الديمقراطية ومجتمعاتنا العربية: د. سليمان إبراهيم العسكري
الديمقراطية ومجتمعاتنا العربية: د. سليمان إبراهيم العسكري
يتنامى الحديث اليوم في وسائل الإعلام العربية وفي مجالات السجال والحوار العامة والخاصة حول الديمقراطية، في إطار مناخ عام تهب فيه رياح التمردات والاحتجاجات العربية الساعية للتغيير من عصور أنظمة حكم الاستبداد والقمع إلى أجواء الحرية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو أية ديمقراطية نقصد؟ وهل الإطار الديمقراطي الغربي المعروف في العالم يمثل النموذج الأوحد للديمقراطية الذي يناسب كل المجتمعات؟ أم أن هذا النموذج قد تمت صياغته وفقًا لظروف تاريخية وعادات غربية تخص الثقافة الغربية التي ولدت فيها هذه الديمقراطية والتي قد لا تتناسب بعض ما فيها من ضوابط وقوانين مع تقاليد وثقافة مجتمعات أخرى تعيش واقعًا اجتماعيًا وتاريخيًا مختلفًا؟ في البدء أود التأكيد على أنني هنا منشغل بطرح الموضوع للنقاش عبر تلك الأسئلة سعيًا لفهم أوسع وأشمل لموضوع الديمقراطية ومستقبلها في مجتمعاتنا العربية. وأغتنم الفرصة لفتح الباب أمام مفكرينا وأصحاب الرأي العرب للمشاركة في نقاش هذا الموضوع الذي يشغل حياتنا السياسية اليوم والذي سيترتب عليه الكثير من التحولات في بلداننا العربية، التي تشهد اليوم قوى اجتماعية جديدة تسعى لتشكيل نظم سياسية مختلفة تتأسس على الديمقراطية، لكنها في الوقت نفسه تطرح نماذج مختلفة لمشاريع الحكم في أطروحات ملخصها جدل مستمر بين مشروع الدولة المستندة إلى التراث والنصوص الدينية ومشروع الدولة المدنية القائمة على الأخذ بنماذج الديمقراطيات الغربية. إن الإجابة عن مثل هذه الأسئلة يستدعي السؤال أولاً عن تعريف الديمقراطية، هل هي مجرد حشد الجمهور للذهاب إلى صناديق الانتخابات والإدلاء بأصواتهم لاختيار نواب البرلمان أو الحكام؟ أم أنها في جوهرها أعقد من ذلك وأكثر تركيبًا؟ الحقيقة أن الاقتراع هو شكل أدوات من الديمقراطية لكنه ليس كل الديمقراطية، لأن هذا الاقتراع أو الانتخاب لا بد من أن يتم على أسس ديمقراطية تتمثل في قدرة الناخب على الاختيار الحر والواعي، ويعتمد على المساواة في الإمكانات والوسائل التي تصون الحرية في الاختيار. وبين هذه الإمكانات المساواة في درجة الوعي وفي معرفة الشعب لمختلف حقوقه، وهو ما لا يتوافر في مجتمعاتنا العربية بسبب ارتفاع نسب الأمية وتزييف الوعي لهذه الجماهير لعشرات أو مئات السنين من نظم في الحكم مستبدة وقاهرة. والشرط الأهم في موضوع الانتخاب هو الحرية بأن يكون الفرد حرًا ليختار ما يريد ويعرف ما يريد ولماذا يريد، وأن يملك القدرة على تحقيق ما يريده. هذا من جهة، ومن جهة أخرى هل يستوي فهم المواطن الغربي للحرية والديمقراطية التي يعيشها بالطريقة نفسها التي يفهمها بها المواطن في شرق آسيا مثلا، بل هل تستوي ديمقراطية في اليابان حيث نشأ المواطن هناك في ثقافة عرفت بالانغلاق والإمبراطوريات الديكتاتورية مع ديمقراطية المجتمع الإندونيسي المسلم الذي يعد اليوم أحد أكثر المجتمعات الإسلامية تقدما في مفهوم التسامح والتعددية، ثم هل تستوي كل هذه النماذج الديمقراطية مع ما يفهمه المواطن العربي عن الديمقراطية في إطار الثقافة التي نشأ فيها؟ ألا تختلف الموروثات الثقافية في كل مجتمع عن الآخر؟ وما مدى تأثير كل ثقافة على بناء ديمقراطيتها، وهل يتساوى بناء أنظمة حكم ديمقراطية في مجتمعات زراعية أو قبلية مع ديمقراطيات لمجتمعات صناعية وما بعد الصناعية؟ بل إن المجتمع الواحد نفسه تتغير فيه المفاهيم من آن لآخر وتتطور، فلا يمكن أن نقارن التفتح والانفتاح الذي تعيشه الثقافة الغربية الأوربية اليوم وبين ما كانت تعيشه هذه الثقافة في العصور الوسطى وفي العصر الفيكتوري من انغلاق وتزمت ترافق مع منظومات حكم ديكتاتورية. ومنذ اتخذت الديمقراطية في الغرب سبيلاً للحكم والحياة وهي تتعرض للمراجعة والتطوير بين الأنا والآخر وفقًا للتطورات الاقتصادية والاجتماعية التي يمر بها المجتمع. وهذا ما نقصده بأن الاختلاف بين الدول العلمانية والدول التي يعد الدين فيها مكونًا أساسيًا في الثقافة وفي الذهنية العامة للجماهير اختلاف كبير من حيث تقبل التغيير والانفتاح والمرونة في فهم أسس التعايش المشتركة، وفي تفهم القيم الحقيقية للديمقراطية القائمة على المساواة بين الأفراد في المجتمع بغض النظر عن أي اختلاف، مساواة تمتد للحقوق والواجبات التي يخضع لها الجميع بلا أي تمييز. حقوق الإنسان والمواريث الثقافية إن حقوق الإنسان تعد اليوم جزءًا أساسيًا من القيم الديمقراطية، وهذه الحقوق أصبحت جزءا من ثقافة المواطن الغربي، ولدرجة أصبحت تشمل حماية كل سلوكيات المواطن وحماية حرماته حتى المثلية التي بدأت تسن القوانين لحمايتها. بينما لا يمكن تفهم مثل هذه الحقوق في مجتمعات شرقية عربية وإسلامية ترفض المثلية أخلاقيًا ودينيًا. وهل تستطيع مثلا الجاليات المهاجرة إلى الغرب أن تلتزم بكل قوانين وقواعد الديمقراطية في الغرب؟ إننا نسمع كثيرا في المجتمع الألماني الذي يعد أحد نماذج الديمقراطية الغربية المهمة، عن عدم قدرة المهاجرين الأتراك على الاندماج الكامل في المجتمع الألماني لأسباب ثقافية وأخلاقية بينها التصور عن العلاقات بين الجنسين، حيث تتعرض الكثير من الفتيات التركيات لأعمال عنف من أطراف من عائلاتهن خصوصا الأشقاء الذكور. وبالرغم من التطور الكبير للنموذج الأمريكي للديمقراطية، فإننا نجد أن هناك فروقات واضحة في بعض مبادئ الديمقراطية عن نموذجها الذي نبعت منه وهو الديمقراطية الأوربية، وخاصة البريطانية. كما أن نموذجا مثل النموذج الإندونيسي كدولة ديمقراطية علمانية تقيم شعار وحدتها وقوتها على الإيمان بالتعددية لا يمكن القول إنها لم تراع في قوانينها الثقافة الخاصة للسكان ومراعاة أن المجتمع الإندونيسي هو أكبر تجمع للمسلمين في اي من أرجاء العالم. وأود هنا التأكيد على أنني في هذا التناول لا أسعى إلى الدفاع أو الترويج للأشكال الزائفة من الديمقراطية التي كانت الكثير من النظم الديكتاتورية تتحدث عنها طوال الوقت، مستندة إلى مؤسسات ديمقراطية شكلية تزين بها مظاهر ديمقراطيتها المزيفة مثل البرلمان والأحزاب، بينما تستخدم تلك المؤسسات في إحكام قبضتها على السلطة وتبرير أفعالها الاستبدادية عبر تلك المؤسسات الشكلية الورقية. لست أقصد شيئا من هذا، بل فقط أدعو إلى التفكير العميق في التساؤلات المطروحة حتى لا تتعرض العملية الديمقراطية المستقبلية للتشويه، فالتاريخ القريب لاتزال شواهده ماثلة حين وصل الحزب النازي الى السلطة في المانيا عبر صناديق الاقتراع، لكن بمجرد وصوله للسلطة انقلب على الديمقراطية، وكشف