جنوب إفريقيا: رأس الرجاء.. هل أصبح صالحا؟

 جنوب إفريقيا: رأس الرجاء.. هل أصبح صالحا؟

ارتجت السفينة وهي تلامس شاطئ الجزيرة فسرت رجفة في نفوسنا جميعا,بدت الأبنية الداكنة كأنها تحاول الاختفاء بين الصخور والأشجار, ولكن ما إن سرنا على اليابسة قليلا حتى ظهرت أمامنا فجأة أبراج المراقبة والسور الممتد الذي تعلوه الأسلاك الشائكة, لم تفقد جزيرة "روبن" رهبتها بعد رغم أنها تحولت إلى مزار سياحي, تاريخها الطويل منذ أن كانت الجزيرة منفى للمصابين بالجذام ثم أصبحت منفي للمسلمين الثوار من جنوب شرق آسيا, ثم تحولت إلى سجن طويل الأمد لكل السود الحالمين بالحرية والمساواة, كل هذه المصائر تركت آثارها على كل صخرة فيها, عبر مياه البحر تبدو مدينة "كاب تاون" كأنها في الجانب الآخر من العالم, لا يفصلنا عنها سوى سبعة كيلو مترات فقط, ولكن الموج الأزرق كان قاسيا حتى أنه في كل هذا السنوات لم ينجح سوي سجين واحد في الهرب من الجزيرة ولم يدر أحد إن كان قد وصل للشاطئ الآخر حيا أم لا.

دخلنا إلى طرقة السجن الضيقة حيث كان الدليل يقف في انتظار الجميع, هادئا صبورا لا يبدو عليه أي أثر للتململ, أثارتني هيئته, لم أستطع أن أتأمل الجدران ولا البوابة الضخمة ولا الزنازين الضيقة بقدر ما غصت في ملامحه, لم يكن مهندما أو أنيقا رائقا ولا صغير السن مثل بقية الأدلاء, كان شعره الأشيب يصنع هالة فضية فوق وجهه الأسود, ملامحه كثيرة الغضون, وأسنانه صفراء غير منتظمة, وكذا ملابسه, تبدو كما لو شراؤها قد تم من متاجر قديمة متفرقة, ينظر إلينا بعينين غائمتين, كأنه لا يرانا, بل ينظر من عبرنا إلى أفق آخر, رفع يده عاليا ليسكت غمغماتنا, ثم قال بصوت أجش خفيض: اسمي دانييل ديفيز, سأقودكم في جولة خلال هذا المكان, وأنا أفضل من يقوم بذلك, لأنني سجين سابق و قضيت عشر سنوات من عمري خلف هذه الجدران, استدار مبتعدا فسرنا خلفه وقد خيم علينا صمت الصدمة المباغتة, كانت الجدران قد طليت بطلاء أصفر حديث, أما أبواب الزنازين فقد أخذت اللون الرمادي الكابي, الزنازين ضيقة لدرجة تثير الاختناق, ولا أحد يدري كيف توفرت كمية الهواء الكافية للتنفس في هذا الحيز الضيق, ارتفع صوته الأجش وهو يقول : الحبس كان دوما انفراديا, ولم تكن هناك أسرة, لم يكن بقية المساجين يرون بعضهم البعض إلا أثناء العمل في المحجر ولم نكن نستطيع تبادل الكلام إلا داخل حفرة ضيقة بعيدا عن أعين الحراس. كنا قد رأينا هذه الحفرة من قبل خلال جولتنا في الجزيرة, محجر ضخم من الكلس حيث يقوم السجناء بقطع الأحجار ليقوموا ببناء السجون التي سوف يسجنون فيها, توجد في نهايتها مغارة صغيرة يطلقون عليها "جامعة جزيرة روبن", فبعيدا عن أعين الحراس البيض كان السجناء يجتمعون ليتبادلوا الأحاديث والخبرات, في هذا المكان جلس مانديلا مع رفاقه في السنوات الطويلة يحلمون باليوم الذين سوف يخرجون فيه من حفرة الكلس, وعندما جاء هذا اليوم, أمسك مانديلا بأحد الأحجار ووضعها في مدخل المحجر ودعا كل رفاقه من السجناء لأن يضعوا حجرا فوقها, وتكون من هذه الأحجار هرم صغير مازال موجودا, كرمز لسمو الروح الإنسانية ورفضها لكل صنوف الإذلال والقهر, داخل السجن بدأنا نلهث ونحس بالاختناق, من أحد الزنازين أرتفع صوت رجل يغني, كانت الزنزانة خالية, ولكن الصوت الأجش المليء بنبر ات من التوجع والأسى تواصل, ارتفع من أكثر من زنزانة, كأن الجدران قد احتفظت بأصداء كل العذابات القديمة, سمعنا صوت الدليل وهو يقول : "كنا نقضي الليل الطويل في ترديد هذه الأغاني, لقد احتفظنا بتسجيلات لها لعلكم تشاركوننا في هذا الليل", لم تكن الزنازين تحتوي على الأصوات فقط, كانوا هم أيضا متواجدين, صور السجناء مكبرة بالأبيض والأسود, معلقة على الجدران, مكتوب تحت كل واحد منها الاسم وسنوات الاعتقال, عشر سنوات, خمس عشر, عشرون, سنوات طويلة ومتصلة, اقتنصت هذه الجدران طيور شبابهم الحلوة وقصت أجنحتها, كانوا فقط قد حلموا ببقعة من الأرض تتساوى فيها كل الألوان ويحصل فيها الجميع على نفس الحقوق, أشار الرجل إلى الزنزانة رقم 15, وهو يقول : "هذه زنزانة زنيلسون مانديلا" أو بالأحرى آخر زنزانة أقام فيها, فقد جرب على مدى ثمانية وعشرين عاما كل أنواع الزنازين "توقفنا جميعا مبهوري الأنفاس, لم تكن تختلف في شيء عن بقية الزنازين, نفس المقاييس, ونفس درجة الكآبة. كانت الأغطية الصوفية التي أستخدمها لاتزال موجودة, بطانياتان ملفوفتان في إحكام وموضوعتان في عناية إحداهما فوق الأخرى وفوقهما الآنية المعدنية التي كان يتناول فيها وجبة السجن, كل شيء مرتب كأنه كان يتوقع أي تفتيش مفاجئ, يقول الرجل: "قابلته أثناء العمل مرتين, وقد تعلمت منه ألا أكون ضحية لهذا السجن" نجر أقدمنا خلفه, رغما عنا أحسسنا بوطأة السجن. وهي تزداد في حدتها, كانت الأغاني مازالت تلاحقنا, تجعل أقدامنا أكثر تثاقلا, يتوقف الرجل أمام زنزانة أخرى فنتوقف نحن أيضا, يظل صامتا حتى تتوقف الأغاني, ثم يقول في استسلام: "هذه زنزانتي", يصدر الباب صوت خفيضا وهو يفتح, وصوت آخر وهو يغلق, كان قد أصبح في الداخل, ولم نعد نراه إلا من خلال الكوة الضيقة, بدا كأنه قد انزلق فجأة إلى عالم غير عالمنا, خطا خطوتين فأصبح في أحد الأركان ثم أقعى على الأرض وضم ذراعيه حول ركبتيه و أحنى رأسه,بدا كأن عقوبته لاتزال متواصلة, انفتحت في أغوار نفوسنا عشرات المسارب الغامضة, قادمة من الأرض البعيدة على الشاطئ الآخر, ذهب وماس وعبيد, عاج وعرق, سحب تتعثر في الجبال وشواطئ رملية مضيئة ومناجم كابية تفوح منها رائحة البارود والكحول وعبق القبور الجماعية, غابات ورؤى وقبائل وملوك بلا أنياب وجروح تنز صديدا من قسوة السلاسل, يرفع رأسه دون أن يرى عيوننا المبحلقة فيه عبر الكوة, يقول بصوت أجش خافت: لم يكن مسموحا لنا إلا برسالة واحدة كل ستة أشهر, في هذه السنوات العشر كتبت أكثر من ألف رسالة, لم يصل منها إلا تسع, ولم أتلق إلا ثلاث, كانت بقية الرسائل تمزق أمام عيني دون أن يسمح لي بقراءتها, طوال هذه المدة لم أعرف إلا أقل القليل عن زوجتي وأولادي, وحين خرجت لم أجد منهم أحدا, كانوا قد استغاثوا بي طويلا دون جدوى. أخفض رأسه مرة أخرى ووضعها بين ركبتيه, لم ندر إن كان يبكي أم لا, ولم ندر أيضا إن كان علينا أن ننصرف أو نظل واقفين, بعد برهة نهض وسار أمامنا وهو لا يكف عن الكلام كأنه يحاول أن يطرد من نفسه كل المخاوف القديمة, بعد ذلك تركنا نتجول في السجن لعلنا نعرف وحدنا طريق الخروج .

