كتابة الثلب والعنف التخيلي لذة الهجاء

كتابة الثلب والعنف التخيلي لذة الهجاء

كتابة الثلب أو الهجاء هي كتابة تحتفي بالعنف المتخيل عبر اللغة التي تستنفد الذات الكاتبة كل احتمالاتها الممكنة، لإبراز الصفات السلبية والقبيحة في شخص ما أو نموذج من النماذج القائمة في السياق الاجتماعي أو السياسي أو الديني...إلخ. وسنتوقف هنا عند هذه الممارسة الكتابية اللافتة في القرن الرابع الهجري، وخاصة فيما يتعلق بالنموذج السياسي، وشاهدنا في هذا الصدد أبو حيان التوحيدي في كتابه المثير للجدل (مثالب الوزيرين) ويقصد بهما كما هو معروف (الصاحب ابن عباد، وابن العميد).

ولنبدأ بطرح السؤال أولا حول طبيعة علاقة هذه الكتابة الثالبة للسلطة ورموزها بالممارسات الكتابية الأخرى في هذا الصدد! فمن ناحية يتناقض هذا النوع الكتابي مع المعالجات الفلسفية الصرفة ذات الطابع المثالي للمسائل السياسية أو ما يطلق عليه السياسات المدنية، كمؤلفات الفارابى وغيره في هذا الصدد من المتأثرين بالنزعة الأفلاطونية، وأصحاب دعاوى المدن الفاضلة. ومن ناحية ثانية، يفارق الكتابات الرمزية التي لعبت على الحكايات والأمثولات وقصص الحيوانات لمراوغة الاستبداد السياسي، مثل كليلة ودمنة، ورسالة الحيوان لأخوان الصفاء، وألف ليلة وليلة... إلخ مما يطلق عليه أحيانا كتابات الدهائيات! ولسنا في حاجة إلى إبراز تناقضه الجلي مع كتب الفقهاء في هذا الصدد أو ما يسمى بالسياسة الشرعية.

ويظل السؤال قائما، حول طبيعة علاقاتها بما يطلق عليه كتب الآداب السلطانية، أو نصائح الملوك ومرايا المراء، فمن الواضح أن مضمرا ما انسرب إليها من هذه، غير أن هذا لا يعني اندراج هذه الكتابة الثالبة في فضاء تلك الكتابات السياسية السلطانية! وأظن أن هذه المسألة تحتاج إلى بحث متأنى للعديد من كتابات الثلب، بل تلك الكتابات الجامعة بين المدح والذم لرموز سلطوية بعينها، وإعادة النظر في طبيعتها الكتابية وكيفية تفسيرها أو قراءتها بعيدا عن أحكام القيمة، وفي ظل علاقتها شديدة التعقيد بالحضور السلطوي، وتواشجاته المتنوعة!

غير أن ما يعنينا هنا على وجه الخصوص، هو تلك الطبيعة الإغوائية لهذه الكتابات، وحضورها شديد الجاذبية للسلطة بالرغم من ثلبها إياها! إنه الإغواء عبر مساحات التهديد والفضح والذم... إلخ!

ولنتوقف بعض الوقت عند شيء من ملامح هذه الكتابة الثالبة، كما صاغها التوحيدي في مقدمة نص المثالب، الذي يُعد النقيض الحاد لنص الإمتاع والمؤانسة من حيث كيفية صياغته لصورة الرمز السلطوي!! ويرجع هذا بالطبع إلى نوعية علاقة الراوي بكل من النموذجين على المستوى الشخصي الواقعي وهو أحد العوامل الأساسية المؤثرة في كيفية تشكيل الصياغة والرواية عن كليهما!

يبدأ التوحيدي مقدمته للكتاب الذي يزعم أنه كتبه بناء على طلب الوزير ابن سعدان، بالمقدمة المعتادة من حمد لله تعالى، وصلاة على خير خلقه محمد وآله الطيبين، ثم ينطلق في الدعاء للوزير بالنعمة الإلهية وحسن المعونة ومنح التوفيق، وإكساب العفو والعافية والرحمة والرأفة الربانية، وصرف الرغبة إلى ما كان نفعه عاجلا وثمرته آجلا... إلخ! والحق أننا لا نستطيع التعامل ببراءة مع هذه المقدمة البديهية، ذلك أن الذات الكاتبة ستمارس ثلبها العنيف إزاء الوزيرين داخل سياق لا الحماية السلطوية، بل الإلهية نفسها، بل، وبصورة تستوجب حمد الإله لتوفيق الكاتب في إنجازه لهذا العمل المجيد! فضلا عن ذلك الإيحاء المضمر بأن رغبة الوزير ذاتها، والمتجسدة في طلبه لكتابة هذا الكتاب تتبدى وكأنها تصريف إلهي يدفع الوزير الحكيم لطلب النفع العاجل، والثمرة الآجلة أي أنه ثواب الدنيا والآخرة!