أنياب الاستبداد وجرف بلاده وأوربا بل والعالم كله إلى واحدة من أكثر حروب العصر الحديث دموية، راح نتيجة لها الملايين من الضحايا، ونزفت بسببها القارة الأوربية دماء أجيال من أبنائها. كما أن الثورة الإيرانية الشعبية التي حركّتها وشاركت فيها كل القوى الدينية والعلمانية والليبرالية المدنية قد تحولت إلى دولة عقائدية دينية، واليوم نرى شواهد يومية عديدة على المنهج الاستبدادي الذي تنتهجه حكومات هذه الثورة مما يتناقض مع قيم ومبادئ الديمقراطيات الغربية، على الرغم من أنها تقول بالديمقراطية والانتخابات. ديمقراطية المرحلة الانتقالية إن التوجه لطرح هذه التساؤلات يأتي من منطلق أهمية البحث في سعي المنطقة العربية إلى الديمقراطية وتأكيد حرية المواطن العربي في اتخاذ قراراته بحرية وإرادة كاملتين، لكن بأسلوب لا يصل بنا إلى التصادم بين أطراف المجتمع أو مع منظومات الديمقراطية في العالم، على الأقل في المراحل الأولى الانتقالية للعملية الديمقراطية، بحيث نضمن ترسخ المفاهيم الديمقراطية لدى كل الشعوب العربية، وبما يضمن عدم انقلاب اي طرف عليها في المستقبل، أو محاولة تشويهها وتحريفها عبر قوى مضادة للتحول الديمقراطي. عندما بدأ العرب في الاحتكاك بالثقافة الغربية وأفكارها الليبرالية نشأت حركة تحاول التقريب بين الثقافتين من قبل الإصلاحيين الذين عرفوا لاحقا بالسلف كما يقول د. عابد الجابري في كتابه «الديمقراطية وحقوق الانسان» إن هؤلاء السلف إذا كانوا قد وجدوا في كثير من الأحيان صعوبات عنيدة حالت دون نجاحهم في محاولة التقريب تلك فإنهم لم يجدوا صعوبة- أو على الأقل لم يشعروا بأي تردد- في المطابقة بين مفهوم الديمقراطية الأوربية ومفهوم الشورى الإسلامي. ومنذ ذلك الوقت والديمقراطية تعني لدى المفكر الذي يفكر داخل المرجعية التراثية وبواسطة معطياتها وحدها شيئا واحدًا هو الشورى. وتجب الإشارة الى أن الاستنكاف عن استعمال أسماء أعجمية والانشداد كلية إلى الأسماء العربية والإسلامية يعكس موقفًا أيديولوجيًا عامًا يميل إلى تحقيق قطيعة مع المرجعية النهضوية الأوربية، وهذا شيء نجده عند الجيل الثاني من السلفيين، أما الرواد منهم كالأفغاني وعبده فإننا نلمس عندهم رغبة ملحة في مد الجسور بين المرجعيتين: التراثية العربية الإسلامية والنهضوية الأوربية. ومن المفيد هنا استحضار هذه الرغبة في مد الجسور بين المرجعيتين لدى السلفيين الرواد عند البحث في المضمون أو المضامين التي كانوا يعطونها لهذه المفاهيم الإسلامية التي جعلوها موازنة للمفاهيم الأوربية. لقد عمدوا الى الموازنة بين الديمقراطية والشورى، لا لأنهم كانوا يطابقون بينهما او يجهلون الفروق بينهما، بل فعلوا ذلك في إطار ممارسة أيديولوجية تستهدف، من جهة، طمأنة المتشددين المتزمتين من علماء الدين، وربما الحكام أيضا، إن المناداة بالديمقراطية لا يعني إدخال بدعة أو بضاعة دخيلة الى دار الإسلام ، وتستهدف هذه الممارسة الأيديولوجية من جهة أخرى الارتفاع بمعطيات تراثنا ومقومات حضارتنا إلى مستوى العصر، الشيء الذي يعني أن مشكلاتنا تجد حلها في تراثنا الديني والفكري، وأن المسألة كلها منحصرة في الكيفية التي ينبغي أن نفهم بها هذا التراث. إن هذه المحاولة التي حاولها السلف، منذ مائة عام وأكثر، تأكيدًا لما نطرحه هنا من محاولة