اسم الوردة

عرض: أحمد عباس صالح

المؤلف هو مؤرخ وفيلسوف معروف. وعندما تحول إلى كتابة الرواية حققت رويتاه انتشارا واسعا. وتحولت الرواية الأولى "اسم الوردة" إلى فيلم سنيمائي ناجح. فما هي قصة هذه الرواية التي حولت مجرى حياة الفيلسوف السابق ..؟

أمبرتو إيكو عالم سيميائي (لغوي) ذو شهرة عالمية، وهو أيضا مؤرخ وفيلسوف بارز اشد جانب تخصصه في علم الجمال وشهرته في دراسة الكاتب الأيرلندي الأشهر جيمس جويس.

وأمبرتو إيكو إيطالي يُدرس في جامعة بولونيا ويعيش في ميلانو، وصدرت له مجموعة مقالات بعنوان "رحلات في نهايات الواقعية" ثم صدرت روايته الثانية "بندول فوكو" فحققت نفس النجاح وترجمت إلى جميع اللغات الحية وباعت عدة ملايين من النسخ.

رواية من نوع نادر
ومن النادر في تاريخ الأدب أن نجد رواية تعالج تاريخا معينا بهذه القدرة من الدراية، فغالبا ما يقصد الأدب هدفا جماليا خالصا، وقلما يمتلك كاتب هذا النوع الأدبي خبرة أستاذ التاريخ المتخصص ولم يكن مطلوبا منه ذلك، أما الرموز والدلالات المبثوثة في الرواية فلا أظن أن أديبا فنانا يملك أن يتعامل معها أو يفض أسرارها كما فعل المؤلف، ولم يكن هذا أيضا ضروريا في فن الرواية.

وزمن رواية "اسم الوردة" هو الثلث الأول من القرن الرابع عشر، وقد اختير هذا الزمن عن قصد، فالأحداث التي تروى هنا وقعت في سنة 1327 حيث كانت سلطة الكنيسة الباباوية تتداعى لصالح الملوك والأباطرة، كما كانت انشقاقات الكنيسة تتتابع كل يوم، وكانت الفرق الدينية المختلفة يتهم بعضها البعض الآخر بالكفر والزندقة، ويقيمون المحارق للخصوم، ويشهد المصلحون أو أصحاب البدع الدينية مذابح وعذابات تفوق الخيال. ولم يسلم من هذه الوحشية أحد، كانت العيون تفقأ والألسنة تقطع والأبدان تحرق، وكان التعصب المجنون هو سمة العصر. وكانت كل فرقة تعتقد أنها تمتلك الحق الأوحد ومن عداها كفرة ومنشقون. وكانوا يعتقدون أنهم يدافعون عن المسيح وكنيسته ويستمدون من هذا الزعم كل شرعيتهم لارتكاب أفظع الجرائم ضد حقوق الإنسان.

وقد زعم المؤلف أنه عثر على مخطوط كتبه راهب يدعى آدسو عن هذه الفترة عندما كان تلميذا لراهب إنجليزي يدعى وليامز. وكان من عادة الناس حينذاك أن يسلموا أولادهم لأحد الرهبان الكبار ليتتلمذوا على يديه ويندرجوا في سلك الرهبان. وكان الراهب الصغير يتبع أستاذه، يكتب ما يملى عليه ويقوم بالأعمال التي تطلب منه، ويتحرك معه أينما ذهب كل الوقت وكأنه أحد أبنائه.

وبعد سلسلة من الوقائع يضيع فيها المخطوط ثم يعثر على نسخة أخرى منه يترك المؤلف للراهب المزعوم أن يحكي قصته.

مادة دسمة وقالب بوليسي
ويكتب الراهب مقدمة لهذه القصة أو المذكرات أو سمها ما شئت يشرح فيها منهجه في الكتابة، وفيها يكشف المؤلف الحقيقي قلقه وتردده - بشكل غير مباشر طبعا - وهو يبحث عن الأسلوب الفني الذي يروي به الرواية.