وهكذا تؤسس الذات الكاتبة أول فخاخ الغواية والمخايلة لا لصاحب السلطان، بل لذاتها، وقارئها في آن! وتنسج الذات الكاتبة نسيجها النصي الإغوائي خطوة خطوة في دأب حثيث شديد الرهافة والجمال والذكاء والمراوغة! وتبادئنا بالتحرر الأخلاقى والديني من عبء هذه الكتابة الثالبة، إذ تنفي عنها سمة الغيبة والنميمة، أو الفرية وإظهار سوءات الناس أو الخوض في أعراضهم خوضا يورث صاحبه العار والشناعة.. إلخ! وفى حين تحرر الذات الكاتبة ذاتها ووزيرها، بل قارئها من هذا العبء القيمي، فإنها تنسب الأمر برمته إلى المساندة الإلهية، حيث يعرف الله الوزير ما في هذه الممارسات من هجنة وشناعة لا تليق به، ولا بكاتبه المترفع عن الخوض في البذاءات! وهكذا تكتسب قرارات الوزير وممارساته، وطلباته من جلسائه وندمائه من الكتاب وأهل المعرفة طابع الحكمة الرصينة، وتنطوى على الحجة القوية، مما يدفعهم جميعًا لخدمته خدمة رفيعة تتناسب مع قيمة الطالب والمطلوب والمطالب، فضلا عن الإشارة لقيمة العطاء الممنوح الذي ينبغي أن تجلي هذه القيمة، وتحققها في أكمل صورها وأرقاها، يقول «ينشط لخدمتك بالتأميل، ويرى أن ما يحرزه من ثوابك أضعاف ما يبرزه من كدحه عندك»!

ولا تكف الكتابة في نص المثالب عن تبرير ذاتها، ومنح حضورها مشروعية ومصداقية متعددة المستويات! فمن ناحية تبلور الذات الكاتبة الميل الطبيعي، أو الجبلة الخلقية، عند البشر كافة، وفى كل الأزمنة والأمكنة، التي تدفع الناس لحب من أحسن إليهم، وبغض من أساء إليهم، ومن ثم مدح الأول وحمده، وذم الثاني وسبه! ومن ناحية ثانية، يجذر هذه الطبيعة في النسب الإلهي ذاته، إذ يقول إن الله عز وجل هو أول من حمد وذم، وشكر ولام في كتابه المقدس! وليس هذا فحسب، بل يفرط في الاستناد إلى الشرعية الدينية حين يجعل الذات الكاتبة في ممارستها لهذا النوع من الكتابة الثالبة تقتدي بالرسول والصحابة والأولياء، فضلاً عن اقتدائها بالله رب العالمين! وتتبدى الذات الكاتبة في هذا السياق، وكأنها مبعوثة العدالة الإلهية، إذ يغدو تشنيعها على هؤلاء الفسقة المتفحشين تحذيرا للناس منهم، وحماية لهم من الوقوع تحت تأثير مخايلتهم الزائفة بطيب الصفات وحسن السمعة! وتعطي الذات الكاتبة فعلها مشروعية اجتماعية، حيث إن انتصار المظلوم حين يثأر لنفسه من الظالم بذمه وهجائه وثلبه والتشنيع عليه في كل سوق ومجلس، وعند كل هزل وجد، ومع كل شكل وضد، يقيم ميزان العدل ويحقق النصفة المقبولة، فلا يفقد الناس إيمانهم بتحقيق العدالة في هذه الدنيا الوبية! ولعلنا نلاحظ النقلة المهمة التي قد يكون الكاتب سعى إليها فيما يتعلق بثأر المظلوم من الظالم، إذ يستبدل العنف الفعلي، الذي كان سائدا بالفعل، بالعنف اللغوي المتخيل على الظالم أو فاعل الشر! وهذه مسألة قد يكون لها أهميتها القصوى في ظل هذه المرحلة التاريخية المعقدة المليئة بالصراعات الدموية الضارية، سياسيًا وعرقيًا ودينيًا واجتماعيا... إلخ!

ولعله العنف التخيلي الذي يمارسه المثقف المقموع بحاجته الهاتكة، والساعي لصاحب السلطان أملا في منحه إياه فرصة الحياة الكريمة التي يستحقها تقديرا لقيمته المعرفية، حين يحرم مسعاه، فيعيد إنتاج القمع على صاحب السلطان عبر كتابة الثلب شديدة العنف والقسوة، والمشوهة بل النافية لحضوره السيادي التاريخي!