في المساء عدنا للجزيرة مرة أخرى, كان هذا موعد الزمن الآتي مع مانديلا حيث سيقف ويضئ شمعة للقرن الجديد, أي استقبال للزمن أروع من ذلك, وسط الليل يقف بجسده النحيل الذي استطاع أن يتحمل كل شيء, يدخل زنزانته ويقف فيها متأملا ثم يوقد شمعة وسط ظلمتها, ويذهب بقية رفاقه, كل واحد منهم إلى زنزانته, يخرج ويسلم الشمعة لخليفته تابو مابيكي كما سلمه السلطة منذ شهور قليلة, فيأخذها منه ليعطيها لأحد الأطفال, أطفال ذلك الزمن الذي كان متأهبا للمجئ في تلك اللحظة الباردة العذبة, تتوقف أغاني الزولو ويسود الجزيرة لحظات من الصمت الجليل, أتأمل الرجلين, كل واحد منها دفع غاليا من أجل تلك اللحظة, يبدو مانديلا رمزا لذلك القرن التعس الذي أصابنا جميعا بجزء من تعاسته, وأدرك لدهشتي أن النضال لم ينته بعد.

أخيراً نحن أحرار

كلمات هذا الرجل تحمل الكثير من نسيج روحه, في حضور كوريتا سكوت كنج زوجة الزعيم الزنجي مارتن لوثر كينج يقول مانديلا مخاطبا شعبه: لقد أظهرتم الصبر العظيم والتصميم الأعظم,حتى تستعيدوا هذه البلاد, إن في إمكاننا الآن أن نصرخ بأعلى أصواتنا: نحن أحرار, أخيرا نحن أحرار, إنني أنحني في تواضع أمام شجاعتكم,وبقلب ممتلئ بالحب لكم, إن هذا ليس زمن الانتقام ولكنه زمن مداواة الجراح من أجل بناء جنوب إفريقيا جديدة, لنا وللعالم.

من النادر أن نجد رجلا مثله ليس له حياة خاصة, فتاريخه حياته جزء من التاريخ العام الذي دخله بالجلد والتواضع وإعلاء الروح الإنسانية, اسمه بالكامل نيلسون روليهلاهلا مانديلا, ابن الزوجة الثالثة لأحد ملوك الكوسا, إحدى القبائل من أبناء عمومة قبيلة (الزولو) التي تحملت كثيرا في حربها مع الرجل الأبيض الكبرى, الأب كان ملكا صغيرا كما قلنا, بلا حول ولا صولجان, أعطى ابنه حكمة الملك دون سلطته, وعزته دون جبروته,ولد في 18 يوليو عام 1918 في قرية صغيرة تدعى (كونيو), وتعلم رعي الماعز رغم مكانته المميزة وسط القبيلة, كان يهيئ نفسه للامتزاج الكامل مع الطبيعة كأنه كان يدرك أنه سوف يحرم منها بعد ذلك لسنوات طويلة, في الثامنة عشرة من عمره تمزقت أرض قريته القديمة, وأجلي السكان بالقوة لإخلاء الطريق أمام الطرق السريعة التي توصل منطقة الترنسيفال بمدينة (الكاب تاون), ثم رحل بعد ذلك إلى مدينة الذهب (جوهانسبرج) ليعيش على هامشها في منطقة (سويتو), الجحيم الأسود, عمل في المناجم وبدأ يخوض عدة محاولات فاشلة للالتحاق بالتعليم العالي, الأمر الذي كان متاحا للسود في أضيق الحدود, هل شفع له أنه كان ابن ملك لأحد القبائل الغاضبة, ففي الأخير سمح له بدراسة القانون, ومنذ تلك اللحظة وقد بدأ رحلته من أجل رفع شأن قومه من المستعبدين في الأرض, في عام 1944 انضم إلى شباب حزب المؤتمر الناهض, وبدأ يمارس رياضة الملاكمة ليحافظ على لياقته, ومما لاشك فيه أن هذه الرياضة قد أفادته كثيرا وجعلت جسده شديد التحمل, في هذه الفترة تقابل مع (رويني) الذي أصبحت زوجته الثانية والشهيرة بعد طلاقه من زوجته الأولى والمجهولة تقريبا (ايفلين).

في عام 1964 وبعد إنشاء الجناح العسكري لحزب المؤتمر ألقي القبض عليه وحكم عليه بالسجن مدى الحياة ونقل إلى جزيرة "روبن" التي اكتسبت شهرتها فيما بعد بسببه, وجرب فيها سنوات القمع والتعذيب التعيسة, وفي بداية السبعينيات وبفضل تدخل المنظمات الإنسانية تراخت الأنظمة الصارمة قليلا مما أتاح الفرصة لمانديلا لكتابة سفره المهم "الطريق الطويل للحرية", كما أتيحت له الفرصة ليعلم الكثير من المساجين داخل مغارة الكلس.

