الوعي المديني

الوعي المديني

الوعى المدينى هو نوع من أنواع الوعى الاجتماعى لا يشترط فى وجوده أن يكون صاحبه مولودا فى المدينة أو القرية، فالأهم من ذلك هو مجاوزة صاحب هذا الوعى رؤية العالم النوعية التى تصوغها القرية، غير بعيدة عن منطق الخرافة والتقاليد الجامدة الخاصة بالمجتمع التراتبى البطريركى فى الغالب، وحيث لا تفارق بنية الوعى الريفى بنية المجتمع الزراعى التقليدى، بعيدا عن أخلاق المدينة وأشكال وعيها المفتوحة على - والناتجة عن - علاقات إنتاج وأدوات إنتاج مخالفة، خصوصاً على مستوى حركة رأس المال فى مجالاته الصناعية والاقتصادية التى تؤدى إلى أشكال من الوعى المدينى المغايرة.

هكذا، يتشكل الوعى المدينى فى ظل شروط مغايرة، سياسيا واجتماعيا وثقافيا، وذلك فى مدينة لا تفارق شروط حضورها التعددية الاجتماعية، والتنوع العرقى والثقافى، والتفاوت الطبقى الذى قد يلازم حراكا اجتماعيا مفتوحا، أو قمعا طبقيا سرعان ما يفرض سطوته بواسطة التحالف مع السلطة الحاكمة، أو تحالف السلطة الحاكمة مع رأس المال، وذلك بما يؤدى إلى تحول المدينة إلى مدينة قامعة من حيث نخبتها الحاكمة، ومقموعة على مستوى الأغلبية التى تقع تحت وطأة أقلية تحميها أجهزة الدولة القمعية، متلازمة مع أجهزتها الإيديولوجية التى تبقى على المقموعين قمعهم، وتبرره، أو تزينه لهم تخييلا وتدليسا، فيتجاور فى هذه المدينة المسجد والمدرسة والجامع والسجن والمعتقل والصحف الكاذبة أو الصادقة، حسب موقفها من الصراع الطبقى المتولد فى هذه المدينة، أو الذى تولده علاقاتها.

وهذه المدينة هى التى عرفها أمل دنقل وتعمق فيها شعرا ووعيا، فانقلب من شاعر يكتب عن ذات العينين الخضراوين، إلى شاعر يكتب عن الحب الذى سحقته علاقات الربح والخسارة، ومن مثقف وطنى يبتهج بالتحرر من الاستعمار، والخلاص منه أو الانتصار عليه، إلى مثقف ينتمى إلى اليسار، أو يتبنى مبادئ العدل الاجتماعى التى ظلت تقارب ما بينه والفقراء من معذبى الأرض الذين ظل فى صفهم، لا يتخلى عنهم، أو يكف عن الشعور بمعاناتهم، كما لو كان واحدا منهم، مؤكدا:

هذه الأرض حسناء، زينتها الفقراء،
تتطيب، لهم
يعطونها الحبّ، تعطيهم النسل والكبرياء
قلت لا يسكن الأغنياء بها، الأغنياء الذين
يصوغون من عرق الأجراء نقود زنا ولآلئَ
تاج وأقراط عاجٍ ومسبحة للرياء
إننى أول الفقراء الذين يعيشون مغتربين

من القلعة إلى العاصمة

ومنذ أن ترك أمل قريته «القلعة» ليستكمل تعليمه، ويمضى فى مشوار حياته، وهو ينتقل من مدينة إلى مدينة، منقطعا بالتدريج عن وعى القرية إلى وعى مضاد، هو وعى المدينة الذى تبلور أولا فى مدينة «قنا» عاصمة المحافظة التى كان فيها مولده ومن «قنا» فى الجنوب إلى «القاهرة» العاصمة التى أسست وعيه المدينى، قبل أن يعود إلى قنا، ومنها إلى «الإسكندرية» التى فتحت عينيه على عوالم جديدة، ووضعت وعيه الشعرى فى اختيار حاد بين انفتاح البحر بعلاقاته وناسه فى الشمال، أو انغلاق الصحراء وقسوة حياتها وحدِّية الاختيار فيها، ومن الإسكندرية إلى «السويس» المدينة البحرية الأخرى التى احتضنت أمل، وفتح له بحرها ألوانا مضافة من الرؤية والإدراك وجاءت القاهرة بوصفها محطة الوصول فى مدائن أمل، فاستقر فيها إلى النهاية، مستهلا طريق الشهرة، مؤسسا حضوره القومى الذى يشمل المدن العربية كلها، وذلك فى الدائرة القومية التى كانت تبدأ من القاهرة، قلب العروبة النابض، وتنتهى إليها بوصفها مركز الثقل القومى، فى موازاة كونها الفضاء الأثير الذى انبجست فيه ينابيع شعره القومى، وازدادت فيه اكتمالا أدوات الإدراك والرؤية والحساسية الشعرية، خصوصا فى تقنيات صنع الصورة المشهدية المثقلة بالدلالات التى هى الخاصية النوعية المائزة فى شعر أمل دنقل بوصفه شاعر مدينة بامتياز.

