الوطن البديل في سياق القصيد

الوطن البديل في سياق القصيد

يبدو الاتساق بين مكونات النص الشعري أمرًا مستقرًا لدى منشئي النصوص العالية، والكلمات تقود هذا الاتساق طوال الوقت؛ ولهذا لم يبعد صلاح عبدالصبور عن الحقيقة، حين أعلى من شأن الكلمة في الشعر في كتابه «حياتي في الشعر»؛ لأنه بإيجاز لا يُكتب بالأفكار، ولا بالصور العيانية كالأحلام؛ وإنما يُكتب الشعر بالكلمات، وذهب إلى ضرورة لجوء الشاعر إلى رموز الكلام أيضًا؛ لكي يستطيع وصف هذا العالم الجديد.

على‭ ‬هذا‭ ‬الأساس،‭ ‬يمكن‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬وطن‭ ‬بديل‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬المعاصر‭ ‬السعيد‭ ‬عبدالكريم‭ -  ‬وهي‭ ‬إحدى‭ ‬قصائد‭ ‬ديوانه‭ ‬‮«‬ركعتان‭ ‬مما‭ ‬عليّ‮»‬‭ -‬؛‭ ‬فالعنوان‭ ‬الذي‭ ‬يتألّف‭ ‬من‭ ‬ملفوظين‭ ‬اسميين‭ ‬مجرّدين‭ ‬من‭ ‬الألف‭ ‬واللام،‭ ‬يذهبان‭ ‬بالإبهام‭ ‬إلى‭ ‬مدى‭ ‬بعيد،‭ ‬ويتضافر‭ ‬التنكير‭ ‬هنا‭ ‬مع‭ ‬الدلالة‭ ‬الظاهرة‭ ‬التي‭ ‬يحملها،‭ ‬فكلاهما‭ ‬مُبهم‭ ‬مستَغْرب،‭ ‬وعندما‭ ‬يُقهر‭ ‬الإنسان،‭ ‬فيكون‭ ‬لاجئًا،‭ ‬أو‭ ‬تضطره‭ ‬الويلات‭ ‬إلى‭ ‬اتخاذ‭ ‬وطن‭ ‬مغاير‭ ‬لموطنه،‭ ‬موطن‭ ‬النشأة‭ ‬والصبا‭ ‬والفتوة،‭ ‬تتساوى‭ ‬لديه‭ - ‬عند‭ ‬ذاك‭ - ‬بقية‭ ‬البلدان،‭ ‬فالمهم‭ ‬هو‭ ‬النجاة،‭ ‬المكان‭ ‬الجديد‭ ‬يلفّه‭ ‬الإبهام،‭ ‬لأنّه‭ ‬مجرد‭ ‬‮«‬وطن‭ ‬بديل‮»‬‭ ‬غير‭ ‬معيّن،‭ ‬وقرين‭ ‬الجهالة‭ ‬والغموض‭.‬

ليس‭ ‬هذا‭ ‬فحسب،‭ ‬فالتركيب‭ ‬بوصفه‭ ‬صيغة‭ ‬تداولية،‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬دلالة‭ ‬النفور‭ ‬والإكراه،‭ ‬ويتردد‭ ‬وكأنه‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬سيئ‭ ‬السمعة‮»‬‭ ‬أحيانًا،‭ ‬ويستتبع‭ ‬ذلك‭ ‬عند‭ ‬مَن‭ ‬يقبل‭ ‬به،‭ ‬الرفض‭ ‬والاستنكار‭ ‬لهجر‭ ‬الجذور‭ ‬والأصول،‭ ‬ويُواجه‭ ‬بأصوات‭ ‬تدعوه‭ ‬إلى‭ ‬التشبث‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الوطن‮»‬‭ - ‬بالألف‭ ‬واللام‭ - ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شيء‭.‬

    ‬تتولّد‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬كله،‭ ‬ثنائية‭ ‬ضدية‭ ‬بين‭ ‬‮«‬وطن‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تحيل‭ ‬إلى‭ ‬التوطن‭ ‬والجذور‭ ‬والحياة‭ ‬المستقرة،‭ ‬و«بديل‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تحيل‭ ‬إلى‭ ‬التنقل‭ ‬والتغيّر‭ ‬والتبدل‭. ‬فالوطن‭ ‬البديل‭ ‬حاضر‭ ‬يستدعي‭ ‬ذكرى‭ ‬الوطن‭ ‬الأصيل،‭ ‬وهما‭ ‬متعارضان‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬والشعور‭.‬

ويستنهض‭ ‬التركيب‭ ‬الاسمي‭ ‬سؤالًا‭ ‬مفارقًا‭ ‬للاعتياد‭ ‬والألفة؛‭ ‬لكنّه‭ ‬قائم‭ - ‬على‭ ‬أية‭ ‬حال‭ - ‬في‭ ‬خاطر‭ ‬التلقي‭ ‬حين‭ ‬يطالع‭ ‬العنوان،‭ ‬هو‭: ‬وهل‭ ‬هنالك‭ ‬أوطان‭ ‬بديلة؟‭ ‬أو‭ ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬للوطن‭ ‬أن‭ ‬يُستبدل؟‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬يمثّل‭ ‬جوهر‭ ‬القصيدة،‭ ‬وتتداعى‭ ‬حول‭ ‬نقطة‭ ‬ارتكازه‭ ‬المعاني،‭ ‬وتتنادى‭ ‬الأفكار‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬السياق‭ ‬السياسيّ‭ ‬الضاغط‭ ‬يتّسع‭ ‬لهذا‭ ‬وأكثر،‭ ‬وتستحيل‭ ‬فيه‭ ‬الجغرافيا‭ ‬والتاريخ‭ - ‬كثيرًا‭ - ‬إلى‭ ‬مجرد‭ ‬ورقة‭ ‬من‭ ‬أوراق‭ ‬اللعبة‭ ‬المقيتة،‭ ‬وتغدو‭ ‬الهويات‭ ‬في‭ ‬مهبّ‭ ‬الريح؛‭ ‬إلّا‭ ‬أن‭ ‬الضمير‭ ‬الإنساني‭ ‬الصحيح‭ ‬يأبى‭ ‬استحقاقات‭ ‬الألاعيب،‭ ‬ويعتصم‭ ‬بوطن‭ ‬الحق‭ ‬والعدل،‭ ‬والحقيقة‭ ‬أبدًا‭.‬