سنوات السجن المتواصلة حولت مانديلا إلى أشهر سجين سياسي في القرن العشرين, وأصبح وجوده خلف القضبان يمثل ضغطا عالميا على النظام العنصري, فالسجن لم يضعفه لأن جسده الواهن كان قد عرف الطريق إلى جوهر الكرامة الإنسانية, في عام 1990 اضطرت السلطات العنصرية للإفراج عنه, وتحول حزب المؤتمر إلى حزب شرعي, انتخب رئيسا له وبدأت المفاوضات الطويلة من أجل إنهاء حكم الأقلية, كان المظاهرات والاعتصامات قد شلت جنوب إفريقيا تقريبا, وبدأت المذابح تهدد الوجود الأبيض على هذه الأرض السوداء, وفي عام 1993 توجت هذه المفاوضات بحصول مانديلا ودي كليرك زعيم الحزب الحاكم على جائزة نوبل للسلام, وعقدت أول انتخابات حرة وأصبح أول رئيس أسود لجنوب إفريقيا, لقد مشى في رحلته الطويلة نحو الحرية على أدق الخيوط وحرر ناسه من قمع وحشي استمر على مدى عشرين جيلا من البشر وبصورة لم تحدث في أي مستعمرة من المستعمرات اللهم إلا ما تفعله إسرائيل في أهلنا في فلسطين, ورغم ذلك كله لم يشعل نيران الانتقام عندما تولى الحكم, ولكنه ترك البيض يمارسون أعمالهم, ويمكنني القول بعد أن شاهدتهم على الطبيعة وهم يمارسون حياتهم أنهم بفضل هذا الرجل لم يفقدوا شيئا إلا بعض الصلف والغرور وشهوة الاستحواذ على كل شيء.

قبل انتخابات عام 1999 أعلن مانديلا اعتزاله,ليترك الحكم للجيل الذي يليه ليرتقي لمستوى الرمز أو الروح الكبرى كما يطلق عليه بلغة أهل قبيلته من (الكوسا), لقد عاد للإقامة في بيت صغير في بلدته الأولى (كونو) مكون من طابقين بالقرب من الطريق السريع الذي شق قريته, وقد أهداه بعض المحبين رءوسا من الماشية يتسلى برعايتها, ويقوم هو وزوجته الجديدة (جراسا) بزيارة أقاربه الذين بقوا على قيد الحياة, لقد عاد للراحة في نفس المكان الذي بدأ فيه طريقه الطويل نحو الحرية.

حيث لا مكان للتسامح

هذه الروح المتسامحة هي التي طمأنت البيض قليلا وأوقفت موجة الهجرة إلى أستراليا التي حدثت في الأيام الأولى للاستقلال, وقد تبددت هذه الطمأنينة قليلا عندما جاء خليفته مبيكي إلى الحكم, فهو لا يني يردد أن هدف حكومته هو القضاء على البطالة والفقر وليس طمأنة البيض, وهو بالفعل يواجه تحديات هائلة, مسؤولين فاسدين بلا ضمير, عاطلين بلا عمل, ومشردين بلا منازل, ومستشفيات بلا أطباء, ومدارس بلا مدرسين, فكيف يجدي التسامح في مقاومة كل هذه المشاكل؟ وهل يستمر هذا التسامح طويلا في وجه ذلك التناقض الصارخ الذي مازال قائما بين أقلية بيضاء مازالت تنعم بكل رفاهية الحياة وأكثرية سوداء تعيش حالة من الحرمان الإنساني رغم أنها تحكم بالاسم فقط؟

ولا أحد يعتقد أن "مبيكي" يمتلك مثل تلك الروح المتسامحة, وأنى له أن يمتلك الرفاهية وهو الذي لم يجرب ولو قدرا ضئيلا منها من رعايا اليوم البيض, لم يجرب السجن ولكنه جرب المنفى الطويل والنضال وسط الأدغال, وفقدان الأهل والأصدقاء, ولد في أحد الأكواخ في منطقة "تراساكي" في الجنوب الشرقي من نفس قبيلة الكوسا الذي ينتمي إليها "مانديلا", كان أبوه مدرسا ماركسيا مخلصا, ترك التدريس وفتح محل للبقالة يوزع من خلاله المواد التموينية والتعاليم الثورية, ونشأ ثابو الصغير داخل المحل وأنفه مدسوس داخل كتب ديستوفسكي وماركس, الأول يحكي عن وجع النفس الإنسانية والآخر يبشر بجدليتها, وفي العاشرة من عمره انضم إلى حزب المؤتمر, ورغم أنه كان متفوقا في الدراسة فإن تعليمه كان محدودا بحكم بقائه داخل المنطقة السوداء, وفي أحد الانتفاضات هاجمت الشرطة العنصرية بيته واضطرت الأسرة للهرب لتعيش تحت الأرض لفترة طويلة من الزمن, وفي عام 1961 ذهبت الأسرة كلها إلى جوهانسبرج حيث تقابلوا مع مانديلا, وخاف أبوه عليه فأرسله للدراسة في لندن, وفي نفس العام تم القبض على الأب ومانديلا معا بينما كان مبيكي يدرس الاقتصاد في جامعة سوكس في النهار ويمارس العمل الحزبي الذي أنشئ في المنفى ليلا, استبدل الحزب بالعائلة ولكن نداء الغابات داخله لم يهدأ فلم يطق المنفي وقرر العودة, لم يكن يستطيع الدخول من الباب الشرعي لذا فقد دخل عبر الحدود عن طريق موزمبيق ليعمل مع فصائل المقاومة التي كانت تنتقل من قواعدها في سوازولاند, ولم يجد البوليس السري في جنوب إفريقيا ردا على ذلك إلا بالقبض على أخيه الأصغر وبقية عائلته بحجة أنهم سوف يقودونهم إلى المنفي ثم أعدموهم في الطريق, ولم يكن أمام مبيكي إلا أن يواصل النضال من موقعه على الحدود.