إن إعلان التحدى العارم للرمز السلطوى بهذه الصورة التي لا تخلو من ندية لافتة هي ندية الابتلاء المتبادل، لا يتناسب مع اتهام التوحيدى لابن عباد مرارا وتكرارا بالظلم والاستبداد وسفك الدماء! بل لا يتفق مع مقدمة كتاب المثالب الطويلة ذات الطابع الدفاعي، إذ تسعى الكتابة لنسج مظلة حماية وآمان للذات الكاتبة التي تدرك خطورة الفعل بالرغم من كونها خاضته جسورة متطاولة، متجاوزة كل الحدود، مغامرة بكل شيء أو هذا هو ما يبدو للوهلة الأولى!

يقول التوحيدى مبررا كتابته:

«إن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها كذلك النفوس طبعت على بغض من أساء إليها... ويعد حمد المحسن وذم المسيء أمران جاريان على مر الزمان مذ خلق الله الخلق... وهو عز وجل أول من حمد وذم، وشكر ولام، ألا تراه كيف وصف بعض عباده عند رضاه عنه، فقال «نعم العبد إنه أواب»... ثم انظر كيف وصف آخر عند سخطه عليه وكراهته لما كان منه، فقال: «هماز مشاء بنميم مناع للخير، معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم» وهذا فوق ما يقول مخلوق في مخلوق... وكيف يأثم الإنسان في عينه من كان قلبه تعلا بالنفاق، وصدره مريضا بالكفر، ونفسه فائضة بالقساوة... وسيرته جارية على الكيد والعداوة، وعشرته ممقوته بالنكد والرداءة... وقد اثنى الله على واحد ولعن آخر، وكذلك الرسول (ص)، ومن تقدمه من الأنبياء والمرسلين، والأولياء المخلصين والسلف الطاهر والصحابة العلية، وهم القدوة والعمدة... ونحن اهتدينا بالله رب العالمين، وجرينا على عادة الأنبياء والمرسلين، وأخذنا بهدي عباد الله الصالحين... ومتى كان ذكر المهتوك حراما والتشنيع على الفاسق منكرا، والدلالة على النفاق خطلا، وتحذير من الفاحش المتفحش جهلا؟... والله تعالى يقول : «لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم»، وروى أصحابنا عن ابن عباس أنه قال : إلا من لم يكرم في ضيافته، فإن كان هذا التأويل صحيحا، فأنا ذلك المظلوم، ولابد لمن ظلم من أن يتظلم، وكيف يكون المظلوم إذا انتصر ظالما، والله يقول «ولمن انتصر بعد ظلمه، فأولئك ما عليهم سبيل».

على أية حال، لا تكتفي الذات الكاتبة بمنح كتاباتها وحضورها تلك المشروعية متعددة المستويات، بل إنها تمنحها كذلك المصداقية المعرفية، فمن الناحية العقلية، يناقش النص سالف الذكر مدى منطقية تجريم الإنسان أو تأثيمه إذا اغتاب من كان قلبه مليئا بالنفاق، وصدره مريضا بالكفر، وسيرته جارية على الكيد والعداوة ونفسه فائضة بالقساوة... إلخ! وتضع الذات الكاتبة نصها بوضوح ضمن نصوص المدح والذم، والمناقب والمثالب، فضلاًَ عن التراث البلاغي واللغوي المتعلق بهذه الممارسة الكتابية، وكذا الرسائل النثرية المتبادلة بين الكتاب والمثقفين، وبعضهم البعض، وبينهم وبين الحكام والوزراء... إلخ!! وهو الأمر الذي يجعل النص يتحرك بحرية ورشاقة وخصوصية داخل مجمل السياق الثقافي، متلاقحا ومتحاورا، ومتناصا بحيوية جدلية خلاقة وإبداعية مع النصوص المنجزة داخل هذا الفضاء الكتابي! وتلح الذات الكاتبة على القيمة المعرفية والبيانية الرفيعة لنصها الإبداعى، وكونه نصا مفيدا ذكرا ونشرا! ذلك أنه يقدم لقارئه السلطوي مشهدًا إنسانيًا متنوعاً ينطوي على كل ما تتوق إليه النفس الإنسانية من معانى وأفكار وقيم، فضلا عن اكتشاف الذات لذاتها، مناقبها ومثالبها، وإعادة تقييم تصوراتها وعقائدها وأخلاقها عبر نظرة الاعتبار لمسارات الآخرين مراياها المغايرة والمشابهة في آن، إضافة إلى الامتاع والمؤانسة، ونشوة الجمال التي يورثها سحر اللفظ الموفق، والتأليف المعجب، والنظم المتلائم.. إلخ!!