حداثة أمل دنقل

لقد تعلمنا أن حداثة بودلير ارتبطت بقدرته الشعرية على تجسيده الإبداعى لباريس هاوسمان فى أواخر خمسينيات وعبر ستينيات القرن التاسع عشر، ويمكن بالقياس نفسه، القول إن حداثة أمل دنقل حتى فى نزوعها السياسى ارتبطت بشوارع ومدن وميادين القاهرة والإسكندرية، فضلا عن السويس فى أواخر ستينيات وطوال سبعينيات القرن الماضى، فقد تجسدت هذه الشوارع والفضاءات والميادين فى قصائد أمل، وأعطتها حداثتها المائزة التى ارتبطت بتحولات الفضاء المكانى للمدينة التى ازدحمت على نحو غير إنسانى، وأصبحت تدفع، بل تجذب عينى الشاعر إلى التحديق فى حركة البشر والسيارات المسرعة التى تلتقطها حدقتا عين ثاقبة، وطبلتا أذن مرهفة، بما يشبه عين الكاميرا وشرائط آلة التسجيل، فتبدع صورا ملأى بالدلالات الحسية التى تدركها عينان تريان وترقبان وتحدقان وأذنان تسمع، وتصيخ السمع وترهفه إلى كل ما يمر أمامها، حتى من تحت مظلات تشبه مظلات «البوليفارات» الشوارع العريضة ذات البواكى التى لم تختلف الدافعية إلى بنائها عن الدافع الذى دفع جورج يوجين هاوسمان G.E. Houssman محافظ باريس وضواحيها إلى شق شبكة واسعة من الشوارع العريضة فى قلب مدينة باريس القديمة التى كانت لاتزال محافظة على طرز القرون الوسطى القديمة فى عمارة المدن وهكذا كانت القاهرة التى حاكت باريس هاوسمان فى عصر إسماعيل، فعرفت ما أصبحنا نسميه قاهرة وسط البلد، الذى ظل سرّة المدينة الحديثة طوال الزمن الناصرى والساداتى، يزداد تنوعا فى المشاهد المعمارية، حافلا بالتحولات البشرية، وانقلابات الأنظمة السياسية، لكن يبقى جاذبًا لحواس شاعر تهوّس بالمدينة، فجعل منها ملاذا ومراحا وسكنا ومرصدا يرصد منه كل شىء، لا يفارق «وسط البلد» إلا ليعود إليها، تاركا لحواسه كلها أن تتمثل صور المدينة ومدركاتها، وأن تعيد إنتاجها عبر وعى أصبح مدينيا حتى النخاع، أعنى وعيا لم يتوقف عن الإدراك وتوسيع حدقتى العينين، كى تلتقط كل متغير مدينى شهدته، ما بين صعود دولة المشروع القومى الناصرية، وسقوطها المدوى الذى لم تقض على آلامه نهائيا نجاحات حرب 1973، إلى أن جاءت سنوات الانفتاح الساداتى بنهايات المشروع القومى، وتحطمه فى زمن انفتاح وتنازل عن أحلام الحرية، فلم يخلف سوى وعى النهايات والوحدة القومية والعدل الاجتماعى، الذى تحاصره كوابيس النهايات، ووعى الغروب.

