من المكتبة الأجنبية: لماذا ستقود أوربا القرن الحادي والعشرين؟
من المكتبة الأجنبية: لماذا ستقود أوربا القرن الحادي والعشرين؟
عرض: حسام فتحي أبو جبارة*
يضعنا هذا الكتاب الذي وضعه الكاتب والسياسي البريطاني مارك ليونارد أمام تحدٍ بأن ننظر إلى أوربا ليس كأخطبوط من البيروقراطية والتنظيمات، وإنما أن ننظر إليها كنموذج ثوري للمستقبل، فهي تأسست لحمايتنا من الحرب، وهي في الوقت نفسه المفتاح الذي يفتح الباب أمام الديمقراطية للانتشار. ويشرح الكتاب موقع أوربا في العالم، ويراجع الماضي ويُنظّر للمستقبل، ويؤكد في دفاعه عن أوربا أنها قادرة - رغم مشكلاتها الكثيرة - على صياغة عالم جديد وأفضل لسكانها وللبشرية بأسرها.
إذا ما وضعت كلمتي «أوربا» و«أزمة» في محرك البحث الشهير «غوغل» على شبكة الإنترنت فإن أكثر من 170 مليون مادة ستظهر على الشبكة! فقد استخدمت وسائل الإعلام هاتين الكلمتين أحيانًا كثيرة لدرجة أنهما أصبحتا معها مترادفتين، حتى إنه لا يمكن أن يمر يوم على مدى الخمسين عامًا الماضية دون ظهور أخبار وقصص صحفية عن العلاقة الوثيقة بين أوربا والأزمة، مثل انقسامات وفشل في تحقيق الأهداف المرجوة، ومناوشات دبلوماسية، وكذلك شعور دائم بالفشل. أما المؤرخون فيقولون إن أوربا تمتلك سياسة خارجية من أنجح السياسات في التاريخ، ويقولون أيضًا إنه على مدى خمسين عامًا فقط أصبحت الحرب بين القوى الأوربية أمرًا غير وارد على الإطلاق، وكذلك لحق الاقتصاد الأوربي بالاقتصاد الأمريكي، واستطاعت أوربا أن تُخرج دولًا عدة من جذوة الاستبداد وتنقلها إلى واحة الديمقراطية.
ويقول مؤلف الكتاب في الفصل الأول، إن مستقبل أوربا لم يبدأ إلا في الماضي القريب، إذ كانت كيانًا متفرقًا مشبعًا بالحروب والمجازر والدماء، حيث تراكمت أجساد القتلى عند كل رؤية جديدة لتوحيد أوربا: مائة وأربعون ألف قتيل في الحرب الفرنسية - البروسية (1870-1871)، وثمانية ملايين قتيل في الحرب العالمية الأولى، وأربعون مليونًا في الحرب العالمية الثانية. لقد احتاجت القارة إلى معجزة كي تتعافى وتنهض من جديد، وليس أدق وصفًا لحال أوربا عام 1945 مما قاله الشاعر الفرنسي بول فاليري: «الأمل الذي كنا ننتظره كان غامضًا وما كنا نفزع منه كنا نعيشه». وهذا يفسر لنا لماذا لم يكن دليل أوربا الكبير للهروب الكبير من أسر التاريخ مناطًا برجال عظماء من أبطال الحرب، مثل تشرشل وديغول، اللذين ألهما أجيالًا في متابعة القتال، بل كان بيد مجموعة مجهولة تقريبًا من التكنوقراط كرست نفسها لجعل مستقبل أوربا خاليًا من السلاح. والشخصية البارزة في هذه المجموعة كانت جان مونيه، رجل الأعمال والسياسي الفرنسي الذي قاد حركة توحيد أوربا الغربية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين.
لقد تمسك مونيه بملاحظة الشاعر فاليري وحوّلها إلى مبدأ لتنظيم أوربا، فجعل الخوف من الصراع دافعًا نحو الوحدة الأوربية، تاركًا أهدافها غير واضحة المعالم، سامحًا بذلك لكل شخص بأن يشعر بأن أوربا تسير في الوجهة التي يحبها، وإلى الآن فإن أوربا أشبه برحلة ليست لها محطة نهائية، ونظام سياسي يتجنب الخطط الكبرى والقرارات المحسومة التي تحدد وتحكم السياسات الأمريكية. إن غياب الرؤية هو مفتاح قوة أوربا.