 

دلالة‭ ‬عميقة

يُسلم‭ ‬العنوان‭ ‬إلى‭ ‬الاستهلال،‭ ‬الذي‭ ‬يأتي‭ ‬مماثلًا‭ ‬للعنوان‭ ‬في‭ ‬التركيب‭ ‬اللفظي،‭ ‬وفي‭ ‬التكوين‭ ‬الإيقاعي‭:‬

وطن‭ ‬بديل

وَلَدٌ‭ ‬جَمِيلْ

فِي‭ ‬وَجْهِهِ

عَامَانِ‭ ‬مِنْ‭ ‬وَجَعٍ‭ ‬عَلَى‭ ‬

عَامَيْنِ‭ ‬مِنْ‭ ‬هَمٍ‭ ‬ثَقِيلْ‭ ‬

 

تتماثل‭ ‬الجملتان‭ ‬في‭ ‬الإيقاع‭ (‬متفاعلان‭)‬،‭ ‬وفي‭ ‬البنية‭ (‬اسم‭ ‬نكرة‭)‬،‭ ‬وفي‭ ‬الإخبار‭ ‬الوصفي‭ (‬بديل‭/ ‬جميل‭)‬،‭ ‬لكنهما‭ ‬يتقاطعان‭ ‬في‭ ‬الدلالة‭ ‬العميقة،‭ ‬وفي‭ ‬الضرورة‭ ‬الوجودية،‭ ‬فالذات‭ (‬ولد‭) ‬لا‭ ‬وجود‭ ‬لها‭ ‬ولا‭ ‬تحقق،‭ ‬دون‭ ‬المكان‭ (‬وطن‭). ‬يمتد‭ ‬التماثل‭ ‬في‭ ‬التنكير‭ ‬من‭ ‬الدلالة‭ ‬الأوّلية‭ (‬الإبهام‭)‬،‭ ‬إلى‭ ‬الدلالة‭ ‬العامة،‭ ‬فالقضية‭ ‬لا‭ ‬تخصّ‭ ‬فردًا‭ ‬بعينه،‭ ‬أو‭ ‬ولدًا‭ ‬محددًا،‭ ‬نتلمس‭ ‬ملامحه،‭ ‬في‭ ‬علياء‭ ‬تمسكه‭ ‬بالوطن،‭ ‬إنها‭ ‬تشمل‭ ‬الإنسان‭ ‬المواطن،‭ ‬كل‭ ‬الإنسان‭.‬

وكما‭ ‬يتوازى‭ ‬المكون‭ ‬الثنائي‭ ‬للعنوان‭ (‬وطن‭ - ‬بديل‭) ‬مع‭ ‬جملة‭ ‬الاستهلال،‭ ‬فإنّ‭ ‬البعد‭ ‬الزمني‭ ‬لبطل‭ ‬النص،‭ ‬يأخذ‭ ‬تكوينًا‭ ‬ثنائيًا‭ (‬عامان‭... ‬على‭ ‬عامين‭)‬،‭ ‬ولا‭ ‬يدلّ‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬عمره‭ ‬بالسنوات،‭ ‬فما‭ ‬أبعد‭ ‬ذلك‭ ‬عن‭ ‬السياق،‭ ‬وإنما‭ ‬هي‭ ‬سنوات‭ ‬القضية،‭ ‬وعمرها‭ ‬الذي‭ ‬تقلّب‭ ‬على‭ ‬الجمر‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬الأربع‭ ‬التي‭ ‬توالت‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬الربيع‭ ‬العربيّ‭.‬

ثم‭ ‬تتبدى‭ ‬ملامح‭ ‬الولد‭/ ‬الإنسان‭ ‬أو‭ ‬بطل‭ ‬النص،‭ ‬فيأتي‭ ‬دون‭ ‬اسم،‭ ‬دون‭ ‬تعيين،‭ ‬والاسم‭ ‬هوية‭ ‬مقيّدة،‭ ‬وعلامة‭ ‬ضد‭ ‬التأويل‭ ‬المطلق،‭ ‬وبهذا‭ ‬يتضافر‭ ‬في‭ ‬شخصية‭ ‬البطل‭ ‬خيطان‭ ‬عريضان‭ ‬هما‭ ‬الحلم‭ ‬والوجع؛‭ ‬فالشخصية‭ ‬الحالمة‭ ‬بوطن‭ ‬المحبة‭ ‬والعدل،‭ ‬والجمال‭ ‬الذي‭ ‬ينبع‭ ‬من‭ ‬الداخل،‭ ‬من‭ ‬أول‭ ‬ملامحها‭ ‬‮«‬كن‭ ‬جميلًا،‭ ‬ترَ‭ ‬الوجود‭ ‬جميلًا‮»‬،‭ ‬تحلم‭ ‬بهناءة‭ ‬الطفولة،‭ ‬وأمانها‭ ‬لكل‭ ‬أبناء‭ ‬الوطن،‭ ‬وبالقمح‭ ‬الوفير‭ ‬لكل‭ ‬فقرائه،‭ ‬وتحلم‭ ‬بأن‭ ‬ترى‭ ‬وطن‭ ‬الشموخ‭ ‬متقدمًا،‭ ‬صاعدًا،‭ ‬وهو‭ ‬يعانق‭ ‬أنوار‭ ‬العلم‭ ‬والمعرفة،‭ ‬إن‭ ‬الحلم‭ ‬لا‭ ‬ينفكّ‭ ‬عن‭ ‬الثورة،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬قرينها،‭ ‬والثائر‭ ‬حالم‭ ‬كبير،‭ ‬وهما‭ - ‬الحلم‭ ‬والثورة‭ - ‬يمنحان‭ ‬القصيدة‭ ‬صورًا‭ ‬هي‭ ‬مزاج‭ ‬من‭ ‬الخيال‭ ‬والواقع،‭ ‬يقول‭ ‬غاستون‭ ‬باشلار‭: ‬‮«‬يجب‭ ‬ملاحقة‭ ‬الصور‭ ‬التي‭ ‬تولد‭ ‬في‭ ‬ذواتنا،‭ ‬التي‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬أحلامنا،‭ ‬هذه‭ ‬الصور‭ ‬المشحونة‭ ‬بمادةٍ‭ ‬حُلميّة‭ ‬ثرية‭ ‬وكثيفة،‭ ‬هي‭ ‬غذاءٌ‭ ‬لا‭ ‬ينضب‭ ‬للخيال‭ ‬المادي‮»‬،‭ ‬أما‭ ‬شاعرنا‭ ‬فيقول‭:‬