هكذا، يشعر من يقرأ شعر أمل دنقل أنه شعر لا يخلو من وصفه فضاء مدينيا فى كل الأحوال، ابتداء من ديوانه «مقتل القمر» الذى يضم قصائده الباكرة التى كتب أغلبها فى مدينة «الإسكندرية»، حيث نرى علامات المدينة ماثلة فى عنوان «الملهى الصغير» وإلى جانبها عنوان petit Terianor التى تبدأ على النحو التالى:

لم يعد يذكرنا حتى المكان
كيف هُنَّا عنده
والأمس هان؟
قد دخلنا...
لم تشر مائدة نحونا
لم يستضفنا المقعدان

وهى بداية شاجية، لكنها تشير إلى علاقات مدينية مفتوحة، تسمح بلقاء الأحبة فى العلن، والإعلان الصريح عن الحب الذى قد يفضى إلى زواج، أو إلى قطيعة وانقطاع، تكون معها العودة إلى فضاء الملتقى القديم نوعا من البكاء على الأطلال، لكن فى المدينة التى تخضع لحسابات الربح والخسارة ويمكن للحبيبة فيها أن تترك من يحبها حبا صادقا إلى آخر من أجل المال، وتنجب منه ابنة، تمر عليها سنوات إلى أن يراها حبيب الأم القديم، فيرى فيها فشل علاقة حبه المدينى الأول، فيكتب قصيدته «طفلتها» التى حصلت على إحدى الجوائز الأولى لمهرجان الشعر العربى الذى انعقد فى مدينة الإسكندرية سنة 1962. وتجرى وقائع السرد الشعرى للقصيدة فى شارع من شوارع المدينة البحرية التى شهدت الحب الذى وُئد سريعا، وانتهى قبل نهايته الطبيعية نتيجة المنفعة العملية التى هى أبرز ما يتحكم فى علاقات أبناء المدينة، نسبيا، بالقياس إلى علاقات القرية. ولا تنسى القصيدة لحظة ولادة الحب المدينى فى مبتدى أمره ما بين طرفيه:

وهو فى شرفته مرتقب وهى فى شباكها متكئة إلى أن يقهر المال الحب، وتُشترى الحبيبة، وتُباع للثرى الذى يغدو نخاسا وتأتى الثمرة طفلة بريئة، كان يمكن أن تكون هى عينها ثمرة الحب الذى أفسدته علاقات المدينة التى أغوت ابن «القلعة» القادم من أقصى الجنوب، فلا يملك سوى تلبية نداء مدينة الشمال البحرية المغوية، وينصاع إليها كما تنصاع فلاحة يوسف إدريس إلى «النداهة» التى تغدو رمزا لغواية المدينة لأبناء القرية، كى يدخلوا التجربة التى دخلها ابن القلعة فى مدن الشمال التى تتوزع ما بين الإسكندرية والسويس والقاهرة، ولكنها، فى الإسكندرية، تبدأ بالعلاقات المدينية التى تنتقل ما بين «الملهى الصغير» petit terianor حيث يلتقى الأحبة الصغار، و«المشرب» الذى يعرف فيه الجنوبى ماريا اليونانية، و«المسرح» الذى يمكن أن تكون نهاية إحدى مسرحياته نموذجا لانتهاء قصص حب الجنوبى الذى يلبى نداء عاصمة الشمال التى تفتض بكارة وعيه القديم، فتنقله من حال إلى حال، وتفعل فيه ما فعلته «شمخت» الثقافة فى إنكيدو البرى الطبيعة الذى اعتاد أن يهيم مع حيوان الصحراء فى البرية إلى أن واقعته الكاهنة البابلية المقدسة، فأصبح مستأنسا ومدينيا، كما تقول ملحمة جلجامش السومرية.

رسالة من الشمال

ظنى أن قصيدة «رسالة من الشمال» هى آخر مجالى حنين ابن أقصى الجنوب إلى رحم الأرض البرية التى ظل يحن إليها من شمال الشمال، حنين أحمد حجازى القادم من قرية مغايرة فى الشمال إلى الينبوع الذى ظل يحن إليه بسبب اختناقه ووحدته فى «مدينة بلا قلب» وهو ما ظل يفعله ابن «القلعة» بالطريقة نفسها من الحنين إلى الأصل، حيث النبع الصافى والحانى، بدلا من مدينة الشمال التى ظلت تبدو بلا قلب للوعى القروى الجنوبى لابن «القلعة» الذى كتب:

هى إسكندرية بعد المساء شتائية القلب والمحضن
شوارعها خاويات المدى سوى حارس بى لا يعتنى
ودورة كلبين كى ينسلا ورائحة الشبق المزمن

وَنَفس حجازى الأكثر تأثيرا فى هذه المرحلة ماثل فى كراهة المدينة الشمالية باردة القلب والمحضن الذى لابد منه لإكمال الوزن المتقارب فى صيغته العمودية ذات الشوارع الخاوية التى لابد أن يشعر الغريب فيها بالوحدة والضياع، فيبدو كوريقة فى الريح دارت، ثم طارت، ثم حطت فى الدروب، كأنها ظل يذوب عند حجازى، أو حارس محايد، غير متعاطف ولنغفر ركاكة «بى لا يعتنى» فى عينى ابن القلعة الذى أصبح فى مطلع العشرينيات من العمر، يمضى وحيدا، تؤرقه رائحة الشبق المزمن فى شوارع المدينة التى أصبحت مرآة خارجية لما فى داخله.