في عام 1985 أصبح مبيكي هو مبعوث حزب المؤتمر مع جماعات البيض السرية المعارضة لقوانين التفرقة العنصرية, ثم تقابل مع الحكام البيض للمرة الأولى للتفاهم على طريقة لوقف الإضرابات وحركات التمرد التي أصابت اقتصاد جنوب إفريقيا بالشلل التام, كان النظام العنصري آخذاً في التحلل, واضطرت السلطات لفتح سجونها التي أغلقت طويلا, وفي جوهانسبرج استطاع أن يقابل مانديلا أخيرا بعد أن أفرج عنه, وكان يفصل بين المقابلتين 29 عاما بالتمام والكمال, قابله وهو يحمل ميراثاً طويلاً من الغضب ومن الحياة الصعبة المريرة قضاها في المنفى وعلى الحدود ووسط الأدغال وهو يشاهد أهله ورفاقه يتساقطون واحدا بعد الآخر, وهو يحاول الآن أن يعدل الكفة التي مالت طويلا وهو يقاوم على جبهتين, جبهة البيض التي تريد أن تتمسك بامتيازاتها القديمة, والطبقة السوداء الحاكمة التي صعدت من صميم الفقر والشقاء وسرعان ما دب الفساد في الكثير من أعضائها.

كانت هذه أولى ملامح رحلتنا ولكن خاف ذلك الواقع المضطرم كانت هناك المزيد من التفاصيل التي علينا أن ننقب بحثا عنها.

في باطن المنجم

كنا نواصل الهبوط إلى باطن الأرض, ظهرت تجاعيد الصخور واكتست الجدران بطبقة لامعة من الماء المتساقط لم أدر مصدرها, المصعد الذي يهبط بنا قديم ومكشوف, يبين لنا عمق الهوة السحيقة التي نهبط إليها, ابتسم الدليل وهو يقول لنا: (لن تهبطوا إلى قاع هذا المنجم بالتأكيد فالعمق هنا يبلغ ألفين وثلاثمائة متر, أي أنه يوازي ارتفاع أعلى الجبال, سوف نهبط فقط إلى عمق 200 متر, الطبقة الأولى من المنجم, هذا كاف عليكم وإن كان ليس كافيا بالنسبة للباحثين عن الذهب (توقف المصعد في درجة قوية, وبدا الممر موغلا في جوف الصخر المظلم, لبسنا خوذة من المعدن في قمتها مصباح صغير يرسل شعاعا من الضوء يزيح جزءا ضئيلا من العتمة, يشير إلى صندوق عليه علامات حمراء: (هذا صندوق المتفجرات,هنا كانت توضع أصابع الديناميت, لو نظرتم إليه فسوف تجدون اسم شركة (نوبل)عليه, إنه المخترع الشهير الذي ندم على هذا الاختراع, ولكنه جعل الذهب يتضاعف عشرات المرات, وكذا ضحايا الحروب, تحيط بنا الصخور من كل جانب ويصبح الهواء رطبا وثقيلا, تبدأ أصوات المنجم الخفية في الصعود, صوت المعول وهمهمات الرجال وصيحات الخطر من التفجير والانهيار, نراقب الصخور القلقة وقد تم تدعيمها بأعمدة خشبية, الخطر مازال ماثلا رغم أن المنجم قد أحيل إلى التقاعد, يشير الدليل إلى مكتب صغير يعترض طريق الممر وبجانبه خزانة حديدية صغيرة, يقول: (هنا كان يجلس رئيس الوردية, كل عامل كان يعطيه (كارت) العمل قبل الدخول, ويأخذه منه لحظة الانصراف, وإذا بقي معه أي (كارت) فهذا يعني أن هناك عاملا مازال في الداخل, قد يكون ضائعا أو مريضا أو ميتا, مانديلا نفسه عمل رئيسا لأحد هذه الورديات حين كان طالبا في (جوهانسبرج), كان الجميع يخضعون لقوانين المكان الصارمة, يأتون عبر حدود الغابات, أشتات من ذوي البشرة السوداء, يستبدلون جوعهم بتفتيت الصخر, غرباء لا يجمعهم سوي خوفهم من الخطر المتمثل في انهيار الصخور في أي لحظة, كانت إدارة المنجم تجمع العمال الجدد لمدة أسبوعين لتعلمهم لغة يشتركون فيها جميعا, تعتمد في أساسها على الإشارات وعلى خليط من الهولندية ولغة الزولو والإنجليزية, ثم تدفعهم إلى عمل قاس وتعطيهم أجرا نصفه مال ونصفه خمر, يشير الدليل إلى غرفة واسعة منحوتة في الصخر, مليئة بالمناضد والمقاعد الحجرية, وسقفها مغطى بشبكة من أعواد الصلب لتمنع صخوره من التساقط, يقول: (هذه هي الحانة, هنا كان العمال يأخذون راحتهم ويتناولون الطعام والشراب, وإلى هنا أيضا كانوا يلجأون عندما يحدث أي انهيار في المنجم, أشار إلى السقف وهو يواصل الكلام: هذه الشبكة من الحديد الصلب جعلته هو المكان الوحيد الآمن, كان العمال يخرجون من جوف المنجم مدينين والثمن هذه الحانة تحت الأرض, نغوص في المنجم أكثر وأكثر, كان منجم (كراون) هو أغنى منجم على وجه الأرض, وقد استنزف تماما بحيث إن الطن الواحد من الصخور لم يعد ينتج سوى جرامين ضئيلين من الذهب بعد أن كان إنتاج المنجم يقدر بالأطنان, صورة مصغرة لكل ما حدث في جنوب إفريقيا, وقد أخذت منه كل الصخور التي رصفت شوارع مدينة جوهانسبرج, لذا فعندما يطلق عليها مدينة الذهب فلا يبتعد هذا الوصف كثيرا عن الحقيقة, فالأحجار الصماء مليئة بشذرات من الذهب, كما أن المدينة بكل ما فيها من فخامة هي نتاج طبيعي له.

مدينة مزدوجة الشخصية

خارج المنجم تبدو مدينة جوهانسبرج مدينة مخاتلة وغريبة, حين هبطنا إلى مطارها الدولي البالغ الفخامة لم أتصور ما أراه, كانت شبكة الطرق والجسور المتقاطعة تماثل أحدث الطرق في أوربا ومضافاً إلى ذلك تلك الطبيعة الاستوائية البالغة الجمال, وعندما ظهرت ناطحات السحاب العالية أمامنا تخيلنا أننا على أعتاب (مانهاتن), ثم بدا الأمر غريبا, كنا نقف وسط مدينة مزدوجة الشخصية, فهي أوربية رغم أنها في إفريقيا, وهي تنتمي إلى العالم الأول رغم أنها جزء من العالم الثالث, وهي مدينة تكاد أن تكون خاصة بالرجل الأبيض رغم أنها العاصمة الاقتصادية لدولة غالبية سكانها من السود, وهي تشعرك بالخوف أكثر من مما تدفع إلى داخلك بالألفة, وكثير من الذين عاشوا فيها طويلا ظل هذا الإحساس يلازمهم, فقد بنيت على أساس التباعد بين مختلف الأجناس وليس على التقريب بينهم, ورغم مرور ستة أعوام على زوال قوانين التفرقة العنصرية التي كانت تعتبر هذه المدينة منطقة محرمة على السود إلا بتصريح خاص, الأمر الذي مازالت إسرائيل تمارسه حتى الآن, أقول رغم ذلك فإن الرجل الأبيض, يمازال يمسك شرايينها الاقتصادية ويستمتع بمبانيها الفخمة ويتظاهر بالخوف والرعب من تهديدات السود وسطوتهم.