رَشَّ‭ ‬اْلبَنَفْسَج‭ ‬فِي‭ ‬نَبَاتَةِ‭ ‬صَوْتِهِ

وَلِقَمْحِهِ‭ ‬غَزَلَ‭ ‬الْحُقُولْ

وَتَبَسَّمَتْ‭ ‬أَحْلَامهُ

لِحَبِيبَةٍ‭ ‬فِي‭ ‬ذَاتِ‭ ‬جِيْلْ

وَتَصَاعَدَتْ‭ ‬لِلضَّوْءِ‭ ‬أَحْلَامُ‭ ‬الْفَتَى

فَتَعَانَقَا

احْتَضَنَتْ‭ ‬قَتِيْلْ

 

مشهدية‭ ‬رمزية

يتصاعد‭ ‬الحلم،‭ ‬ويأخذ‭ ‬‮«‬قوة‭ ‬الأسطورة‮»‬‭ - ‬بتعبير‭ ‬جبرا‭ ‬إبراهيم‭ ‬جبرا‭ -‬؛‭ ‬ليتّسق‭ ‬هذا‭ ‬الملمح‭ ‬الحالم‭ ‬من‭ ‬شخصية‭ ‬البطل‭ ‬مع‭ ‬وسائل‭ ‬التصوير‭ ‬التي‭ ‬تعددت‭: ‬تراسل‭ ‬الحواس‭ (‬فوجدنا‭ ‬الصوت‭ ‬معطرًا‭)‬،‭ ‬والتشخيص‭ (‬فرأينا‭ ‬الأحلام‭ ‬تبتسم‭ ‬وتعانق‭)‬،‭ ‬والتجسيد‭ (‬في‭ ‬نباتة‭ ‬صوته‭). ‬ثم‭ ‬يستبد‭ ‬خيط‭ ‬الوجع‭ ‬بكيانه،‭ ‬فتتجلّى‭ ‬في‭ ‬صفحة‭ ‬وجهه‭ ‬أعوام‭ ‬الأوجاع‭ ‬والهموم،‭ ‬ومع‭ ‬تراكمها‭ ‬نراه‭ ‬يسافر‭ ‬في‭ ‬الزمان‭ ‬الذي‭ ‬ولّى،‭ ‬ليستحضر‭ ‬صورًا‭ ‬من‭ ‬طفولة‭ ‬الحكايات‭ ‬والألعاب،‭ ‬ومن‭ ‬صباه‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تغمره‭ ‬الأنغام‭ ‬والمواويل،‭ ‬ثم‭ ‬من‭ ‬فتوته‭ ‬المزدحمة‭ ‬بالعمل‭ ‬والكد،‭ ‬والسفر‭ ‬والحب،‭ ‬والأحلام،‭ ‬والثورة‭ ‬بالطبع،‭ ‬وعند‭ ‬الأخيرة‭ ‬يتجمّع‭ ‬حصاد‭ ‬العمر،‭ ‬في‭ ‬مشهدية‭ ‬رمزية،‭ ‬يتراءى‭ ‬فيها‭ ‬خيط‭ ‬درامي‭ ‬شفيف،‭ ‬فتتساقط‭ ‬دموع‭ ‬الفرح،‭ ‬حين‭ ‬تبزغ‭ ‬الثورة‭ ‬وفجرها‭ ‬الساطع،‭ ‬وتقيم‭ ‬ساحات‭ ‬وسيعة‭ ‬من‭ ‬الإنسانية،‭ ‬تتّسع‭ ‬
لـ‭ ‬‮«‬حقول‭ ‬النور‮»‬‭ ‬والسلام‭.‬

وعند‭ ‬نقطة‭ ‬النور،‭ ‬أو‭ ‬بوابة‭ ‬الوصول،‭ ‬تنهزم‭ ‬الأحلام‭ ‬الثورية،‭ ‬فتقام‭ ‬متاريس‭ ‬من‭ ‬الصراعات،‭ ‬لتحول‭ ‬دون‭ ‬المطامح‭ ‬النبيلة،‭ ‬ودون‭ ‬الآمال‭. ‬وعند‭ ‬ذاك‭ ‬يتحول‭ ‬الحدث‭ ‬الدرامي؛‭ ‬فيغدو‭ ‬مأساويًا‭ ‬خالصًا،‭ ‬و«تغتال‮»‬‭ ‬الآمال‭ ‬والأحلام‭ ‬دون‭ ‬هوادة،‭ ‬ويستند‭ ‬إلى‭ ‬العطف‭ ‬بالفاء‭ ‬‮«‬فاغتالت‭ ‬مناسكه‭...‬‮»‬،‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬سرعة‭ ‬الحدث‭ ‬واقتحامه‭ ‬المباشر‭. ‬لقد‭ ‬انتكس‭ ‬عُمر‭ ‬الفتى،‭ ‬وعادت‭ ‬حقائب‭ ‬الثوار‭ ‬ملأى‭ ‬بالموت،‭ ‬والأحلام‭ ‬المنكسرة،‭ ‬وبقايا‭ ‬من‭ ‬دمار‭.‬