بين الشعر والتشكيل

ومن الطبيعى أن يتماس الشعر مع فنون التشكيل فيما يتصل بتكوين الصور الشعرية التى يمكن أن تتجاوب فى بنائها مع أساليب سينمائية متعددة، كما فى المقطع الشعرى السابق وهو أمر يتلازم مع فهم مختلف للزمان والمكان، يصل ما بين الشعر والسينما، ويناقل لوازمهما، فمن الممكن قراءة أسطر المقطع السابق بوصفها مشاهد متعاقبة فى الزمن متغايرة فى المكان ومن الممكن، بالقدر نفسه، قراءة الأسطر فيما يشبه الحركة البندولية عبر الزمان والمكان، أو قراءتها على سبيل التعاقب المتتابع اللحظات، أو الارتجاع الذى يمكن أن يبدأ من ارتجاعات الصوت، ماضيا إلى الخلف فى تعاقب معكوس، إلى أن ينتهى بصورة بصرية مفعمة بالحركة والعكس صحيح بالقدر نفسه، ولكن المهم فى النهاية هو أن مدى الوعى المدينى مختلف من حيث إدراكه الجمالى للزمان والمكان والحركة على السواء وهو مدى يعين على تراسل الشعر مع غيره من فنون المدينة، وعلى رأسها السينما، فن الجماهير الغفيرة الذى يجعل الأذن ترى، والعين تسمع، فى مدى مختلف من وعى نوعى بعالم يموج بالحركة وتراسل الحواس ويكفى الإشارة إلى قصيدة «كلمات سبارتكوس الأخيرة» فى هذا السياق، فهى مبنية، ابتداء، على أساس التأثر بفيلم شهير عرضته دور عرض السينما فى المدينة.

والحق أنه إذا كانت الإسكندرية قد أسهمت بقوة، فى تأسيس الوعى المدينى فى بعده الجمالى، عند أمل دنقل، فإن السويس أضافت إلى هذا الإسهام التأسيس، وربما كان من الأدق القول إنها أصبحت فضاء تصويريا له وهو الأمر الدال فى استرجاع أمل لصورة «السويس» التى عاش فيها موظفا فى الجمارك، قبل أن ينتقل إلى القاهرة، ويستقر فيها وتمضى بها أيامه إلى أعوام حرب الاستنزاف، فيتذكر السويس التى عانت ويلات الحرب، لكن فى أيامها التى لم تكن قد عرفت الحرب بعد.

عرفت هذه المدينة الدخانية
مقهى فمقهى، شارعا فشارعا
رأيت فيها اليشمك الأسود والبراقعا
وزرت أوكار البغاء واللصوصية
على مقاعد المحطة الحديدية
نمت على حقائبى فى الليلة الأولى
حين وجدت الفندق الليلى مأهولا
وانقشع الضباب فى الفجر فكشّف البيوت والمصانعا
والسفن التى تسير فى القناة كالأوز
والصائدين العائدين فى الزوارق البخارية

والذاكرة البصرية تسترجع مشاهد السويس على طريقة الارتجاع الذى يمضى فى عكس مسار الزمن الحاضر، بادئا من لحظة اللقاء الأول بالمدينة فى الليل، حيث دخان المصانع يستهل أول المشهد الكلى، قبل أن تهبط كاميرا الذاكرة فتنتقل إلى التفاصيل عن طريق المشاهد المقربة التى تتنوع بما يكفى للغوص فى أعماق المدينة أو أحشائها، ويأتى المقطع الثانى بذكريات الليلة الأولى التى تنتهى بعد انقشاع غبش الفجر، فتبين المدينة عن نفسها، ابتداء من المشهد الكلى وانتهاء بالتفاصيل التى تحملها لقطات الذاكرة المقرِّبة ويتوازى المقطعان نغميا كما يتوازيان تصويريا، فالسطر الأول من المقطع ينتهى بقافية هى وقفة فى امتداد إيقاعه الذى يمتد عبر الأسطر إلى أن تقفِله قافية مماثلة، وذلك على نحو يبدأ معه كل مقطع كأنه استدارة نغمية بجملة تختتم بقافية واحدة ويأتى المقطع الثالث ليختتم هذه الدفقة من مشاعر ملازمة لمدركاتها، فتتداعى الصور الاسترجاعية، لكن مع الاتكاء على توزيع نغمى أبرز للقافية، يبدو كأنه يمثل الصعود النغمى الذى تنتهى به دفقة الصور الشعورية