جوهانسبرج بكل ما فيها من تناقضات هي النتيجة الطبيعية لحمى الذهب التي اجتاحت منطقة الترنسيفال في القرن الماضي, في عام 1886 وجد مستكشف أسترالي قطعة من الصخر توجد فيها آثار من الذهب وكان شديد الإفلاس لدرجة أنه باع اكتشافه بالمكان الذي وجد فيه هذه الصخرة بعشرة جنيهات استرليني فقط, ولم يدر انه بهذا الثمن البخس قد باع سلسلة من الصخور تحتوي على أغنى عرق ذهب في العالم, وفي خلال شهور قليلة تدفق على المنطقة آلاف من الحفارين والأفاقين والمقامرين والبغايا والقساوسة, كلهم جاءوا يركبون العربات التي تجرها الخيول التي ميزت البيض من سكان جنوب إفريقيا ومنها اكتسبوا اسمهم, فكلمة البوير تعني بالهولندية راكبو العربات, وقد جعلوا من هذه العربات سكنا ومستقرا لهم, وسرعان ما تحولت إلى مساكن دائمة, ولكن الحصول على الذهب لم يكن سهلا, فقد كان كامنا في أعماق الأرض, وقد استلزم الأمر رءوس أموالا ضخمه لبدء صناعة المناجم, ولم يكن يملك هذه الأموال إلا تجار الماس السابقون أمثال سسيسل رودس الشهير الذي سميت دولة روديسيا على اسمه, ولم تمر ثلاثة أعوام إلا وأصبحت جوهانسبرج أكبر مدينة في جنوب إفريقيا, جمعت أشتاتا من البشر والألوان المختلفة, وبدأت حكومة الترنسفال بقيادة بول كروجر في اكتساب قوة مضاعفة بفضل الذهب المتفق عليه من أجل نيل استقلالها عن حكم بريطانيا, وقد تحولت جوهانسبرج إلى مدينة أشباح أثناء حرب البوير بين المستوطنين والإنجليز ثم سرعان ما استعادت حيويتها مرة أخرى. وأصبح يشتغل في صناعة التعدين فيها 21 ألف من البيض يكسبون ضعف ما يكسب 180 ألف من السود يعملون معهم في نفس العمل.

ولكن, من هم (البوير) ذلك الصنف الغريب من البشر? من هؤلاء الناس ذوو الفكر الذي طال تحجره حتى أن العالم كله كان يقاطعهم بسب تمسكهم بقوانينهم العنصرية الجائرة؟

هاهي الرأس, فأين الرجاء؟

ربما كان علينا أن نعود إلى البداية إلى اللحظة التي أخذت تلك البلاد مكانها على خريطة العالم, عندما رأى البحارة البرتغاليون صخور رأس الرجاء الصالح السامقة التي تقسم مياه البحر إلى محيطين عظيمين هما المحيط الأطلنطي والهندي, وهتف بارتلولميو دياز قائد الأسطول: (إنه أروع مشهد يمكن أن يراه بشر) من هذه اللحظة انقلب تاريخ العالم كله وليس جنوب إفريقيا فقط.

الرحلة من مدينة (كاب تاون) البديعة الجمال إلى رأس الرجاء الصالح واحدة من أشد الرحلات سحرا التي يمكن أن يقوم بها المرء في حياته, فمناظر ساحل الأطلسي الخلابة وشواطئه الممتدة وما يتخلله من مدن قائمة على ضفاف البحيرات أو نائمة في وديان الجبال هي مشهد ترك في النفس انطباعا لا ينسى, فالسحب غاية في القرب حتى أنك تتعثر فيها كلما مضيت قدما, والسيارة طوال هذا الوقت لا تتوقف عن الصعود كأنها تسير في عالم مطلق الأبعاد لتصل بك إلى أضيق نقطة في إفريقيا فيصبح البحر موجودا على كل جانب وتجد نفسك تقف على صخرة تمثل النقطة الأخيرة من قارة هائلة تقاطعت فيها مصائر الأجناس وتنافرت كما لم يحدث في أي مكان آخر .

في تلك القمة العالية, بجانب الفنار الأخير في إفريقيا وسط قطع السحب والنوارس, يبدو في الأسفل ذلك الشاطئ الرملي الناعم الذي رست عليه السفينة البرتغالية للمرة الأولى في عام 1487م, كان مكانا مليئا بالأمل والعواصف, فالريح تغير اتجاهها ومياه المحيطين تتلاطم متعارضة وتصبح مصيدة لكل السفن, رأس الرجاء من هذا المكان ولدت أسطورة (الهولندي الطائر) التي كانت موضوعا لأوبرا فاجنر الشهيرة, إنها قصة ذلك القبطان القاسي القلب الذي أرغم بحارته على الدوران حول رأس العواصف حتى ابتلعتها الأمواج, وبقيت أرواح بحارتها قلقة تبحث عن مستقر لها, لذا فإن تلك السفينة الشبح التي تضمهم تظهر فجأة كلما خيم الضباب وهي تسير عكس الريح لا تجد مرفأ تأوي إليه, هل أصابت اللعنة هذا القبطان لأنه قتل ما على سفينته من عبيد, أم أنه قايض الشيطان على روحه وخسر الرهان, ولاتزال السفينة هائمة في زمن الأسطورة.

بعد وصول سفينة "دياز" بأعوام عشر, سلك فاسكو داجاما نفس الطريق وهو يبحث عن ممر آمن يقوده إلى بلاد الهند, لم يهتم البرتغاليون برأس الرجاء الصالح كثيرا, كانت مجرد نقطة للاستراحة تزودهم بالمؤن والماء, كان ما يشغلهم هو الساحل الشرقي الإفريقي حيث توجد تجارة التوابل والعبيد, كما أن قبلية "الخوي خوي" القوية حالت دون تقدمهم في المنطقة, لم تكتشف أهميتها إلا في إبان القرن السادس عشر أثناء الصراع الإنجليزي الهولندي من أجل السيطرة على بحار العالم, لم يفكر أحد في استعمارها ولكن البحارة الهولنديين الذين كانوا يبقون على الماء لمدد طويلة كانوا يسقطون صرعى لمرض الإسقربوط بسبب أكل الطعام المملح والمحفوظ , وفكرت الشركة الهندية الشرقية الهولندية للتجارة في خطة لإمداد سفنها المتجهة إلى شرق آسيا بالخضر والفواكه واللحوم الطازجة, وهكذا هبط جان فان ريبيك إلى الشاطئ ليشرف على إقامة مزارع لبعض المستوطنين الهولنديين, ولما لم يكن عدد الأيدي كافيا فقد استقدم ريبيك العبيد من موزمبيق ومن إندونيسيا وماليزيا ومدغشقر, وهكذا بدأت رحلة المسلمين في هذا المكان منذ لحظات ولادته الأولى .