ثم‭ ‬يستمر‭ ‬انعكاس‭ ‬‮«‬الوطن‭ ‬بديل‮»‬‭ - ‬بوصفه‭ ‬علَمًا‭ ‬على‭ ‬مكان‭ - ‬على‭ ‬بناء‭ ‬النص،‭ ‬فتحضر‭ ‬الدلالات‭ ‬المكانية‭ ‬في‭ ‬مكوناته‭ ‬المعجمية‭ ‬والأسلوبية،‭ ‬فنجد‭ ‬القمح‭ ‬في‭ ‬الحقول،‭ ‬والفتى‭ ‬مغروسًا‭ ‬بجراحه‭ ‬في‭ ‬‮«‬تربة‭ ‬الوطن‭ ‬البديل‮»‬،‭ ‬ويدأب‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الذات‭ ‬‮«‬بساحة‭ ‬التحرير‮»‬،‭ ‬أما‭ ‬القرية‭ ‬فيتذكر‭ ‬كُتّابها،‭ ‬ويستدعي‭ ‬فرحته‭ ‬‮«‬بعرس‭ ‬نخيلها‮»‬،‭ ‬حتى‭ ‬صورة‭ ‬وداع‭ ‬الأم‭ ‬عند‭ ‬السفر،‭ ‬وهو‭ ‬حدث‭ ‬زمني‭ ‬في‭ ‬الأساس،‭ ‬نجده‭ ‬مصطحبًا‭ ‬للمكان،‭ ‬وهو‭ ‬البيت،‭ ‬بيت‭ ‬العائلة،‭ ‬أو‭ ‬موطن‭ ‬الألفة‭ ‬والسكينة،‭ ‬والذكرى‭ ‬التي‭ ‬تأتي‭ ‬متّشحة‭ ‬بالحزن،‭ ‬بل‭ ‬مغرقة‭ ‬فيه،‭ ‬أو‭ ‬بتعبير‭ ‬شاعرنا‭ ‬‮«‬حتى‭ ‬عمادة‭ ‬أمه‭ ‬لفؤاده‭ ‬بالدمع‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬تعبير‭ ‬يفضي‭ ‬إلى‭ ‬أمرين‭:‬

الأول‭: ‬أن‭ ‬الحزن‭ ‬سيصير‭ ‬قَدَر‭ ‬الفتى‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬وسبيله‭ ‬إلى‭ ‬التطهر،‭ ‬وسرًا‭ ‬من‭ ‬أسرار‭ ‬ارتباطه‭ ‬بموطن‭ ‬النشأة‭ ‬الأولى،‭ ‬وهي‭ ‬دلالات‭ ‬يمنحها‭ ‬هذا‭ ‬التثاقف‭ ‬مع‭ ‬طقس‭ ‬رئيس‭ ‬في‭ ‬المسيحية،‭ ‬يتمثّل‭ ‬في‭ ‬اغتسال‭ ‬الطفل‭ ‬بالماء؛‭ ‬ليتطهر‭ ‬من‭ ‬الخطيئة‭ ‬الأولى،‭ ‬خطيئة‭ ‬آدم‭ ‬وحواء،‭ ‬ويعود‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬إنسانًا‭ ‬جديدًا‭.‬

الأمر‭ ‬الآخر‭: ‬أن‭ ‬التعميد‭ ‬تقوم‭ ‬به‭ ‬الأم،‭ ‬وتتداخل‭ ‬صورة‭ ‬الأم‭ ‬مع‭ ‬صورة‭ ‬البيت،‭ ‬ويَعمُر‭ ‬البيت‭ ‬دفئًا‭ ‬وحنانًا‭ ‬شجيًا‭ ‬بوجود‭ ‬الأم،‭ ‬تنثال‭ ‬إلينا‭ ‬هذه‭ ‬المعاني،‭ ‬كما‭ ‬انثالت‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬في‭ ‬تصوير‭ ‬الشاعر‭ ‬ميلوز‭:‬

‮«‬أنادي‭ ‬يا‭ ‬أمي‭...‬،‭ ‬وأفكاري‭ ‬منصرفة‭ ‬إليك‭ ‬أيها‭ ‬البيت،‭ ‬بيت‭ ‬فصول‭ ‬الصيف‭ ‬المظلمة‭ ‬الحلوة،‭ ‬بيت‭ ‬طفولتي‮»‬‭.‬

 

