عبد الوهاب البياتي .. حين يموت المؤلف (شاعر العدد)

 عبد الوهاب البياتي .. حين يموت المؤلف (شاعر العدد)

في إحدى مراثي آخر مجموعة صدرت للشاعر عبدالوهاب البياتي كتب الشاعر مخاطبا صديقه الأديب العراقي المنفي منذ زمن بعيد غائب طعمة فرمان:
حين يموت المؤلف / قد يأخذ النص بعدًا جديدًا/ ويتحد النهر بالنبع/ تصبح كل المنافي وطنا واحدًا/ تختفي كتلة الثلج تحت ماء البكاء /ويصير اللقاء وداعًا/وفضاء الكتابة سقط متاع/ وكان/ سباق المسافات ما بيننا أملا/للوصول إلى مدن العشق /لكننا لم نصل /(......)/وهاأنت تكتشف الآن بعد فوات الأوان أن الدروب لروما لا تؤدي إليها/ وأن الكتابة قاتلة الشعراء/وكيف السبيل إليها؟ /نبدأ في البحث ثانية ونموت انتظارًا...».

ويبدو أن البياتي فضل الخيار الأخير أخيرًا ففضل أن يموت انتظارا لفكرة مستحيلة، تقلب على لظى تحققها عبر تنقله بين العواصم التي كان يحلو له أن يسميها المنفى، بالرغم من أنه في الغالب لم يكن منفى حقيقيا بقدر ما كان نزوعًا إراديًا نحو الضوء الذي كان يراه يلوح في آخر النفق، أو هي النجومية التي قضت على شطر غير يسير من موهبته الشعرية والتي استغلها حتى أخر بيت شعري قدر له أن ينتجه.

ولد عبد الوهاب البياتي في بغداد العام 1926، بعد ثلاث سنوات فقط من مولد نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، وقد تخرج الأخيران فيما بعد، في كلية المعلمين في بغداد، لينطلق السياب والملائكة إلى ريادة الشعر الحديث في التباس تاريخي دقيق فيما بينهما، أما البياتي الذي تخرج بعدهما بقليل في الكلية نفسها، فقد «ناضل» لسنوات طويلة على ساحة النقد والتأريخ الأدبي في سبيل وضع اسمه على لافتة الريادة التاريخية للقصيدة الجديدة منذ نشر ديوانه الشعري الثاني «أباريق مهشمة» العام 1954، والذي وجد صدى ترحيبيا واسعا لدى نقاد الموجة الحداثية آنذاك.

بل إن البياتي لم يتورع في كثير من أحاديثه الصحفية عن إعلان نفسه أول من كتب القصيدة العربية الحديثة على الإطلاق مستفيدًا من علاقاته الواسعة بعدد كبير من النقاد العرب، ومن الأحزاب الشيوعية العربية التي كانت لها السيطرة على منابر النشر آنذاك، قبل أن يعود فينقلب عليها لاحقا عندما خفت عنها الضوء، وانحسرت أمجادها.

وبالرغم من أنه استفاد نقديًا من تلك العلاقات في المرحلة التي بلغ فيها أوجه الشعري فإن تلك العلاقات نفسها صارت وبالا ثقيلاً عليه في سنواته الأخيرة خاصة عندما هدأ صوته الشعري الهادر على مدى عقدين زمنيين مشتعلين بالثورات الكبرى والأحلام الكبرى، وما بينهما من وجد وألم وشعر حديث وجديد، واستبدل بهذا الصوت المتصرم أحاديث صحفية لم تبق ولم تذر أحدًا من زملائه الشعراء الذين كان يحلو له أن يلغيهم واحدًا تلو الآخر، بل بالجملة أحيانًا، لحساب دوره وموهبته وحدهما!

والشاعر الذي حصل على شهادة اللغة العربية وآدابها العام 1950م، اشتغل أولا مدرسًا ثم صحفيًا قبل أن يبدأ رحلة التنقل بين العواصم في إقامات تطول وتقصر، إلا أن إقامته في إسبانيا بالذات ميزت رحلته الشعرية بطابعها الذي ظهر في عدد من دواوينه الشعرية والتي يحلو للبعض أن يطلق عليها مجتمعة نتاج المرحلة الإسبانية، والتي حيا في بعضها أشهر شعراء اللغة الإسبانية مثل أراغون وايلوار.

أصدر البياتي عددًا من الإصدارات الشعرية بدأها بديوان «ملائكة وشياطين» الذي صدر العام 1950، وأنهاها بديوان «كتاب المراثي» الذي صدر العام 1995، وفيما بينهما كان المدى الشعري واسعا أمام الشاعر الراحل لكثير من التجارب المتحفظة، والتي تفاوت مستواها تفاوتًا مقلقًا، وإن ظل فيها منحازًا للأسطورة واستنطاق التراث العربي شعريًا وموسيقيًا أيضًا.

ومن تلك الدواوين، أباريق مهشمة،المجد للأطفال والزيتون، رسالة إلى ناظم حكمت وقصائد أخرى، أشعار في المنفى، عشرون قصيدة من بريلن، كلمات لا تموت، - النار والكلمات، بكائية إلى شمس حزيران والمرتزقة، يوميات سياسي محترف، قمر شيراز. بالإضافة إلى عناوين أخرى شعرية ونثرية ومسرحية أيضًا.

لكنه في كتابه الأخير «كــتاب المراثي» كان يتقطر شعرًا شفيفًا يناوش الموت ويسميه بأحلى أسمائه، حيث يرثى فيه البياتي أكثر من اسم ومعنى تاركًا للآخرين مهمة رثائه حين غيابه الأخير والذي حل في العام 1999م على رصيف المنفى..الحقيقي هذه المرة، خاصة أن النص يأخذ بعدًا جديدًاحين يموت المؤلف!.

 

سعدية مفرح