الإنجازات بديلًا للخطط
كان المبدأ الأول الذي التزمه مونيه هو تجنب مسودات الخطط، فإعلان شومان الذي وقعه الفرنسيون والألمان لإطلاق المشروع الأوربي عام 1950 جعل من غياب الخطط مبدأ أساسيًا. فأوربا لن تُبنى دفعة واحدة أو على أسس خطة واضحة كبرى، بل تُبنى من خلال إنجازات ملموسة من شأنها أن تخلق أولًا تضامنًا موجودًا على الأرض. لقد عمل مونيه في عصبة الأمم المتحدة، التي كانت كارثية بعد الحرب العالمية الأولى، ووعى الحاجة إلى أنواع ملموسة من التعاون بدلًا من الاعتماد على فكرة الأسرة الدولية الوهمية، فحاول أن يربط فرنسا وألمانيا من خلال توحيد إنتاج الحديد والصلب، وهي الصناعات نفسها التي صنعت سلاح الحرب ولكنها الآن تضع أسس بناء السلام. كان التكتيك الذي اتبعه دائمًا يرّكز على التفاصيل التقنية بدلًا من أسئلة سياسة كبرى تلفت الانتباه. لقد حاول أن يعالج القضايا الخلافية من خلال تجزئتها إلى قضايا أصغر، لأنه من السهل كثيرًا الوصول إلى اتفاقية بخصوص الحديد والصلب من الوصول إلى اتفاقية بشأن الحرب والسلام، وهكذا عندما تنخرط حكومتا فرنسا وألمانيا في سلسلة لا تنتهي من المفاوضات، فإن الذهاب إلى الحرب يصبح أقل احتمالًا.
إن أسلوب عمل جان مونيه الغريب وضع نهجًا سار عليه الاتحاد الأوربي، وأصبح إحدى أدوات القوى التي يملكها الاتحاد اليوم، رغم المشكلات الاقتصادية الأخيرة التي تعصف ببعض بلدان أوربا وفي مقدمتها اليونان والبرتغال وإسبانيا وإيرلندا، والتي نجمت أساسًا عن الأزمة الاقتصادية العالمية القادمة من الولايات المتحدة الأمريكية. ذلك أن معظم مشكلات أوربا الحالية، كما يرى مؤلف الكتاب، جاءت من خارجها، ونجمت أساسًا عن العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تربط القارة بشتى دول العالم.
وتحت عنوان «متفرقون نقف وموحدون نسقط» يستعرض مارك ليونارد خصائص النظام السياسي الأوربي باعتباره شبكة لا مركزية تملكها الدول الأعضاء، فالاتحاد الأوربي منظمة نحيفة (مثل الهيكل العظمي) يترك القوة الحقيقية للدول الأعضاء المسؤولة عن الإشراف على غالبية أنشطة الاتحاد وتنفيذها. هذه الهيكلية التي لا نظير لها سمحت للاتحاد الأوربي بالنمو من خلال دعم أعضائه، لكنها في الوقت ذاته غيّرت كليًا طبيعة السياسات العالمية. لقد سارت أوربا في الأعوام الخمسمائة الأخيرة على مبدأ «توازن القوى»، إذ لا يمكن أن تسيطر دولة واحدة على القارة الأوربية، وليس أدل على ذلك من الحروب التي خاضتها أوربا في القرنين الأخيرين، ومنها الحرب الفرنسية - البروسية، بالإضافة إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية، اللتين كانتا تخاضان بهدف الحيلولة دون تمكن أي دولة من السيطرة والهيمنة. لكن، منذ تأسيس الاتحاد الأوربي انقلبت فكرة «توازن القوى»، حيث أصبح مفهوم وحدة أوربا نقطة جاذبة لجيرانها، الذين يودون الانضمام إليها، بدلًا من إيجاد التوازن معها. يقول الاقتصادي الأمريكي ريتشارد روزكراين: «إن هذا يحدث للمرة الأولى في التاريخ: تصعد قوة عظمى من دون أن تحرّض دولًا أخرى على التجمع والتوحّد لمواجهتها».. فلماذا تمكنت أوربا من أن تصبح أكثر توحدًا وقوة من دون أن تثير أية عداوة؟!