ويخيل لي أن المؤلف كان خائفا من دسامة المادة التي سيقدمها في هذا الكتاب فلجأ إلى القالب البوليسي، وهي حيلة بارعة لجأ إليها شكسبير أولا ثم برع فيها دستويفسكي، لكي تصبح القراءة مثيرة وحية ويتقبل القارئ العادي أو الجمهور الجرعة الضخمة من الأفكار والمشاعر العميقة في أقل قدر من الضجر. ولذلك دارت الرواية حول التحقيق الجنائي في جرائم غريبة بدأت تظهر في أحد الأديرة الكبرى الشهيرة في الشمال الإيطالي، حيث أرسل الراهب وليامز - المعروف ببراعته في التحقيق وكشف الجرائم - إلى الدير ليتعرف على المجرم، ذلك أنه قد وجد أكثر من راهب مقتولا بطريقة غريبة لا يستطيع أحد التأكد مما إذا كانت انتحارا أو قتلا، وكانت الجثث بلا علامات واضحة.

وهكذا تبدأ الرواية في إطار هذا القالب. ومنذ السطور الأولى يبدي الراهب وليامز براعة خارقة في الاستنتاج إذ يتعرف على جواد " الإبوت" وهو رئيس الكنيسة دون أن يراه وذلك من آثار حوافره ومن الآثار التي تركها على فروع الشجر التي مر بها.

وتدور أحداث القصة جميعها حول التحقيقات التي يجريها هذا الراهب والألغاز والأسرار التي يحلها واحدا إثر واحد.

وبعد هذه المقدمة التي يعتذر فيها المؤلف في الحقيقة أو يستميح عذر القارئ، أو عذر النقاد، يقسم فصول الرواية إلى سبعة أيام، واليوم عنده هو الذي يعتبر في العرف الجاري حينذاك بأنه النهار، فقد كان رهبان هذا الدير ينامون في السابعة مساء ويصحون بين الثانية والثانية والنصف صباحا، وعلى مدار اليوم هناك واجبات عديدة يقومون بها ما بين دينية أو ثقافية، جماعية أو فردية. وكان هذا الدير مشهورا بمكتبته الضخمة التي تقتني مئات المخطوطات ذات الأهمية الكبرى. وكانت الكتب المهمة إما عربية أو يونانية، وكان الراهب المثقف يعرف العربية واليونانية فضلا عن اللاتينية بطبيعة الحال والتى كانت اللغة الرسمية.

وحول هذه المكتبة تدور الرواية فنعرف الكثير عن هؤلاء الرهبان الذين يرممون المخطوطات القديمة، وعن هؤلاء الذين يزخرفون الكتب، وعن أسلوب صيانة المخطوطات في ذلك الوقت.

وعلى الرغم من أن رئيس الكنيسة - وفقا لمذهب البندكتيين - يفرض الصمت والتوجه إلى الكتب الدينية فقط فإن الرهبان الشبان وخاصة الذين يعرفون عدة لغات كانوا يلجأون إلى قراءة هذه المخطوطات ويتأملونها، وفي الرواية سنجد أن كتابا عربيا يدرس الشفرات السرية للمراسلات وطرق صناعة الشفرة خاصة في أثناء الحروب، كان من الكتب التي استعان بها الراهب وليامز "المحقق" ليحل شفرة غامضة تركها راهب مقتول.

ويحكي لنا الراهب آدسو عن هذه المكتبة الغريبة المقسمة لعدة أجزاء والمحتوية على آلاف الكتب الثمينة، وكيف أنها بنيت على أسلوب "المتاهة" بحيث يتوه الغريب فيها ولا يستطيع الخروج، ولا يعرف أحد هذه المتاهة إلا راهب عجوز أعمى ومساعده ورئيس الدير.

صراع الأباطرة
يبدأ الراهب آدسو وصف الفترة التي حدثت في أثنائها القصة أي في سنة 1327، عندما هبط الإمبراطور لويسى افى إيطاليا ليعيد فى المدينة المقدسة مجدها، بعد أن هجرها البابا كليمنت الخامس وذهب إلى أفينيون حيث أقام كرسيه هناك، تاركا المدينة المقدسة للقادة المتنافسين، وحيث تحولت فى ما يشبه السيرك تتحارش فيه الجيوش من كل نوع وتحت أعلام مختلفة.