(ملحوظة اعتراضيه :خلال جولتي نشرت الصحف بمناسبة نهاية القرن عن أهم مائة شخصية أثرت في تاريخ جنوب إفريقيا وصنعت تاريخها, وكانت المفاجأة أنها اختارت الشخصية الأولى جان فان ريبيك الذي أدخل التكنولوجيا الحديثة للبلاد, وجاء نيلسون مانديلا في المركز الثاني بوصفه الرجل الذي دافع عن أمل الحرية حتى اللحظة الأخيرة).

كانت الأرض بكرا وخصبة فجاء إنتاجها وفيرا, أكثر من حاجة السفن والسكان والعبيد, وأرتفع عدد البيض عندما توافدت إليهم أعداد من المتشددين الدينيين من ألمانيا وفرنسا, جماعات كانت ترفض مجتمعاتها الأوربية الهرمة وتبحث عن عالم أكثر براءة, وفي فترة ما لم تعد الزراعة مجدية, وزادت الشركة الهولندية وتحكمها, فبدأوا في الابتعاد عن الساحل والتوغل في عمق الغابات, لم يكن معهم إلا العربات الخشبية التي تجرها الخيول وبعض البنادق والإنجيل, كانوا متطهرين وقساة, لا يترددون في إطلاق النار بلا رحمة على القبائل البدائية التي كانت تجرؤ على الظهور في طريقهم, ورويدا رويدا زادت أعدادهم, وزادت عزلتهم عن العالم وعن التطورات السياسية والفكرية التي كانت تحدث في أوربا, لقد كان لامتلاكهم للبندقية والإنجيل تأثير كبير على مخيلتهم وعلى إحساسهم بالتفوق, لم يسمعوا بالثورة الفرنسية, ولم يهتموا كثيرا بكلمة الديمقراطية, ولا بفلسفات المساواة بين البشر بغض النظر عن اللون أو الدين, أو حتى تحرير العبيد, وعندما غمرت أوربا حمى الحروب النابليونية وتحللت قوة هولندا البحرية في القرن الثامن عشر خشيت بريطانيا أن تبادر فرنسا باحتلال (كاب تاون) حتى تقطع عليها الطريق إلى الهند, فقررت الاستيلاء عليها في عام 1795 وقد استغرق الاستيلاء على كل المنطقة مدة طويلة من الزمن, وهكذا بدأ تدفق رجال الطبقة الوسطى البريطانية إلى المكان ووفد معهم أيضا أعداد كبيرة من الهنود المسلمين والهندوس.

لم يطق المستوطنون الأوائل من الهولنديين والفرنسيين والألمان هذا الأمر, كان سببهم المعلن هو توقهم إلى الحرية والمبطن هو رفضهم لإلغاء العبودية ومحاولة الإنجليز المساواة بين الألوان, كان معظمهم من المزارعين الذين لم يألفوا أي نوع من السلطات المحلية, فما بالهم وقد جاءتهم سلطة بروتستانتية, تنطق بلغة إنجليزية غريبة وتأمرهم بمساواة أنفسهم مع السود الذين يقومون بخدمتهم, كان القرار أن يرحلوا بعيدا عن نفوذ هذه السلطة, أن ينضموا لأسلافهم الذين توغلوا واستوطنوا, بدأت مسيرة العربات الكبرى عبر نهر البرتقال وهو الذي يفصل منطقة الكاب عن بقية سهول الترنسيفال, سعوا إلى تأسيس دولة أخرى بعيدا عن كل قوانين العالم, لم يؤسسوا جمهورية واحدة بل أربعا من الجمهوريات كلها كانت قصيرة العمر.

(ملحوظة اعتراضيه : فوق تل العالي بالقرب من مدينة (بريتوريا) أخذنا نرتقي درجات عديدة لتصل إلى ذلك النصب التذكاري المرسوم عليه نقوش تخلد تلك المسيرة الكبرى واكتشافهم مدينة بريتوريا والمنطقة التي تحيط بها والتي كانت فردوسا ارضيا لم يتخيلوا وجوده أبدا, وقد تجاهل النصب التذكاري أن يصور المذابح التي ارتكبها راكبو العربات (البوير في حق قبائل (الزولو) حتى ينتزعوا منهم أرضهم وأرض آبائهم).

الذهب يغير المعادلة

لم تصبر بريطانيا طويلا على مثل هذه الجمهوريات خاصة حين علمت بظهور الذهب بكميات كبيرة في منطقة الترنسيفال, وهكذا بدأت حرب البوير الإنجليزية الأولى, وكانت المفاجأة أن هؤلاء المستوطنين الأشداء الذين كانوا يعرفون ما يريدون, الأرض والحية, ولم يكن الإنجليز يسعون إلا خلف بريق الذهب, اضطروا للتراجع مؤقتا تاركين الفرصة لتكوين جمهورية موحدة للأفريكان كما أصبحوا يطلقون على أنفسهم, لم يخفت حلمهم بتكوين إمبراطورية إفريقية تمتد من (كاب تاون) حتى القاهرة وإنما تأجل قليلا, وبالفعل في عام 1899 وتحت قيادة اللورد (كتشينر) الشهير استطاعت القوات البريطانية الانتصار والاستيلاء على بريتوريا, وفي مواجهة حرب العصابات من البوير وجهت بريطانيا العديد من الضربات القمعية حتى أنها حبست حوالي 26 ألفا من الأفريكان معظمهم من الأطفال وتركتهم يموتون جوعا الأمر الذي أثار عليها ثائرة أوربا.

بعد طول قتال عقدت معاهدة سلام بين الطرفين البريطانيين والأفريكان, معاهدة لم تعترف إلا بحقوق البيض فقط ومنحتهم استقلالا تحت إمرتها, بينما أبقت خارجها 80 في المائة من سكان البلاد والملونين, لم تعطهم أي حقوق سياسية, ولم تحررهم من العبودية, فكالعادة خانت بريطانيا وعودها للآلاف من الملونين والسود الذين حاربوا بجانبها, بل أن مستعمرة الكاب التي كانت أصلا تحت حكمها لم يتجاوز عد الذين كان يسمح لهم بالانتخابات أكثر من 15 في المائة من غير البيض, وقد شملت هذه الفترة نضال شخصية مهمة كافحت من أجل حقوق الملونين هو الرجل الذي أيصبح بطلا قوميا للهند, المهاتما غاندي.