السياسة تفرّق والاقتصاد يُجَمَّع
إحدى الأطروحات المتداولة تقول إن أوربا قوة عظمى اقتصادية، وليست سياسية، والقوة الاقتصادية تجذب الناس إلى دائرتها، بينما القوة السياسية تخلق العداوة. كذلك فإن الاتحاد الأوربي شبكة وليس دولة، وهذه الشبكة تضم دولًا ذات رؤىً متباينة، لذلك عندما يحاول أحد موازنتها سيُجر إلى محاورات لا نهاية لها مع أعضاء مختلفين، وهنا عنصر آخر من عناصر قوة أوربا. ويجيب المؤلف في الفصل الثالث من الكتاب عن تساؤلات البعض حول سبب تحوّل أوربا من حاضنة لتفريخ الحروب العالمية إلى بيئة مولّدة للسلام والديمقراطية، إن الجواب البسيط عن هذا السؤال هو القانون الدولي، الذي يعتبر سلاح أوربا الطوعي في سعيها لإعادة صياغة العالم. فالمشروع الأوربي يقوم على رغبة في تجاوز عالم منطق القوة في السياسة، حيث يدور الحق مع القوة، والتحوّل نحو مجتمع يقوم على حكم القانون. وقد قام الأوربيون بتحويل العلاقات بين الدول في الاتحاد الأوربي إلى سياسة محلية، حيث اتفق قادة أوربا على مدى السنوات الخمسين الماضية على آلاف المعايير المشتركة والقوانين واللوائح التنظيمية، وقد استطاعت تلك الدول مع بعضها أن تملأ نحو 80 ألف صفحة من النصوص التي تدير كل صغيرة وكبيرة في شئون حياتهم، بدءًا من حقوق الإنسان وانتهاءً بحماية المستهلك.
وداعًا للدولة البوليسية
هذه القوانين تعمل، لأنه لا توجد دولة بوليسية أوربية تنفذها وتفرضها على الدول الأخرى، بل إن كل الدول الأوربية تريد من النظام الأوربي أن ينجح، وكل دولة تريد أن تخضع للقانون الذي أُجبر الجميع على احترامه. وقد وعى ذلك أول رئيس للمفوضية الأوربية حين رأى أن القانون هو أقوى سلاح بيد أوربا، وقال: «إن الأسرة الأوربية هي من صُنع القانون، وقائمة على الاتفاقيات الدولية. هذه الأسرة ليست لديها وسائل مباشرة لتنفيذ سلطتها، فليس عندها جيش ولا شرطة، إنما لديها فريق إداري صغير، ولهذا السبب فإنها تعتمد إلى حد كبير على الدول الأعضاء».
ولا تكمن قوة أوربا في حرصها على تطبيق القانون داخل حدودها فحسب، وإنما في كل مكان من العالم، ولذلك أعد الاتحاد الأوربي جيشًا من المفتشين والمراقبين للتدقيق على سيادة القانون وشرعية الانتخابات في أنحاء العالم. والسبب وراء ذلك أن الدول الأوربية حريصة تمامًا على الدفاع عن القوانين الدولية الشرعية؛ لأن الاتحاد الأوربي في أساسه يقوم على اتفاقية دولية. ولذلك، يعتقد الأوربيون أن الأمور يجب أن تسير وفق القانون الدولي، وأن القانون بوسعه أن يكون أداة قوية لتدعيم وتعزيز نظام سلمي وديمقراطي.