ولقد تركز الصراع على السلطة في هذا الوقت بين الإمبراطور لويس البافاري وبين فريدريك النمساوي الذي اختير بواسطة كونت بالاثين والآرشبيشوب لمدينة "مين"، ولكن لويس استطاع أن يهزم فريدريك إلى حين. وتولى البابا جاك الكاهورسي الذي أصبح يعرف بالبابا جون الثاني والعشرين، وكان في رأي الراوي أدسو رجلا شريرا أساء اشد الباباوية إساءة فظيعة.

وسرعان ما نشب الخلاف بين البابا جون هذا والإمبراطور على من له الحق في تعيين أو اختيار رجال الكنيسة الكبار.

وفي عبارات سريعة يبين المؤلف الحالة العقلية العامة السائدة حينذاك، وفي إشارة عابرة جدا يلقي الضوء على التصور العام الذي يصبح كالبديهة المفروغ منها، فهو يشير إلى فرنسي ساند ملك فرنسا (من هؤلاء الناس في البلاد الفاسدة الذين ينظرون فقط إلى مصالح بلادهم وشعبهم وغير قادرين على النظر إلى العالم كله باعتباره وطنهم الروحي) ومن خلال هذه الملاحظات وأمثالها نرى أن فكرة الوطن أو القومية لم تكن قد ظهرت بعد وأن الفرنسيين كانوا من أوائل الناس الذين انشقوا على فكرة الوطن الروحي للجميع والتي كانت سائدة وبدأوا يفكرون في وطنهم المحدود فرنسا ويفضلونه على العالم، وكانت هذه فكرة لا دينية ولا أخلاقية وكانت تنم عن الفساد.

على أن روح الوطنية التي ظهرت في فرنسا كانت إيذانا بتصدع الرؤية العالمية التي جاءت بها الكنيسة، وإشارة إلى أنها ستظهر قوية فيما بعد.

وكان المذهب الفرنسيسكاني في أوج قوته وتأثيره، وقد قام المذهب على فكرة أن المسيح فقير، وأنه قُصد أن يكون فقيرا. وأصبحت قضية فقر المسيح موضوعا للجدل بين المذاهب.

وبالطبع يترتب على فكرة فقر المسيح نتائج كثيرة من أهمها ميل النظام للتكافل الاجتماعي. وقد دخل الفرنسيسكان في معارك دامية مع البندكتيين واتهم كل منهما الفريق الآخر بالهرطقة والكفر.

الراوي المراهق والمعلم العجوز
وكان الراوي أدسو من البندكتيين ومع ذلك كان أستاذه ومعلمه الإنجليزي وليامز من الفرنسيسكان، ولهذا كانت المناقشات رائعة بينهما، وكان الراوي في هذا الوقت مراهقا في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة، بينما كان الأستاذ في الخمسين من عمره.

ومن علامات ضعف الكنيسة وتفككها ظهور أفكار علمانية، وكان الراهب الفرنسيسكاني وليامز قد جاء من مدينة أكسفورد البريطانية الشهيرة، حيث كان يدرس على يدي - أو يصاحب - العالم الإنجليزي الأشهر روجرز بيكون، ومعه، اكتشف منهج البحث العلمي الأولي، وتعلم أشياء عملية كصناعة النظارات الطبية التي تساعد ضعاف البصر على القراءة. وكان من الأعاجيب اكتشاف أن الجسور فوق الأنهار من الممكن أن تقوم بدون أعمدة ترتكز عليها، وجاءت فكرة النظر إلى الطبيعة واستقاء المعلومات منها مباشرة.

في اليوم الأول يصف الراهب الصغير آدسو كيف استقبلهم رئيس الدير ويلاحظ مهارة أستاذه وقوة شخصيته، ويعرف بالتقريب أن مهمة الأستاذ هي البحث في جرائم القتل التي حدثت في الدير، ويرى رئيس الدير وهو يمنح الراهب وليامز حق استجواب من يراه من الرهبان الستين الذين يضمهم الدير.