حلم‭ ‬مُفتقد

تتصل‭ ‬بأثر‭ ‬المكان‭ ‬وحضوره،‭ ‬بنية‭ ‬النص‭ ‬كذلك،‭ ‬حين‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬الأخبار‭ ‬المتوالية،‭ ‬التي‭ ‬تقدّم‭ ‬الحدث‭ ‬السردي،‭ ‬في‭ ‬اعتماد‭ ‬ظاهر‭ ‬على‭ ‬ضمير‭ ‬الغائب،‭ ‬ويطغى‭ ‬الزمن‭ ‬الماضي‭ ‬على‭ ‬الأفعال،‭ ‬فالفتى‭ ‬الغريب‭ ‬عائش‭ ‬في‭ ‬ماضيه،‭ ‬يستمد‭ ‬منه‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬مواجهة‭ ‬الواقع،‭ ‬مرتبط‭ ‬به‭ ‬ارتباط‭ ‬الجذر‭ ‬بالأرض،‭ ‬وهذه‭ ‬الأفعال‭ ‬تكوّن‭ ‬في‭ ‬منظور‭ ‬قريب،‭ ‬سردية‭ ‬شعرية‭ ‬تتحالف‭ ‬مع‭ ‬الوضوح‭ ‬والتعابير‭ ‬الموحية،‭ ‬والتصوير‭ ‬الاستعاري‭ ‬المتعدد‭ ‬الوسائل‭ ‬والروافد‭. ‬

لكنها‭ ‬تتصل‭ ‬بأوثق‭ ‬اتصال‭ ‬بحضور‭ ‬الحنين‭ ‬للوطن‭ ‬أو‭ ‬الحلم‭ ‬المفتقد،‭ ‬والذي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يعوّضه‭ ‬أي‭ ‬مكان‭ ‬آخر،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬ذهبت‭ ‬وقائع‭ ‬العصر‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سياق‭ ‬إلى‭ ‬ابتكار‭ ‬ما‭ ‬يسمّى‭ ‬‮«‬الوطن‭ ‬البديل‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬أبدًا‭ - ‬في‭ ‬سياق‭ ‬الشعر‭ ‬والوجدان‭ - ‬بديلًا‭ ‬عن‭ ‬الوجود‭ ‬المعنوي‭ ‬الهائل،‭ ‬والهوية‭ ‬الروحية،‭ ‬والأحلام‭ ‬والذكريات،‭ ‬والأرض‭ ‬وما‭ ‬تضم‭ ‬من‭ ‬نخيل‭ ‬وبيادر‭ ‬حنطة‭ ‬وأمل،‭ ‬وهل‭ ‬يكون‭ ‬بديلًا‭ ‬عن‭ ‬عمر‭ ‬الإنسان‭ ‬الذي‭ ‬تقلّب‭ ‬بين‭ ‬الأفراح‭ ‬والأتراح؟

وعندما‭ ‬يرتحل‭ ‬الإنسان‭ ‬عن‭ ‬وطنه‭ ‬الأصلي،‭ ‬فإنّ‭ ‬الوطن‭ ‬لا‭ ‬يغادر‭ ‬العقل‭ ‬والفؤاد،‭ ‬ولا‭ ‬عتبات‭ ‬الجفون،‭ ‬وما‭ ‬يحرزه‭ ‬من‭ ‬مكتسبات‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬البديل‭ ‬أو‭ ‬الجديد،‭ ‬لا‭ ‬يشغله‭ ‬عن‭ ‬هموم‭ ‬وطنه،‭ ‬وهكذا‭ ‬تظل‭ ‬جذوة‭ ‬الحنين‭ ‬متقدة،‭ ‬لقد‭ ‬انتظم‭ ‬الأمر‭ ‬للشاعر‭ ‬الأمير‭ ‬المؤسس‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬بن‭ ‬معاوية‭ (‬الداخل‭) (‬ت‭. ‬173‭ ‬هـ‭) ‬في‭ ‬الأندلس،‭ ‬بعد‭ ‬رحلة‭ ‬طويلة‭ ‬شديدة‭ ‬الأهوال‭ ‬من‭ ‬المشرق‭ ‬إلى‭ ‬المغرب،‭ ‬وبنى‭ ‬الرصافة‭ ‬بقرطبة،‭ ‬تشبّهًا‭ ‬بجده‭ ‬هشام‭ ‬بن‭ ‬عبدالملك‭ ‬باني‭ ‬رصافة‭ ‬الشام،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬كله،‭ ‬وجد‭ ‬أرض‭ ‬الغرب‭ ‬الأندلسي‭ ‬دار‭ ‬غربة‭ ‬وغرابة،‭ ‬تبعث‭ ‬الشجى‭ ‬وتثير‭ ‬الشجن،‭ ‬وكأنّ‭ ‬حلم‭ ‬العودة‭ ‬يراوده‭ ‬أبدًا،‭ ‬يقول‭ ‬وقد‭ ‬نظر‭ ‬إلى‭ ‬نخلة‭ ‬بمُنية‭ ‬الرصافة‭ ‬مفردة،‭ ‬هاجت‭ ‬شجنه‭ ‬إلى‭ ‬تذكّر‭ ‬بلاد‭ ‬المشرق‭:‬

تبـدَّتْ‭ ‬لـنا‭ ‬وسط‭ ‬الرُّصافة‭ ‬نخلةٌ

تناءتْ‭ ‬بأرض‭ ‬الغربِ‭ ‬عن‭ ‬بلد‭ ‬النخلِ‭ ‬

فقلتُ‭: ‬شبيهي‭ ‬في‭ ‬التغرّب‭ ‬والنوى‭    

وطول‭ ‬التنائي‭ ‬عن‭ ‬بنيّ‭ ‬وعن‭ ‬أهلي

نشـأتِ‭ ‬بأرض‭ ‬أنت‭ ‬فيهـا‭ ‬غريبةٌ‭     

فمثلكِ‭ ‬في‭ ‬الإقصاءِ‭ ‬والمنْتأى‭ ‬مثلي

 