وفي فصل آخر من الكتاب، يفنّد المؤلف الحجج والبراهين على أن جودة الحياة في أوربا وتطور بلدانها الاقتصادي يسبقان الولايات المتحدة واليابان، فالسويد، مثلًا، التي كانت دولة هامشية لا قيمة لها، أصبحت اليوم مقرًا للشركات العملاقة الناجحة في العالم، ومنها «إيكيا» للمفروشات، و«إريكسون» للهواتف الجوالة، و«فولفو» و«ساب» للسيارات، و«آسترا زينيكا» للأدوية. واستطاعت فنلندا في غضون عشر سنوات فقط أن تتحوّل من بلد زراعي خامل، تعتمد معظم أسواقه على روسيا، إلى بلد يقود العالم في تكنولوجيا المعلومات، حيث تعمل فيها شركة «نوكيا» عملاق الهواتف المحمولة، وشركة «لينوكس» المنافسة الحقيقية لـ«مايكروسوفت». وحصلت هولندا والدنمارك على أفضل سجل لإيجاد فرص العمل في العقد الماضي، وذلك من خلال ارتفاع معدلات التوظيف في القطاع الخاص، وتشغيل نسبة عالية من النساء، ونمو الرواتب. وطوّر الأعضاء الجدد الذين دخلوا الاتحاد الأوربي - ومن بينهم بولندا وأستونيا - اقتصاداتهم بسرعة مذهلة، وأصبحت من الدول المؤثرة في العالم.
لقد ارتفع مستوى الرواتب بالنسبة للعامل في أوربا بنسبة أكبر من نظيره في الولايات المتحدة خلال فترة المعجزة الاقتصادية في أمريكا إبان عقد التسعينيات من القرن الماضي، وارتفع الناتج القومي العام في أوربا وأمريكا بالمستوى نفسه تقريبًا، ولكن توجب على الأمريكيين أن يعملوا ساعات أطول ويأخذوا عطل استجمام أقصر لكي يحافظوا على مستوى نظرائهم الأوربيين نفسه. كما أن معظم الشركات الكبرى في العالم أوربية، خاصة تلك العاملة في القطاعات الاقتصادية الرئيسية مثل الطاقة، والاتصالات، والبنوك، والمواصلات، والأدوية. لذلك، يمكن القول إن الحجم الضخم للاقتصاد في أوربا، وجودة حياة مواطنيها، عاملان يدفعان باتجاه سيطرة أوربا على القرن الحادي والعشرين.
هيمنة أوربية
ويختم مارك ليونارد كتابه بالتأكيد على أن بروز العملاق الصيني وأفول القوة الأمريكية يسهمان معًا في صعود أوربا وهيمنة أسلوبها في السياسة والاقتصاد على العالم، فالصين يكمن سرها في أنه كلما تزايد نموها وفرضت نفسها أكثر على المسرح الدولي، أصبحت تشبه أكثر فأكثر الاتحاد الأوربي، فالتنمية الصينية هاجسها الرغبة في الهروب من مصابها التاريخي، ولذلك تضع القيادة السياسية الاستقرار والأمن فوق كل اعتبار آخر. فالدولة الصينية عندما تعتمد سياسة التدخل تحاول أن تزاوج بين الديناميكية الاقتصادية والتماسك الاجتماعي. ويؤمن الصينيون في سياستهم الخارجية بضرورة بناء مؤسسات عالمية مثل الأمم المتحدة وسيادة القانون الدولي، وكذلك تقود الصين في آسيا سياسة الاندماج الإقليمي مع البلدان المجاورة لها، والتي قد تخلق يومًا ما يمكن أن يسمى «الاتحاد الأوربي الشرقي». أما الولايات المتحدة، فيبدو أن قوتها وهيمنتها آخذتان في التراجع منذ مطلع القرن الحالي، في ظل صعود دول مثل الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، واتجاه العالم نحو تعدد الأقطاب، والأهم من ذلك أن النظام العالمي الأمريكي الذي بُني على أساس الدول الوطنية، لم يعد يجد آذانًا صاغية في وقت تتقارب فيه دول العالم وتتحد. لذلك، فإن العالم يسير الآن في مصلحة أوربا التي سيسود نظامها الجديد العالم خلال الألفية الحالية.
---------------------------------
* صحفي وكاتب فلسطيني مقيم في دبي