ويلاحظ ادسو أن رئيس الدير رجل محافظ صارم، وأن عقيدته تتركز في كيف يسيطر على أبناء الكنيسة جميعا لينقذهم من الشيطان الذي يتجلى في صور متعددة، والذي لايمكن لأي أحد أن يميزه إلا أهل العلم الوافر من الرهبان الكبار الذين توفروا على العبادة والقراءة، ولم يعد من الممكن أن يخدعهم الشيطان مهما تكن مهارته.

لغة الأصابع
وهكذا نرى بادىء ذي بدء أننا في مواجهة عقليتين مختلفتين تماما، عقلية "الأبوت" رئيس الكنيسة وعقلية الراهب وليامز المتفتحة الجريئة.

ويعرف آدسو التعليمات الصارمة بمنع الكلام أو حب الصمت، وكانت هناك قراءة بصوت عال والرهبان مجتمعون فبل العشاء، يقول القارئ: "دعونا نقلد نبينا في المثال الذي استنه لنفسه حين قال لقد قررت أن أراقب طريقي حتى لا أتورط في خطيئة بلساني، سوف أضع لجاما فوق فمي، سوف أصبح أبكم مذلا نفسي، سوف أمتنع عن الكلام حتى عن الأشياء الشريفة.

ويصف مائدة العشاء في اليوم الأول والطقوس المتبعة فيها حيث يصطف الرهبان جميعا حول الموائد واقفين، تتصدرهم مائدة رئيس الدير ويبدأ جلوسهم عندما يجلس الرئيس ويسرع في توزيع الطعام للرهبان الجدد أولا - تحت التمرين - وبعد ذلك مائدة "الأبوت" ويبدأ الطعام، وقد تعلم الرهبان جميعا لغة الأصابع، فكانوا يتحادثون بالأصابع حتى لا يسمع لهم صوت في أثناء الطعام.

وكان الراهب آدسو سعيدا أنه سمح له بالجلوس إلى مائدة "الأبوت" التي كانت تضم أستاذه وليامز ضيف الشرف والراهب المسئول عن المخازن وأقدم راهبين في الدير، أحدهما جورج الأعمى والذي كان يجلس بجوار وليامز مباشرة والآخر يكاد يكون غير مبصر، وغالبا أنهما جاوزا الثمانين ويعرفان الشيء الكثير عن هذا الدير.

ودار الحديث إلى أن توقف عند ملاحظة جورج أن في الضحك شيئا قريبا من الموت وإلى فساد الجسد الإنساني. وانقطع الحديث لأن "الأبوت" التفت إليهما وأمرهما برفق أن يلزما الصمت، وانتهى اليوم الأول بعد أن قدم رئيس الدير الراهب وليامز للحاضرين، ومع ذلك فقد دارت في دير الصمت هذا أحاديث كثيرة جدا.

وما يكاد اليوم الثاني يبدأ حتى تقع حادثة قتل جديدة، وفي صورة مفزعة، ففي حوض ضخم كان يضم دماء الخنازير المذبوحة وريش الطيور ظهرت ساقان بشريتان، بينما بقية الجسد حتى الرأس مدفونة في هذه الدماء.

هرع الجميع وفي مقدمتهم الأبوت إلى المكان وسحب الجسد وغسلت عن وجهه الدماء، فتبين أنه جسد الراهب فينانتيوس السالفاميكي أحد المتخصصين البارزين في اللغة اليونانية.

جرائم دون عنف
وتمضي الرواية والجرائم تحدث، جريمة وراء الأخرى وليس فيها أي دليل على العنف إلى أن يلاحظ الراهب وليامز أن القتلى زردتى الوجوه ثم يتبين أن ألسنتهم زرقاء وأن إبهام اليد هو الآخر أزرق، وأنهم جميعا ممن يعرفون اللغة اليونانية، وأنهم أيضا ممن لهم عمل متصل بالمكتبة.

وفي الدير توجد صيدلية يديرها رجل خبير في الأعشاب ويقوم بنفسه بالإشراف على مزرعة خاصة يستنبت فيها ما يخص عمله ويستخرج منها ما يريده من أدوية وعقاقير، وكان الرجل خبيرا في هذا المجال، وكم دارت بينه وبين الراهب وليامز مناقشات حول هذه النباتات الغريبة التي يصل بعضها في غرابته إلى درجة الموت الفوري لمتعاطيها.

