الكويت... دور ثقافي مميز
ارتبط اسم الكويت بالثقافة منذ العقود الأولى لنشأتها، فقد ذهبت المصادر إلى أن الكويت أسست في العام 1022 هــ الموافق 1613م، على حين وصلتنا عينات من المخطوطات التي نسخت في الكويت مبكرًا، وتعود أصداؤها إلى العام 1682م . ويعود السبب في الاهتمام المبكر بالثقافة في دولة الكويت إلى عوامل عدة، لعل من أهمها: طبيعة السكان الذين وفدوا إلى هذه المنطقة ينشدون فيها الأمان، وينأون بأنفسهم عن بؤر الصراع القبلي والعرقي والطائفي في المناطق المجاورة، وطبيعة الموقع المميز للكويت والذي يقع في الطرف الشمالي للخليج العربي ليكون محطة لنقل البضائع القادمة من الهند وشرق آسيا بحرًا، إضافة إلى كونها محطة لنقل البضائع القادمة من وسط الجزيرة كالخيول في طريقها البحري إلى الهند عن طريق السفن الكويتية، وطبيعة النظام السياسي في الكويت والقائم على الشورى، ووجود القضاء المستقل منذ بداية الكويت وأحد المؤثرات الخارجية.
كانت الكويت منفتحة على محيطها العربي وعلى العالم منذ نشأتها، وقد استقبلت أعدادًا كبيرة من العلماء والمفكرين والزعماء العرب الذين كانوا موضع الاحترام والتقدير، ويضاف إلى ذلك أن انشغال الكويتيين بالتجارة والنقل البحري أتاح لهم التعرف على ثقافات كثيرة من الشعوب في شرق آسيا وشرق إفريقيا والتأثر بتلك الثقافات.
وعلى تعاقب السنين كان الأمان والاستقرار عنوان هذه الأرض الخيرة وأهلها الطيبين، فتعاقب على حكمها أمراء أخيار من أسرة الصباح الكرام، نادوا أهلها إلى الإقبال على أصول الدين واللغة منذ الصغر. ومن هنا كانت بذور الثقافة تنمو بثقة واستمرار.
ومع بواخر عوائد النفط في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات كانت الكويت قد بدأت عهدًا جديدًا تشعّبت والتقت فيه علاقاتها بالعالم العربي، بل وبالعالم كله، واستخدمت لتيارات شتى من الأفكار والثقافات، يحملها إليها العاملون العرب وغير العرب المقيمون بها، كما يعود أبناؤها الضاربون في أنحاء الأرض طلبًا للعلم أو بحثًا عن آفاق جديدة في الحياة.
ولقد ظهرت آثار التغيير الاقتصادي على الفنون الأدبية وعلى العاملين بها، وعلى نوعية القضايا الاجتماعية التي يناقشها المفكرون والناس عامة، فقد ظهرت المرأة في المجتمع كما صارت كاتبة أدبية وصحفية، كما ظهرت فنون أدبية لم يكن يعرفها جيل ما قبل النفط، وظهر المسرح الذي بدأ مع بداية الخمسينيات، وما لبث أن ازدهر وتعددت الفرق وألوان نشاطها مع بداية الستينيات، وكذلك على صعيد القصة، ولمعت أسماء كويتية كثيرة في مجلتي «البصمة» و«الرائد» وغيرهما من مجلات الخمسينيات. وكذلك سنلحظ فارقًا واضحًا في الفن الشعري قبل النفط وبعده، وهو الفن العريق في البيئة الممتد مع تاريخها، ومع معايشة البيئات المختلفة، وتطور الفن الشعري العربي وأساليب الشعراء الكويتيين، اختلفت لغتهم وتجارتهم عن أولئك الذين عاشوا في ظل المجتمع المعزول السابق.
ولم تعد الثقافة بعد ذلك نشاطًا معزولًا أو ضبابيًا غير محدد لفئة قليلة من الناس تتبادل فيما بينها الشؤون الثقافية في حلقات خفية، بل أصبحت الثقافة قاطرة التنمية والتقدم للكويت وللأمة العربية.
لقد شهدت الكويت حركة تجديد دؤوبة خاصة منذ مطلع القرن العشرين، وقام فيها منذ ذلك الحين مجتمع مدني شغوف بالتعليم والمعرفة، وفي هذا الجو أسست المدارس (المدرسة المباركية كأول مدرسة نظامية سنة 1911)، بالإضافة إلى الجمعيات والنوادي (الجمعية الخيرية سنة 1913 (النادي الثقافي سنة 1924)، وصدرت أول مجلة ثقافية شاملة وهي مجلة الكويت سنة 1928، والتي تعتبر الأولى من نوعها في الخليج العربي، وأخذ التعليم في التوسع ولاسيما في الثلاثينيات من القرن الماضي محتضنًا الذكور والإناث، وبدأت البعثات الطلابية إلى الخارج من أجل تحصيل المزيد من العلم والثقافة.