حالة الإحباط هذه ساهمت بشكل أو بآخر في إيقاظ الوعي الأسود الذي كان غائبا, أحسوا أنهم يجب أن يقاموا وألا ينتظروا منحة من أحد, وقد نما هذا الوعي بشدة خلال الحربين العالمية الأولى ثم الثانية عندما سافر ذهب العديد من السود إلى الحرب في بلاد أخرى, وتزايد عدد عمال المنجم, أصبحت جنوب إفريقيا بفضلهم تنتج ثلث ذهب العالم, ولم يعد من الممكن عزلهم عن الحياة إلا بقوانين شديدة القمع, فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية, فاز الحزب القومي الأبيض بانتخابات 1949على أساس إقرار قوانين (الأبرتايد) أي التفرقة العنصرية, وقد حرمت هذه القوانين الزواج المختلط, والسكنى في أماكن واحدة, وأكدت على فصل كل أنواع الخدمات العامة, مدارس منفصلة, مستشفيات منفصلة, شواطئ, دورات مياه, مواصلات, بل إن التصريح بدخول المدن الكبرى لم يكن يتم إلا بتصريح خاص, وإذا وجد أسود في الشارع بعد الساعة الخامسة يطلق عليه النار فورا. لقد كانت هذه القوانين كابوسا في ليل طويل خاض ضده المناضلون السود كثيرا من العذابات وشهدت المدن السوداء التي أقيمت على أطراف مدن البيض حركات من المقامة والمذابح لم تهدأ إلا مع إعلان الاستقلال رغم أن القوانين التي ولدتها سنوات الفصل العنصري لم تنته بعد.

داخل سجن (بريتوريا)

في مدينة (لوديوم) كان موعدنا مع الشيخ يوسف هيثم عضو جمعية الدعوة, وهي جمعية من ذوي الأصول الهندية وهي واحدة من الجمعيات النشطة وسط مسلمي جنوب إفريقيا, كانت البلدة هادئة, منازلها ذات طابع واحد, كل واحد منها مكون من دور واحد ومعظمها تقف أمامها السيارات الفخمة, كل سكان البلدة من الهنود, وهم الطبقة التي تتحكم في معظم التجارة الداخلية, وربما كانت تلي البيض مباشرة, وفيها حوالى 15 مسجدا ومستشفى دون أطباء, كان الشيخ يوسف بوجهه الهادئ ولحيته البيضاء يحكي لي تجربته في سجون جنوب إفريقيا : (في عام 1979 كنت أقود سيارتي من دون رخصة قيادة, وقبضت علي الشرطة ووضعتني في سجن (بريتوريا) الشهير وقضيت فيه شهرا كاملا أتيح لي فيه أن أشاهد الأحوال الرهيبة التي يعانيها المساجين في الداخل, وخاصة المسلمين منهم سواء كانوا سودا أو ملونين, لقد نذرت نفسي منذ هذا اليوم أن أخصص حياتي لرفع المعاناة عن هؤلاء السجناء. هكذا بدأت رحلة الشيخ يوسف وسط السجون العنصرية بكل ما فيها من أحكام صارمة موجهة للسود بوجه خاص, لقد أنشأ في كل مدينة تقريبا جمعية تضم أعدادا من المتطوعين كان مهمتها إعطاء حق الرعاية الدينية للسجناء وهو داخل السجن, والبحث عن أعمال لهم بعد أن يتم الإفراج عنهم وتقديم العون والدعم لأهلهم توالى فترة سجنهم, وتوقف الشيخ عن الكلام قليلا ليقول لي (إننا ذاهبان إلى سجن (بريتوريا) الآن, هل تحب أن تصحبنا؟ وكان الأمر مفاجأة لي, كان هذا هو السجن الثاني الذي أدخله في جنوب إفريقيا ولكنه سجن حقيقي هذه المرة, يضم بين جنباته أعدادا كبيرة من المساجين من مختلف الأجناس والجرائم, ولم أصدق نفسي والآمر يفتح لنا الباب الحديدي الضخم, وهو ينبه علينا بعدم التصوير, وفي كل خطوة تخطوها يفتح لك باب ويغلق من خلفك حتى ليخيل لك أنها لن تفتح مرة أخرى, يبدأ السجناء بثيابهم الزرقاء في الظهور, يحدقون فينا كأننا قادمون من عالم آخر, يشير لنا الآمر إلى جزء من العنبر أعد كمكان للصلاة, وإلى الطبخ حيث يعد للمساجين طعام (حلال) بمناسبة شهر رمضان, يلتف السجناء حول الشيخ يوسف كالأطفال وهو يستمع إلى مشاكلهم التي لا تنتهي, كان السجن أشبه بالمستودع الضخم لكل مشاكل التحول الكبير الذي تمر بها البلاد هذه الأيام, منذ أن وص لنا والتحذيرات تنهال علينا من افتقاد الأمن في كل مكان, كانت المشاكل الاقتصادية قد أطلت برأسها وتركت ضحاياها في كل مكان, كان السجناء من مختلف البلدان الإفريقية القريبة من جنوب إفريقيا , كلهم تخطوا الحدود بحثا عن فرصة للثراء, فلم يجدوا إلا البطالة في انتظارهم.

لا أصدق أنني قد أصبحت خارج السجن مرة أخرى, ولكن الشيخ يوسف كان قد فتح لي باب التواجد الإسلامي في جنوب إفريقيا, فالمسلمون كانوا من أوائل الجنسيات الذين وفدوا إلى هذه البلاد, ومعظمهم من الملايو وجزر الهند الشرقية, كانوا عبيدا وسجناء وثوارا منفيين, وكانوا هم أول من ذهب إلى سجن جزيرة روبين, وقد لازم أحدهم وهو أحمد قاسم الزعيم مانديلا فترة طويلة من سجنه, وقد ساعدت الوحدة الدينية على تجميع المسلمين في جنوب إفريقيا رغم اختلاف جذورهم ولغتهم, وأصبح تعبير مسلمي الكاب هو تعبيراً عنهم, ولا يوجد مكان لا يحتوي على نصب يخلد ذكرى الذين رحلوا, تلك هي (الكرامات) أو قبور الشيوخ الذين رحلوا وتولت قبورهم إلى مزارات, يوجد واحد مها في جزيرة روبن, وبالقرب من كاب تاون, وعلى طول الساحل إلى رأس الرجاء الصالح.