وطاف الراهب وليامز في هذا المعمل وشاهد بعينيه الزجاجات المعبأة بألوان مختلفة من العقاقير وشاهد بنفسه العمليات التي يقوم بها الصيدلي، وعرف من مناقشاته معه بعض الكتب العربية الهامة في هذا المجال، وخاصة في تركيب السموم.

وكذلك تحدث آدسو (الراوي) عن الزيارات التي قام بها وليامز لصانع الزجاج، وهو الرجل المسئول عن صناعة الزجاج في الدير والذي يقوم بتجهيز الزجاج المطلوب، سواء كان للأبواب أو الشبابيك أو الأوعية والمخابير، وحكى عن الصداقة التي نشأت بينهما والمعلومات التي راح يعطيها الراهب وليامز لصانع الزجاج عن المكبرات الزجاجية، وشرع الرجل فعلا في التجريب لصناعة هذه العدسات العجيبة التي جاء بها وليامز، وكانت نظارته قد سقت من المكتبة عن قصد من القاتل غالبا، واستطاع الرجل بعد جهد شاق أن يصنع عدسة تكبر الأشياء التي توجه إليها.

وتركز اهتمام وليامز في النهاية حول المكتبة يدرس أسارها ومداخلها وأبوابها السرية ورموز فتحها وغلقها ونظامها الهندسي الكلي، مستعينا في ذلك بكتاب كان مخبأ في المكتبة لا يسمح لأحد بقراءته، ومضى وليامز في البحث عن كتاب يوناني يقرؤه هؤلاء الناس فيموتون.

وفي هذه الأثناء دار حوار عجيب سجله آدسو بين الراهب وليامز والراهب الأعمى جورج حول القصص المضحكة والكوميديا.

فقال وليامز: إني أتعجب لماذا تعارض بشدة فكرة أن المسيح من الممكن أن يكون ضحك يوما ما، فإني أعتقد أن الضحك دواء جيد لإراحة الذهن وتخليصه من التوترات الحادة، كما لو كان الإنسان يتناول حماما دافئا.

فقال جورج: الحمامات نعم، ولقد نصح الإكويني نفسه (يقصد الفيلسوف توما الإكويني) بالحام وأشار إلى فائدته في مساعدة الإنسان على أن يتخلص من الأحزان التي يمكن أن تتحول إلى انفعال سيىء إذا لم توجه إلى شر لإزالته. الحمامات تعيد التوازن للعواطف، أما الضحك فيهز البدن هزا ويشوه ملامح الوجه ويجعل وجه الإنسان شبيها بالحمار.

فقال وليامز: الحمير لا تضحك، والضحك ميزة للإنسان فقط، وهو علامة على عقلانيته، فقال الراهب الأعمى: الكلام علامة على عقلانية الإنسان أيضا، ولكن بالكلام من الممكن أن يجدف الإنسان ضد الله، ليس كل ميزة للإنسان بالضرورة صالحة.

ويستمر الحوار في عنف إلى أن نكتشف أن المحور الرئيسي للرواية هو الصراع بين نظرية الضحك، والنظرية المضادة التي تحرم الضحك باعتباره طريقا إلى الهلاك. وفي هذا الجانب لا حدود لغنى هذه الرواية بالحوار الفلسفي العميق حول مثل هذه القضايا التي لم تعد من مشاكل عصرنا في الظاهر لكنها كامنة حتى الأعماق في التوجيهات الفكرية المختلفة، وهناك صلة ما بين عدم الضحك والتسلط الديكتاتوري في أقصى صورة، وهناك صلة أيضا بين الضحك والعقلانية وما يؤدي إليه ذلك من تسامح وانفراج.

ومن المشاهد التي قل أن نجد لها مثيلا في الروائع الروائية سقطة الراهب الصغير آدسو حين استسلم لشابة في مثل سنه تقريبا في كرار المطبخ كانت تأتي لراهب أبله يدعى سلفاتوري يخدم هناك ليعطيها سقط الذبائح أو بقايا الأطعمة ويضاجعها، وكان هذا الراهب في سن أبيها وكان بشع الخلقة.