رأيت عمال «السماد» يهبطون من قطار «المحجر» العتيق
يعتصمون بالمناديل الترابية
يدندنون بالمواويل الحزينة الجنوبية
ويصبح الشارع دربا فزقاقا فمضيق
فيدخلون فى كهوف الشجن العتيق
وفى بحار الوهم يصطادون أسماك سليمان الخرافية

والمقطع كله أقرب إلى جملة وصفية، كأنها تفصيل مضاف إلى ما رأته عين الذاكرة فى المقطع السابق، لكنه مع تغير الزمن من مطلع النور إلى ما يسبق مغيبه مع عودة العمال من أعمالهم، بعد انتهاء يوم عمل مرهق، يتخففون منه بمواويلهم التى تكشف عن الأصل الجنوبى لعدد كبير منهم، وذلك فى مناوبة تقنية تكشف عن مناديل «ترابية» لعمال المحاجر، ومواويل حزينة «جنوبية» لعمال مصنع السماد، وندخل فى مدى اللقطات المقربة، حين يصبح الشارع دربا فزقاقا فمضيقا، حيث تتكرر القافية «مضيق، عتيق» قبل أن نعود إلى القافية المركزية التى تختم المقطع خرافية لتردنا إلى مثيلاتها فى المقطعين الأول والثانى بما يؤكده وحدة التفعيلة «مستفعلن» وانتظام التقفية الجامعة بين المقاطع الثلاثة الأولى وعندئذ يغدو التحول الدلالى واسترجاع الصور الموزعة بما يشبه المونتاج كاشفا عن المزيد من جوانب استرجاع الصور المدينية.

عرفت هذه المدينة
سكرت فى حاناتها
جرحت فى مشاحناتها
صاحبت موسيقارها العجوز فى تواشيح الغناء
رهنت فيها خاتمى لقاء وجبة العشاء
وابتعت من هيلانة السجائر المهربة
وفى «الكبانون» سبحت
واشتهيت أن أموت عند قوس البحر والسماء
وسرت فوق الشعب الصخرية المدببة
ألقط منها الصدف الأزرق والقواقعا
فى سكون الليل فى طريق «بور توفيق»
بكيت حاجتى إلى صديق
وفى أيثر الشوق كدت أن أصير ذبذبة

وهنا، ينبنى الاسترجاع على أسلوب المونتاج، فتتجاور الصور متنوعة المشاهد متبانية المشاعر، لكن بما يكشف عن حياة تبدو أثيرة، حميمة، معدية بمشاعرها فى لحظات الاسترجاع لزمن شعورى مستعاد، عبر تعاقب صور شديدة الحسية، تتراسل فيها كل الحواس، لكن بما يغلب حاسة البصر التى تبين عن غنى الحركة، وعنف أو عرامة الحياة المستعادة فى حميمية ذاكرة لا تخطئ القراءة شحناتها العاطفية التى يسهل مناقلتها بين المرسل الشاعر والمستقل القارئ فى مدى التعاطف الوجدانى وتكمل التقفية لوازم التوزيع النغمى على نحو مخالف هذه المرة.

يندر أن تمتد الأسطر فى قصيدة أمل دون أن تنقسم انقساما لافتا بين دلالات السمع والنظر، فالعين القارئة، كالشاعرة، لا تكف عن النظر، والأذن لا تكف عن السمع، بل استراق السمع لنتوقف مثلا، عند المقطع الثالث من «يوميات كهل صغير السن» وهى قصيدة وعى مدينى بامتياز

عينا القطة تنكمشان
فيدق الجرس الخامسة صباحا
أتحسس ذقنى النابتة الطافحة بثورا وجراحا
أيمع خطو الجارية فوق السقف
وهى تعد لساكن غرفتها
الحمام اليومى
دفء الأغطية، خرير الصنبور
خشخشة المذياع، عذوبة جسدى المبهور
والخطو المتردد فوقى ليس يكف
لكنى فى دقة بائعة الألبان
تتوقف فى كفن فرشاة الأسنان