يحضر‭ ‬النخيل‭ ‬في‭ ‬النصّين‭ ‬القديم‭ ‬والجديد،‭ ‬أيقونة‭ ‬باعثة‭ ‬على‭ ‬الحنين،‭ ‬ورمزًا‭ ‬للوطن‭ ‬المفتقد،‭ ‬وشارة‭ ‬مقاومة‭ ‬ضد‭ ‬الإقصاء‭ ‬والتهجير،‭ ‬والنأي‭ ‬عن‭ ‬الجذور‭. ‬ويلاحظ‭ ‬في‭ ‬نص‭ ‬‮«‬وطن‭ ‬بديل‮»‬‭ ‬وفي‭ ‬نصوص‭ ‬عديدة‭ ‬للسعيد‭ ‬عبدالكريم،‭ ‬ذلك‭ ‬الحضور‭ ‬الشجيّ‭ ‬للقرية،‭ ‬ومفردات‭ ‬الحياة‭ ‬فيها،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ارتحال‭ ‬الشاعر‭ ‬إلى‭ ‬المدينة‭ ‬منذ‭ ‬عقود‭ ‬من‭ ‬السنين‭.‬

 

مشهد‭ ‬مركّز

ليس‭ ‬عسيرًا‭ ‬على‭ ‬قارئ‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬أو‭ ‬غيره،‭ ‬الوقوف‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الجانب،‭ ‬والظَّفر‭ ‬بمحصول‭ ‬وفير؛‭ ‬لكن‭ ‬اللافت‭ ‬حقًا،‭ ‬هو‭ ‬اتساع‭ ‬المدى‭ ‬التصويري‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬الدالّ‭ ‬على‭ ‬القرية؛‭ ‬فيستدعي‭ ‬مشاهد‭ ‬أثيرة‭ ‬من‭ ‬القرية‭ ‬في‭ ‬عهدها‭ ‬الماضي،‭ ‬ومن‭ ‬عالَم‭ ‬الطفولة‭ ‬عمومًا،‭ ‬ويعتمد‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الاستدعاء،‭ ‬على‭ ‬التعابير‭ ‬المكتنزة‭ ‬بالدلالة،‭ ‬والتكثيف‭ ‬في‭ ‬التصوير،‭ ‬ففي‭ ‬قلب‭ ‬التحرير‭ ‬أو‭ ‬بالأحرى‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬المدينة،‭ ‬يتمّ‭ ‬جلب‭ ‬مفردات‭ ‬القرية‭ ‬وروائحها،‭ ‬ويرسم‭ ‬للطفلة‭ ‬صورة‭ ‬طيبة‭ ‬جدًا،‭ ‬بريشة‭ ‬قروي‭ ‬حاذق،‭ ‬لم‭ ‬تغادر‭ ‬ذكريات‭ ‬الريفية‭ ‬عتبات‭ ‬العيون‭:‬

وَتَسَاءَلَتْ‭ ‬قَسَمَاتُهُ‭ ‬بِبَرَاءَةٍ

عَنْ‭ ‬طِفْلَةٍ‭ ‬كَانَتْ‭ ‬تُطَارِحهُ‭ ‬الْغَرَامَ‭ ‬بِسَاحَةِ‭ ‬التَّحْرِيرِ

حَنَّىَ‭ ‬شعْرهَا

بِطَلَاوَةِ‭ ‬الأزْهَارِ‭ ‬فِي‭ ‬كُتَّابِ‭ ‬قَرْيَتِهِ

وَعَبَّأَ‭ ‬جَيْبَهُ‭ ‬بِالتَّمْرِ‭ ‬وَالْحِنَّاءِ

سَاقَطَ‭ ‬دَمْعَه‭ ‬فَرَحًا‭ ‬لعُرْسِ‭ ‬نَخِيلِهَا

وَلَدٌ‭ ‬تَصَدَّقَ‭ ‬بِابْتِسَامَتِهِ‭ ‬وَحِنْطَةِ‭ ‬عَامِهِ

لِيَذُوبَ‭ ‬طَيْفًا‭ ‬فِي‭ ‬حُقُولِ‭ ‬النُّورِ

فَاغْتَالَتْ‭ ‬مَنَاسِكَهُ

مَعَارِيْجُ‭ ‬الْوُصُولْ

 

يعبث‭ ‬الطفل‭ ‬القروي‭ ‬بشعر‭ ‬رفيقته‭ ‬في‭ ‬الكتّاب‭ ‬حيث‭ ‬القرب‭ ‬والتكدس‭ ‬في‭ ‬المكان،‭ ‬ويستخدم‭ ‬الشاعر‭ ‬فعل‭ ‬‮«‬حنّى‮»‬‭ ‬بتسهيل‭ ‬همزة‭ ‬‮«‬حنَّأ‮»‬‭ ‬على‭ ‬الشائع‭ ‬بين‭ ‬أهل‭ ‬القرى،‭ ‬ومعه‭ ‬تنبعث‭ ‬في‭ ‬التصور‭ ‬أطياف‭ ‬من‭ ‬لون‭ ‬الحنّاء،‭ ‬ورائحتها‭ ‬وطقوسها‭ ‬الريفية‭ ‬القديمة‭. ‬ويستمر‭ ‬بروز‭ ‬الألوان‭ ‬من‭ ‬الأزهار‭ ‬الغضّة،‭ ‬وكأنها‭ ‬خارجة‭ ‬لتوّها‭ ‬من‭ ‬الحقل‭ ‬المجاور،‭ ‬ثم‭ ‬يجول‭ ‬في‭ ‬شوارعها،‭ ‬وقد‭ ‬ملأ‭ ‬جيوبه‭ ‬بمنتجات‭ ‬الريف‭ ‬الطازجة،‭ ‬ونبصر‭ ‬هنالك‭ ‬مشهدًا‭ ‬مركّزًا‭ ‬خاطفًا،‭ ‬لدمع‭ ‬سخين،‭ ‬يبرق‭ ‬على‭ ‬خد‭ ‬الفتى‭ ‬وسط‭ ‬زحام‭ ‬الأعراس‭. ‬هذه‭ ‬الصور‭ ‬الطفلة‭ - ‬إذا‭ ‬جاز‭ ‬لي‭ ‬الوصف‭ - ‬تُكسب‭ ‬النص‭ ‬الشعري‭ ‬حيوية‭ ‬فائقة،‭ ‬حين‭ ‬يقتطفها‭ ‬الشاعر‭ ‬من‭ ‬ذاكرة‭ ‬غاصَّةٍ‭ ‬بالحلم‭ ‬الريفي‭ ‬القديم،‭ ‬ومعها‭ ‬يتصفّى‭ ‬المشهد‭ ‬من‭ ‬كدورة‭ ‬الحياة؛‭ ‬لصنع‭ ‬صورة‭ ‬نألفها‭ ‬تمامًا،‭ ‬لكنها‭ ‬تثير‭ ‬الدهشة‭ ‬حين‭ ‬يعيد‭ ‬الفن‭ ‬صياغتها‭ ‬من‭ ‬جديد‭.‬