التوفيق بين الديمقراطية وفقا لمفهومها الغربي من جهة وبين الذهنية العربية التي تعتنق الكثير من القناعات الدينية والتراثية والأخلاقية التي قد تتعارض مع بعض مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان في الغرب. الديمقراطية ليست بدعة وقيم الاسلام معطلة لكننا عندما نقول ذلك ينبغي أن ننتبه تماما إلى أن هناك الكثير من القيم الحضارية التي أقرها الإسلام، وحاز بفضلها قوته وقدرته على الانتشار الواسع، والتي تبدو اليوم معطلة في المجتمعات العربية، وفي مقدمتها إعادة الاعتبار للإنسان الذي كان مستعبدا، منزوع الحقوق، وتحريم الجرائم التي تتنافى وحقوق الإنسان مثل القتل والسرقة وإقرار مبدأ المساواة بين جميع البشر بلا تفريق بين طبقة أو جنس أو لون، إضافة إلى إشاعة العدل وإقرار مبدأ رقابة الأفراد للحاكم، وهي أمثلة تفيض بها كتب السيرة وتفاسير القرآن العديدة والمعتمدة، وفيها يظهر تماما كيف أن النبي، (صلى الله عليه وسلم)، بكل ثقله الروحي ومكانته، أعطى نموذجًا في أنه بشر قد يخطئ وقد يصيب، وأنه كان يطلب رأي المسلمين في كثير من قراراته الدنيوية فأين المجتمعات العربية من كل هذا اليوم، إن هذه القيم تعطلت ليس فقط في المجتمع بل حتى لدى الحركات الدينية نفسها، التي تريد أن تسبغ على قياداتها صفات تقترب من القداسة ولا تقبل أن يختلف معها أحد من أتباعها، فما بالكم بالأنداد؟ إن عملية التأصيل الثقافي لحقوق الإنسان في فكرنا العربي المعاصر يجب أن تنصرف إلى إبراز «عالمية» حقوق الإنسان في كل من الثقافة الغربية والثقافة العربية الإسلامية أي كونها تقوم على أسس فلسفية واحدة وهو ما يشير إليه الجابري في كتابه سالف الذكر، موضحًا أن الاختلافات لا تعبر عن ثوابت ثقافية، إنما ترجع إلى اختلاف أسباب النزول أما المقاصد والأهداف فهي واحدة. والرجوع إلى أسباب النزول وبمعنى أوسع: الظروف العامة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية التي جعلت موقف هذا المُشِّرع أو ذاك من هذه القضية أو تلك على ما هو عليه امرا ضروريا وأكيدا لفهم المعقولية التي تؤسس ذلك الموقف. وذلك لتجنب الانزلاق إلى ذلك الخطأ المنهجي الخطير الذي يقع فيه الكثير من الناس حين يحاكمون أمور الماضي بمقاييس الحاضر ومشاغله. ويؤكد الجابري على أن علمانية حقوق الإنسان في الفكر الأوربي الحديث لم تكن تعني لدى الفلاسفة الاستغناء عن الدين كدين بل فقط التحرر من سلطة الكنيسة وطقوسها. فقد بنوا معقولية حقوق الإنسان باعتماد العقل وحده فعلاً، لا ضدًا، على الدين بل ضد الفهم الذي تفرضه الكنيسة وما يرافقه من طقوس. لقد احتفظوا بالدين وازاحوا تقاليد الكنيسة وسلطتها وأحلوا محلها العقل وسلطته فهل يتناقض هذا الموقف في شيء مع الموقف الإسلامي المؤسس لحقوق الإنسان على العقل والفطرة والميثاق والشورى؟ إن هذه الأسئلة تصب في جوهر ما نناقشه هنا حول الديمقراطية بوصفها، لا تتعارض مع المبادئ الجوهرية للإسلام والتي رفعت من شأن حرية الفرد وكسرت الحواجز الطبقية بين البشر وأعلت من شأن المرأة في سبيل إقامة مجتمع العدل والمساواة، وهذا ما يجب مراعاته من أي طرف من أطراف الجهات الثورية التي تريد تشكيل الحكومات الجديدة في المنطقة العربية على أسس جديدة باسم المساواة والعدالة الاجتماعية والحرية لمختلف فئات المجتمع.