كل شىء، فى الأسطر السابقة، ينبئ عن سيطرة حاسة البصر التى تتضافر مع حاسة السمع فتمتد من عينى القطة، وتمضى مع الذقن الطافحة بثورا، خطو الجارة، السقف، الحمام اليومى، خشخشة المذياع، خرير الصنبور، الخطو المتردد، دقة بائعة الألبان، فلا نغادر الصور البصرية التى نسمعها، وتدفعنا إلى التحديق فيها، والانتباه لعلاقاتها، حتى تلك التى لا تفلت دفء الأغطية وعذوبة الجسد تحتها ولا ينفصل عن ذلك أسلوب «المونتاج» فى توزيع اللقطات التى تكمل دلالات المشهد فى آنيته أو تعاقبه ويلفت النظر إلى توزيع الصور البصرية والسمعية، فى تعاقب اللقطات، القافية الختامية للمقطع التى توقف من حركة اللقطات المتعاقبة والمتغايرة معا، حيث تردنا قافية السطر الأخير فى المقطع إلى قافية السطر الأول، فيبدو امتداد السطر الأخير امتدادا ونهاية له فى آن وتتجاور اللقطات رأسيا فى المقطع كأنها امتداد جملة دائرية، ترد عجزها على صدرها نغميا ودلاليا فى آن.

عين على الثورة المنتصرة

ولم تكن عينا أمل تقصران مجالهما على المشاهد المغلقة فى الغرف، بل تحدّق فى شوارع القاهرة، ملتقطة ملامح المدينة الكبيرة التى عرفها حيا حيا، وشارعا شارعا، وحفظت ذاكرته تفاصيلها البصرية التى تضافرت مع خياله السمعى فى بناء صور قصائده، فلم تفلت العناصر التى تلمحها العين أو تسمعها الأذن على هذا النحو من التقطيع المونتاجى فى المشهد العام الذى يجمع الأضداد.

نافورة حمراء
صفلٌ يبيع الفل بين العربات
مقتولة تنتظر السيارة البيضاء
كلبٌ يحك أنفه على عمود النور
مقهى، ومذياع، ونرد صاخب، وطاولات
ألوية ملويَّة الأعناق فوق الساريات
أندية ليلية
كتابة ضوئية
الصحف الدامية العنوان بيض الصفحات
حوائط، وملصقات
تدعو لرؤية الأب الجالس فوق الشجرة
والثورة المنتصرة

ولا تنفى كثافة الإحساس السمعى والبصرى حضور غيرهما من الإحساسات اللمسية والشمية والذوقية، ولكن يظل للسمع والبصر معا أولوية خاصة، أولوية ترتد من القصيدة إلى صانعها تتضافر مع انغماسها الحسى فى حياة المدينة العنيفة التى كان يحياها صخب التجارب، تنافر المشاهد، عنف الأحداث، فالقاهرة المتعارضة التى تربك العين اللماحة والأذن المرهفة كانت جنة أمل دنقل المشتهاة وجحيمه الذى لم يفر منه شعره قط، أضف إلى ذلك ترتيب الصور واللقطات فى سياق سينمائى، كأنه بفعل كاميرا، تدور فى الميدان لتبرز تناقضاته التى تجاور بين الأضداد، الحياة فى مقابل الموت، والأندية الليلية فى مقابل المقتولة التى تنتظر سيارة الإسعاف، وأخيرا الصحف الدامية العنوان.. بيض الصفحات ويختتم المشهد الكلى المتجمع من لقطات مقربة متضادة، متنافرة، بما يسخر من فوضاه وعنفه، وذلك باللجوء إلى أسلوب «الإشارة» فى البلاغة لإبراز حدة المفارقة التى لا يوازيها سوى حدة السخرية، فنرى التقابل بين إعلان فيلم غنائى لاهٍ لعبد الحليم حافظ «أبى فوق الشجرة» عن الأب الذى ذهب ينقذ ابنه من هوى راقصة، فوقع هو فى حبها، حيث يتجاور «أفيش» الفيلم مع إعلان عن «الثورة المنتصرة» التى تبدو على غير حقيقتها، حين تتكشف النهاية عن نقيض يدفع إلى البسمة الهادئة.

 

جابر عصفور