أما الوزير ابن سعدان فيلح على قيمة الصدق في الرواية، والبعد عن الاختلاق والتحريف، بل يربط هذه القيمة بالقدرة البيانية إذ تتناسب طرديا مع فخامة المعنى ونبله، وحلاوة اللفظ وقبوله، ولعله كان يخايل نرجسية الذات الكاتبة البيانية في حين أنه كان يسعى للحصول على معلومات مهمة حول الوزيرين وخاصة الصاحب ابن عباد، إذ أميل إلى الاعتقاد بأن الحديث عن ابن العميد كان بمنزلة تغطية على الحديث الأهم، حديث الصاحب الذي كان مازال حيا وفي عز سطوته وجبروته.

ومن اللافت للانتباه حقا، أن تقوم الذات الكاتبة بقلب الأمر على محاورها السلطوي، وتنسج له، ولذاتها ولقارئها الممكن فخا إغوائيا قرائيا، بل كتابيا جديدا! ذلك أنها ستسعى لإدراج هذا العنف الكتابي، وهو الغالب على النص إذا ما قورن بحديث الفضائل الهامشي السطحي، داخل بنية القيم والأعراف والتقاليد والمعايير السائدة في المجتمع العربي الإسلامي الوسيط! ذلك أن هذا النوع من الكتابة سيغدو ممارسة ضرورية لتحقيق حضور الذات الراقية بوصفها ذاتا شجاعة شريفة لا تقبل الضيم والمذلة والظلم!

يقول:

«هذه الجملة أكرمك الله أنت احوجتنى إليها، وجشمتني صعبها حتى... تقلبت في حافاتها مختارا، ومضطرا، وتصرفت في فنونها محسنا ومسيئا، لما تابعت من كتاب بعد كتاب، تطالبني في جميعه بنسخ أشياء من حديث ابن عباد، وابن العميد... منذ سنة خمسين وثلاثمائة إلى هذه الغاية، وزعمت أني قد خبرت هذين الرجلين من غمار الباقين، ووقفت على شأنهما، واستبنت دخائلهما، وعرفت خوافى أحوالهما، وغرائب مذاهبهما وأخلاقهما ولعمري، قد كان أكثر ذاك، إما بالمشاهدة والصحبة، وإما بالسماع والرواية من البطانة والحاشية والندماء، وذوي الملابسة.. وقلت: لا يحلو موقع ذلك كله، ولا يعذب ورده... ولا ينقاد السمع له، ولا يراح القلب به إلا بعد أن تدع المحاشاة، وأنت مقتدر، وتفارق المخاشاة، وأنت منتصر، وإلا بعد أن تترك العدو والحاسد ينقدان بغيظهما انقدادا، ويرتدان على أعقابهما ارتدادا، فإن التقية في هذا الفن مجزعة مضرعة، وركوب الردع فيه مأثرة ومفخرة. وقلت، والعامة تقول : من جعل نفسه شاة دق عنقه الذئب، والكبر في استيفاء الحق من غير ظلم، كالتواضع في أداء الحق من غير ذل... كذلك السكوت في موضوع الكلام لكنة وحصر».