 

لغة‭ ‬سلسة

تآزرت‭ ‬لغة‭ ‬النص‭ ‬في‭ ‬سلاستها‭ ‬وألفتها،‭ ‬وطابعها‭ ‬الوجداني،‭ ‬مع‭ ‬نغم‭ ‬الكامل‭ ‬في‭ ‬تحدّره،‭ ‬ووضوحه‭ ‬ولينه،‭ ‬وهو‭ ‬بحر‭ - ‬في‭ ‬توصيف‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬المدونة‭ ‬الشعرية‭ ‬العربية‭ ‬تصدقه‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭ -: ‬‮«‬كأنما‭ ‬خلق‭ ‬للتغني‭ ‬المحض؛‭ ‬سواءٌ‭ ‬أًريد‭ ‬به‭ ‬جدّ‭ ‬أم‭ ‬هزل،‭ ‬ودنْدنة‭ ‬تفعيلاته‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬الجَهير‭ ‬الواضح‭ ‬الذي‭ ‬يهجُم‭ ‬على‭ ‬السامع‭ ‬مع‭ ‬المعنى‭ ‬والعواطف‭ ‬والصور‮»‬،‭ ‬ورحم‭ ‬الله‭ ‬العلّامة‭ ‬عبدالله‭ ‬الطيب‭ ‬صاحب‭ ‬هذا‭ ‬التوصيف‭. ‬

وليس‭ ‬بعيدًا،‭ ‬حين‭ ‬نرى‭ ‬الشاعر‭ ‬نفسه‭ - ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬النغم‭ ‬المختار‭ - ‬يحتفي‭ ‬بالحكايات‭ ‬التي‭ ‬عمُرت‭ ‬صدر‭ ‬فتى‭ ‬القصيدة،‭ ‬و«المواويل‭ ‬القديمة‭ ‬كلها‮»‬‭ ‬بصيغتي‭ ‬الجمع‭ ‬والتوكيد‭.‬

  ‬يتحرك‭ ‬النغم‭ ‬برحابة‭ ‬وأريحية،‭ ‬مع‭ ‬كثرة‭ ‬حركات‭ ‬‮«‬الكامل‮»‬،‭ ‬فنجد‭ ‬التفاوت‭ ‬واضحًا‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬الوحدات‭ ‬النغمية‭ ‬منه،‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬سطر‭ ‬من‭ ‬سطوره‭ (‬ومعيار‭ ‬السطر‭ ‬هو‭ ‬الختام‭ ‬أو‭ ‬الضرب‭ ‬المقفّى‭)‬؛‭ ‬فيعتمد‭ ‬على‭ ‬تفعيلة‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬السطر‭ ‬الأول،‭ ‬وخمس‭ ‬تفعيلات‭ ‬في‭ ‬سطور‭ ‬أُخر،‭ ‬ثم‭ ‬يصل‭ ‬الامتداد‭ ‬النغمي‭ ‬الجهير‭ ‬إلى‭ ‬أقصاه‭ ‬في‭ ‬السطر‭ ‬التاسع،‭ ‬فيعتمد‭ ‬على‭ ‬تسع‭ ‬وعشرين‭ ‬تفعيلة،‭ ‬وهو‭ ‬السطر‭ ‬الذي‭ ‬يبدأ‭ ‬بقول‭ ‬الشاعر‭: ‬

وَتــــــَسَـــــــــاءَلَـــــتْ‭ ‬قـــــــَسَــــــمَــــــاتُــــــهُ‭ ‬بـــِبَـــــــــرَاءَةٍ

عَـــــنْ‭ ‬طِفـــْلَةٍ‭ ‬كَــــانَتْ‭ ‬تُطَــــارِحهُ‭ ‬الْغَرَامَ

 

وتختتم‭ ‬السطور‭ ‬بحركة‭ ‬طويلة‭ (‬مدّ‭ ‬الياء‭ ‬أو‭ ‬الواو‭)‬،‭ ‬واللام‭ ‬الساكنة‭ ‬أو‭ ‬حرف‭ ‬الرويّ؛‭ ‬لتكتمل‭ ‬القافية‭ ‬المقيدة‭ ‬المردفة؛‭ ‬وليتّسق‭ ‬التكرار‭ ‬المقنن‭ ‬للقافية‭ ‬الموحدة،‭ ‬مع‭ ‬أوجاع‭ ‬الوطن‭ ‬الطويلة‭ ‬المنسربة‭ ‬في‭ ‬عمر‭ ‬الفتى،‭ ‬ثم‭ ‬لتعكس‭ ‬قدرة‭ ‬القيود‭ ‬على‭ ‬تكبيل‭ ‬حركته،‭ ‬حين‭ ‬تدعوه‭ ‬إلى‭ ‬السكون‭ ‬أو‭ ‬الموت‭ ‬أو‭ ‬الاغتراب‭.‬

 