ظهرت هذه الفتاة أمام الصبي الراهب وهو يتجول في أركان المطبخ عند الغروب، وخاف الشابان أحدهما من الآخر لحظة ثم تخاطب الجسدان بلغة إيمائية باهرة وانطلقا في سباحة هائلة في الحب حتى ابتل أوارهما.

صور المؤلف هذه السقطة من وجهة نظر راهب مؤمن يعرف مدى خطورة هذه الخطيئة فهي جوهر كل شيء في عقيدته، ومع ذلك استطاع أن يكون أمينا وموضوعيا وهو يرصد انفعالاته واحدا بعد الآخر، وأن يتأمل الحدث من بدايته حتى النهاية، وأن يكتشف مع ذلك أن جوهر الكرامة الإنسانية ونقاوتها يكمنان في هذا التراضي العجيب وما يحدثه من تموجات رفيعة المستوى في الروح والبدن معا.

وعندما اعترف لأستاذه طالبا توقيع العقوبة اللازمة فوجى برد عجيب، لقد سامحه الرجل ببساطة وقال إنه سيستفيد من هذه التجربة عندما يكبر ويقع بين يديه خاطئ من الخطاة.

عالم مختل عقليا
وفي هذا العالم الدموي الكئيب المختل عقليا بغير شك نكتشف في النهاية أن القاتل هو ذلك الراهب الأعمى الذي نصب نفسه راعيا وحاميا للمسيح ولكنيسته، وقد ظن أن أفضل شيء لمقاومة المسيخ الدجال الذي كان هو يتحدث عن علاماته التي تظهر كل يوم، هو أن يفرض على الناس فرضا العبوس والصرامة والرعب، وأن يمنع عنهم بصفة خاصة الضحك، لأنه أساس كل البلاء، أي أن يمنع عنهم التفكير، وكان كتاب "الشعر" الذي ألفه أرسطو قبل ظهور المسيح بخمسة قرون قد احتوى على جزأين أحدهما تكلم عن الشعر الغنائي والمللحمي والتراجيدي، واختص الجزء الثاني بالكوميديا.

وكان كتاب الشعر نفسه مفقودا ولم يعرف إلا من خلال الإبداعات العربية في الأندلس حيث وجدت عدة ترجمات له منها ترجمة لابن رشد الفيلسوف العربي العقلاني الذي أصبح أساس حركة الاستنارة في عصر النهضة الأوربي، إلى أن عثر على نسخته اليونانية المنقولة عن نسخة أصلية قديمة، وفي الرواية وقعت هذه النسخة الوحيدة بين يدي هذا الراهب الديكتاتور فقرر أن يمنعها من التداول حتى يمنع الضحك من الانتشار، ثم لاحظ أن الرهبان الشبان يتسللون بطرق ما إلى المكان الخفي المحفوظة فيه هذه النسخة فيقر أونها وتبدأ أعراض الضحك تظهر في الدير، ولذلك هداه عقله المريض إلى أن يسرق زجاجة السم الناقع من معمل الصيدلي وأن يسمم أوراق الكتاب جميعا حتى إذا عبثت به الأيدي وفتحت صفحاته ابتل ريقها بالسم نتيجة تقليب الصفحات بالإبهام وقتل القارئ ودفن السر معه.

اكتشف الراهب وليامز حقيقة هذه الوقائع الرهيبة وقبل أن يتمكن من القبض على الراهب الأعمى راح الرجل يأكل أوراق الكتاب ويجري في الظلام فلا يلحقه وليامز ولا آدسو لخبراته بالممرات ولتميزه في الظلام عن المبصرين، إلى أن سقط المصباح وبدأت النيران تشب في المكتبة.

وأتت النيران على الدير كله، واحترق الراهب المجرم قريرا بانتصاره، أما وليامز ومساعده آدسو فقد نجوا من الحريق، ليكتب لنا آدسو المزعوم هذه الرواية الباهرة.

 

أمبرتو إيكو