ربما كان عام 1958، كما يقول مؤرخ الثقافة الكويتية الدكتور محمد حسن عبدالله، هو البداية الحقيقية لمشروع الثقافة في الكويت، وشهد هذا العام حدثين على قدر كبير من الأهمية يقدمان إشارة الانطلاق في الكويت:
- أحدهما: انتقال الدورة الرابعة لمؤتمر الأدباء العرب إلى الكويت بعد بيروت ودمشق والقاهرة، مما كان بمنزلة الإعلان الرسمي عن دخول دولة الكويت المؤثر مجال احتضان العمل الثقافي العربي المشترك.
- ثانيهما: إصدار مجلة العربي، باعتبارها من أكثر المجلات عروبة وانتشارًا واستمرارًا بتصميم وإدارة لم يعرف لها مثيل في مجال الإصدارات الخليجية والعربية على السواء.
يلحظ المراقب بعد ذلك بسهولة الخط التصاعدي الذي اتبعته هذه المسيرة في النصف الثاني من القرن الماضي مع إصدار وزارة الإعلام (منذ أن كانت مجرد دائرة للإرشاد والأنباء) أمهات الكتب، ومن ثم إنشاء المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في يوليو 1973، ومطبوعاته الدورية: سلسلة المسرح العالمي - إبداعات عالمية - عالم الفكر - عالم المعرفة - الثقافة العالمية، هذا بالإضافة إلى الإصدارات التراثية والثقافية المتميزة، ولاسيما استكمال ومراجعة وطباعة أجزاء كمعجم «تاج العروس»، ثم الاهتمام بثقافة وحاجات ذوي الاحتياجات الخاصة»، مثل مطبوعة للمكفوفين تضم مقتطفات بطريقة «برايل» وهي جميعها إصدارات يشهد الجميع بريادتها على مستوى الوطن العربي ككل. ثم كان إنشاء مؤسسة التقدم العلمي (1976)، المعنية بالأبحاث ومنح الجوائز التشجيعية، ومجلس النشر العلمي لجامعة الكويت (1986)، وبذلك نمت صروح العلم والفكر وتكاملت مع حلقات النهضة الأخرى في المجتمع المدني، ومن رابطة الأدباء إلى اتحاد المسارح وجمعية الفنانين التشكيليين مرورًا برابطة الاجتماعيين وعشرات النوادي والجمعيات المهتمة بالشأن الثقافي.
ولم يكن مصادفة أن يكون للكويت الدور البارز في مشروع «الخطة الثقافية الشاملة للتنمية العربية» التي دعت إليها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، لتثبت الكويت دورها البارز في قيادة الشأن الثقافي العربي من خلال استضافة أعمال اللجنة في منتصف الثمانينيات. وحقًا قيل إن الكويت لم تكن تُذكر إلا ويُذكر معها دورها المتميز في الثقافة العربية. وإذا كان الغزو العراقي الغاشم (1990) قد نجح في تدمير منشآتها والسطو على محتوياتها، فإنه فشل فشلًا ذريعًا في نزع هويتها الثقافية أو في نزع الهوية العربية لهذه الثقافة.
كانت إرادة الكويت أن تواصل «مجلة العربي» مسيرتها، وقد تم ذلك بالفعل بعد تحرير الكويت، وفي مطلع القرن الواحد والعشرين كان قرار الكويت أن تستكمل النهضة الثقافية، فعادت منشوراتها وأسابيعها الثقافية داخل وخارج الكويت في العواصم العربية والدول الصديقة، وعادت إصداراتها المتميزة لعالم المعرفة وعالم الفكر ومجلة العربي وبقية الإصدارات لتستكمل رسالتها الثقافية الرائدة، ولم تمض بضع سنوات حتى أقر لها الأشقاء من خلال المنظمات الثقافية والدولية أن تكون الكويت عاصمة للثقافة العربية عام 2001 م، وعاصمة للثقافة الإسلامية عام 2016م، وظل للكويت هذا الدور الثقافي المتميز والمستمر حتى عامنا هذا 2021م رغم ما يمر به العالم من استمرار لجائحة كورونا ■