غنائية‭ ‬هادئة

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬حضور‭ ‬البعد‭ ‬السياسي‭ ‬وميدان‭ ‬الثورة؛‭ ‬فإنّ‭ ‬النص‭ ‬ينأى‭ ‬عن‭ ‬الأداء‭ ‬الخطابي‭ ‬والضجيج،‭ ‬ويجنح‭ ‬إلى‭ ‬الغنائية‭ ‬الهادئة‭ ‬في‭ ‬تجاوب‭ ‬مع‭ ‬أصداء‭ ‬التوجع‭ ‬والأنين‭ ‬التي‭ ‬ترسلها‭ ‬الذات‭ ‬الشاعرة‭. ‬والقراءة‭ ‬الموسيقية‭ ‬للنص،‭ ‬تكشف‭ ‬أيضًا‭ ‬عن‭ ‬تعاضد‭ ‬عناصر‭ ‬إيقاعية‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬السبيل؛‭ ‬لزيادة‭ ‬النغم‭ ‬الشعري،‭ ‬ومنها‭: ‬الحركات‭ ‬الطويلة‭ ‬في‭ ‬حشو‭ ‬السطور،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬القافية،‭ ‬وإشباع‭ ‬الحركات،‭ ‬ثم‭ ‬التوافق‭ ‬الصوتي،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬رصده‭ ‬في‭ ‬السطر‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬النص،‭ ‬الذي‭ ‬يبدأ‭ ‬بقول‭ ‬الشاعر‭:‬

كلُّ‭ ‬الحقائِبِ‭ ‬فَارِغَاتٌ‭ ‬للدّمَى‭ ‬

وينتهي‭ ‬بقوله‭:‬

حَتَّى‭ ‬عِمَادَة‭ ‬أُمِّهِ‭ ‬لِفُؤَادِهِ‭ ‬بِالدَّمْعِ‭ ‬

فِي‭ ‬يَوْمِ‭ ‬الرَّحِيلْ

 

فنجده‭ ‬يحتوي‭ ‬على‭ ‬اثنتي‭ ‬عشرة‭ ‬حركة‭ ‬طويلة‭ (‬بالألف‭ ‬والياء‭)‬،‭ ‬ويتكرر‭ ‬فيه‭ ‬صوت‭ ‬الميم‭ ‬سبع‭ ‬مرات،‭ ‬وتشبع‭ ‬فيه‭ ‬الحركات‭ ‬ثلاث‭ ‬مرات‭ (‬صدره،‭ ‬أمه،‭ ‬فؤاده‭)‬،‭ ‬وتمنح‭ ‬وفرة‭ ‬الحركات‭ ‬لغة‭ ‬النص‭ ‬جرسًا‭ ‬موسيقيًا‭ ‬مترامي‭ ‬الأبعاد،‭ ‬يسمح‭ ‬بتولّد‭ ‬نبرات‭ ‬الحنين‭ ‬الحزين‭ ‬التي‭ ‬تكمن‭ ‬خلف‭ ‬الأشياء،‭ ‬كما‭ ‬يسمح‭ ‬بتوافر‭ ‬المدى‭ ‬الزمني‭ ‬اللازم‭ ‬لاستعادة‭ ‬الذكريات‭ ‬البعيدة‭ ‬التي‭ ‬تشير‭ ‬إليها‭ ‬بعض‭ ‬الكلمات‭ ‬مثل‭: ‬المواويل،‭ ‬الحكايا،‭ ‬الحقائب‭. ‬أما‭ ‬النغم‭ ‬الجهير‭ ‬الذي‭ ‬يصاحب‭ ‬صوت‭ ‬الميم؛‭ ‬فهو‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬صدى‭ ‬لزفرات‭ ‬الموجوع،‭ ‬وهي‭ ‬تتحدّر‭ ‬جراء‭ ‬مفارقة‭ ‬الفتى‭ ‬لأمه‭ ‬وبراءته‭ ‬الأولى،‭ ‬والرحيل‭ ‬عن‭ ‬الوطن‭ ‬الأم‭.‬

نسعى‭ ‬وراء‭ ‬ذلك‭ ‬وغيره،‭ ‬مما‭ ‬يدلّ‭ ‬على‭ ‬تمثيل‭ ‬النص‭ ‬للعنوان‭ ‬لغة‭ ‬ودلالة،‭ ‬وعلى‭ ‬موسيقية‭ ‬النص،‭ ‬التي‭ ‬تفضي‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬المسافة‭ ‬الفارقة‭ ‬بين‭ ‬شكلي‭ ‬الشعر‭ ‬الخليلي‭ ‬والتفعيلي‭ ‬ليست‭ ‬عميقة،‭ ‬حين‭ ‬تتوافر‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬النصوص‭ ‬العامرة‭ ‬بالأنغام،‭ ‬والملتزمة‭ ‬التزامًا‭ ‬عفويًا‭ ‬بالوحدة‭ ‬النغمية‭ ‬من‭ ‬أول‭ ‬النص‭ ‬إلى‭ ‬آخره،‭ ‬دون‭ ‬خلل،‭ ‬وبهذه‭ ‬القافية‭ ‬الموقّعة،‭ ‬وبهذا‭ ‬التجاوب‭ ‬الصوتي‭ ‬الحثيث،‭ ‬وحين‭ ‬يتوافر‭ ‬لدولة‭ ‬الشعر‭ ‬شعراء‭ ‬مجيدون،‭ ‬يبرعون‭ ‬في‭ ‬توقيع‭ ‬الأنغام‭ ‬عبر‭ ‬الكلمات‭ ‬الوفيرة‭ ‬الإيحاء،‭ ‬والصور‭ ‬الخارجة‭ ‬لتوّها‭ ‬من‭ ‬حقول‭ ‬الوجدان‭ ‬■