اليوم راية "الشخصية الخليجية" قياسا على رايات رفعها سابقا أصحاب "الشخصية الفينيقية" و"الشخصية الفرعونية" ثم انهارت، وهم يقولون في تعريف هذه الشخصية الجديدة إنها تختلف عن الشخصية العربية أو الشخصية الإسلامية، إذ إنه للمرة الأولى في التاريخ العربي والإسلامي يدخل عامل "الأوكتان" النفطي ليساهم في خلق نوعية جديدة من ثقافة الإنسان. ورغم احترامنا لخصوصية كل قطر عربي، إلا أن دخول معادلة الأوكتان في بناء الشخصية الخليجية يفتح الباب واسعا أمام منتجي الفول السوداني أو القطن أو الشمندر، ليحددوا من خلال هذا الإنتاج مواصفات شخصيتهم الوطنية وخصوصيتها.. وهو ما قد ينتهي بنا إلى اعتماد "السوبر ماركت" لتحديد هويتنا الوطنية (!).

 

أنور الياسين