وقد أتيح لي أن أشهد جانبا من النشاطات التي تقوم بها لجنة مسلمي إفريقيا التي يدعمها أهل الخير في الكويت, في قرية (لوتس جاردن) وهي واحدة من أفقر القرى بالقرب من جوهانسبرج تناولت إفطار الصائم مع الأهالي وصليت معهم المغرب واستمعت إلى الدور الذي يقوم به المسجد الذي أقامته اللجنة من أجل تعليم اللغة العربية وتحفيظ القرآن, فخلف هذه البشرة السوداء توجد قلوب رقيقة تبحث عن يقين روحي لها لا يحمله الرجل الأبيض, والإسلام هو الدين المؤهل للعب هذا الدور, وقد لمسنا بعضا من هذا الشغف في مدينة السود بالقرب من كاب تاون, ففي منطقة كليجا الفقيرة تبرعوا بقطعة من الأرض ليقام عليها كوخ خشبي يتعلمون فيه القرآن واللغة العربية, وعندما ذهبت إلى هناك مع مندوب اللجنة محمد الأعمش فوجئت بالحفاوة التي استقبله بها الأهالي, وما إن عرف أطفال المدينة بوجوده حتى جاءوا بسرعة وهم يضعون على رأسهم الأغطية ويمسكون الكتب الدينية واصطفوا بسرعة في انتظار هذا الدرس المفاجئ, لقد هزني هذا الشغف, وأدركت مدى حاجتنا لإقامة صلات قوية مع هؤلاء الناس الذين حرموا طويلا, واستغل الرجل الأبيض الإنجيل ليسومهم مر العذاب.

الذهاب إلى سويتو تجربة لا تنسى, شديدة الخطر ولكن لا بد منها, صورة أرضية من جحيم (دانتي) يقيم فيه كل السود بعيدا عن جنة جوهانسبرج, قبل الذهاب إليها تلقينا عشرات التحذيرات, لا تضعوا في أيديكم ساعات ثمينة ومن الأفضل عدم ارتداء أي شيء على الإطلاق , لا تحمل مبالغ كبيرة من المال, لا تبق بعد غروب الشمس بأي حال من الأحوال, لا تصاحب أحداً ولا تأمن لأحد, لو تخلفت فسوف تضيع, بنفس مرتعدة خطونا خطوتنا الأولى نحو مدينة الصفيح التي تضم في أكواخها أكثر من ثلاثة ملايين نسمة, الوجوه السوداء تطالعك بلا اهتمام, هل هدأ غضبها قليلا أم أنها تعودت على اقتحام الغرباء, أكواخ الصفيح تمتد بلا نهاية أكواخ خالية من أي نوع من الخدمات, خلفها أكواخ أصغر لقضاء الحاجة, كل شيء جماعي ومتداخل, الخصوصية مفقودة تقريبا, أطفال عراة يجرون في وسط الشارع, تلال من أكياس القمامة تنتظر من يحملها, لا يتم تنظيف القمامة إلا مرة واحدة في الأسبوع, وأحيانا لا يحدث, رجال جالسون, محشورون في كوخ ضيق ينظرون إلينا بعيون فارغة, رسوم وألوان فوق الجدران, ذكريات من أزمنة النضال والحرمان, البيت الصغير الذي كان يقيم فيه مانديلا حين كان يدرس في جوهانسبرج, بيت صغير لا يتجاوز حجرتين من الطوب الآجر, هنا تقابل مع ويني وتزوجا, وبدأت رحلتهما الطويلة التي انتهت بانتصارهما العام وفشلهما الخاص, وغير بعيد عنه توجد الكنيسة التي كان يعظ فيها الأب ديزموند توتو الذي فاز بجائزة (نوبل) للسلام وهو يحاول أن يعلو بروح شعبه عن طوفان المذابح, هذا التزاحم الخانق والعيش في مستوى أقل من الشر هو الذي اسهم في تأجيج نار الغضب وانتشار المخدرات وارتفاع مستوى الجريمة, وسط هذا الفقر الخانق تبرز أمامك بيوت تلوح عليها ملامح الثراء, صغيرة كأنها انتقلت إلى هنا من كوكب آخر, إنها بيوت (المافيا) السوداء كما قالوا لنا, مساكن حكومية صغيرة بدأت في الظهور, ظفر بها بعض المحظوظين من رجال الحكم الجديد, أما الغالبية العظمى فلازالت على حالها, دفعت ثمن التحرير غاليا ولا يبدو أنها سوف تتلقى المقابل, فقد لعبت سويتو دورا مؤثرا في مقاومة الأبرتايد, لفقد انطلقت منها كل شرارات المقاومة والعصيان المدني, وقد أصبح من المعتاد أن يشاهد العالم في كل نشرات الأخبار وقوات الأمن البيضاء تحاصر الأكواخ وتطلق عليهم الرصاص والغازات المسيلة للدموع وتقبض عليهم دون أي محكمة, لقد شهدت سويتو عشرات الاعدامات, أعدم فيها الرجال والنساء والأطفال, لقد كانت سويتو في حالة حرب حقيقية منذ عام 1974 عندما قام بعض طلبة المدارس بالاحتجاج على الحكم العنصري وردت القوات بإطلاق النار عليهم وحصدتهم جميعا, ومنذ ذلك العام وحتى انتخابات 1994, وقد مات آلاف من الأشخاص لا يعرف عددهم بالضبط إزاء هذا التاريخ المرعب ماذا يتوقع الزائر الأبيض أن يرى? لم نكن بيضا ولله الحمد, لذلك استطعنا أن نتوقف وأن نسأل وأ نأخذ الصور التي نريدها, أن نترك للمرارة نصيبا في نفوسنا, كانوا يتحدثون معنا عن أحلامهم البسيطة والإنسانية, الرغبة في عمل مناسب, بيت نظيف, والفرصة في تعليم افضل لأبنائهم.

عندما عدت في المساء إلى فندقنا النظيف في جوهانسبرج, كنا نشعر بالخجل الطاغي, نتأمل ناطحات السحاب العملاقة, مظاهر الثراء والتقدم, الوجوه البيضاء التي تجلس في المطاعم والمقاهي الأنيقة, البضائع الفخمة, وندرك أن هذا الوضع لن يستمر طويلا, لقد كان جهاز الدولة في السابق يقوم على حماية هذا التناقض, ولكن ذلك لم يعد من الممكن الآن, هذه ال80 في المائة المحرومة من كل شيء لم يعد هناك من يقمعها, ولم يعد من الممكن أن تعيش في التجمعات الإنسانية أكثر من ذلك, لقد ارتفع معدل الجريمة, ولم تعد هذه المدن البيضاء آمنة ليلا, وأعتقد ان هذا فقط مجرد بداية للعواصف القادمة.

 

محمد المنسي قنديل