ولعلنا نلاحظ تركيز الذات الكاتبة على إبراز إلحاح صاحب السلطان (الوزير)، ومطالبته اللجوجة إياها لكتابة هذا النص إلى درجة الضغط عليها، ولعلها تشير إلى تلويحات بالحرمان من الرعاية والعطاءات والمنح، بل تجشيمها الصعب والعسير لبلوغ المنال، معرفة أخبار الوزيرين، وصفاتهما وأخلاقهما وأحوالهما، وغرائبهما ونوادرهما، وخوافي شئونهم وأمورهم! على أن تقوم الذات الكاتبة بتجميع جميع المعلومات الممكنة غير مكتفية بالمشاهدة والصحبة، بل لابد أن تلجأ إلى مصادر أخرى مما يرويه وتسمعه وتعرفه من البطانة والحاشية والندماء! وقد أوقع هذا الإلحاح، وتلك اللجاجة السلطوية المتتابعة بالكتاب بعد الكتاب الذات في توتر واضح وجلي بين الاختيار والاضطرار، وهو ما يكشف لنا مدى التوتر الخفي الذي كانت تهجس به علاقة التوحيدي بوزيره المفضل ابن سعدان، السيد الحق المثال، أو كما حاول ان يصفه دوما، ويصوره كنقيض سلطوي راقٍ لابن عباد، خاصة، وهي المبالغة التي قد تكشف عن مفارقتها الداخلية الفادحة. ففي حين يخايل صاحب السلطان نرجسية الذات الكاتبة المعرفية والبيانية ثانية، متحدثا عن عمق خبرتها ومعرفتها بالوزيرين، من ناحية، وعن حلاوة وعذوبة حديثها في هذا الصدد وانقياد سمعه السلطوي لها، وراحة قلبه المليء بالهواجس والظنون لقولها الصادق من ناحية أخرى، فإنه يخايل نرجسيتها الأخلاقية رابطا بين تحقق التأثير المعرفي والجمالي بذروته واكتماله وسطوته عليه، وبين الجرأة وشجاعة ذكر الحقيقة دون محاشاة أو مخاشاة أو تقية، بل عبر مرايا الكبرياء والشرف الذي يليق بأمثال التوحيدي من أهل المعرفة والحكمة والخبرة الرفيعة! ويواصل صاحب السلطان استفزاز الذات الكاتبة مؤكدا أن صنع المرء لمصيره، وتحديده لقيمته الإنسانية مرهون بالمقام الأول برفضه لأن يسحق أو يذل، أو يقبل التنازل عن حقوقه، ويتواضع حيث لا يليق التواضع أو يسكت في موضع الكلام... إلخ!!

ولعلنا نواجه هنا لعبة كتابية شديدة الالتباس والتعقيد، إذ تكاد الذات توهم ذاتها، وقارئها الممكن بكونها مجرد متلقي سلبي للرغبة السلطوية الملحة، مضطر لتحقيقها، وكأنها تمارس حضورها الكتابي العنيف، خارج مدارات الصراع السلطوي الذي لا ناقة لها فيه، ولا جمل، وكأنها راوٍ محايد أو موضوعي لكنه واقع تحت وطأة سلطة لا تكف عن قمعه والضغط عليه واستخدامه بكل الطرق والوسائل الممكنة! وفي حين تحتمي الذات برغبة السلطوي الضاغطة، وتجعل قارئها الممكن يتعاطف مع مأزقها الحرج، وتخايل صاحب السلطان موهمة إياه بالهيمنة المطلقة على المشهد، فإنها تزكي وتؤجج نيران الصراع السلطوي إذ تضع الوزير أمام قرينيه، وخاصة الصاحب ابن عباد عدوه المهاب! ولعلها لا تكشف وتعري خبايا المشهد السلطوي فحسب، بل تمارس قلبا للأدوار، وتتلاعب بأصحاب السلطان، كما كانوا دوما يتلاعبون بها وبأقرانها. وربما كانت الذات تقدم ذاتها لقارئها الممكن بوصفها ذاتا راقية تمتلك سمات الشرف والجرأة والقدرة على مواجهة الظلم والاستبداد، ومقاومته بالكتابة والكشف، فيبدو النص مغامرة خطرة لكتابة جسورة تخايل القارئ الممكن بصورة بطولية للذات الكاتبة، ولعلها صورة المثال المشتهى في مخيلة الذات، والذي سعت إليه لكنها لم تتمكن من تحقيقه فعلا.

وقد تكون هناك احتمالات أخرى لافتة، فلعل الذات الكاتبة غامرت في ظل حالة من اليأس المطلق من إمكان تحقيق أي شيء، أو تحصيل أي أمل داخل هذا الفضاء السلطوي المجدب، فضاء الوزيرين! وحينئذ يغدو الظهر إلى الجدار، ولا يبقى ما تخسره الذات أو تكسبه إذ تتساوى كل الاحتمالات والنتائج، بل تنتفى جميع توترات الذات بين الخوف والرجاء، فلا حلم ولا أمل ولا وعد، ولا خوف من عقاب أو وعيد داخل هذا العالم. وربما لم يكن هذا صحيحا على إطلاقه!.
--------------------------------------
* كاتبة من مصر

-----------------------------------------

عائشةٌ تشقُّ بطنَ الحوت
ترفع في الموج يديها
تفتح التابوت
تُزيح عن جبينها النقاب
تجتاز ألف باب
تنهض بعد الموت
عائدةً للبيت
هأنذا أسمعها تقول لي لبَّيكْ
جاريةً أعود من مملكتي إليك
وعندما قبَّلتها بكيتْ
شعرت بالهزيمة
أمام هذي الزهرة اليتيمة

عبدالوهاب البياتي

 

هالة فؤاد*