الـخروف مُلهم الشعراء!

الـخروف مُلهم الشعراء!

لحكاية «خروف العيد» أربعة من «الأبطال» قد يحتاجون إلى تعريف موجز، لأن الأدباء في العصر الحديث، حتى الأعلام منهم، قد يجهلون أقدارهم، فيدرجون في قائمة مظاليم الأدب. أما «البطل» الأول فهو الشاعر الأزهري محمد الأسمر الذي حافظ على سمته الأزهري، فلم «يتطربش» أو «يتبرنط» كما فعل آخرون من أنداده، وهو على تزمته خفيف الدم، يحب الفكاهة ومجالسها ويرتادها حتى ليغدو عمدة فيها، كما أن أناقته المفرطة جعلت صديقه محمد عبدالغني حسن يصفه بأنه ممن ينطبق عليهم الوصف «تحسبهم أغنياء من التعفف».

في فترة ما عهد إليه في الإشراف على الصفحة الأدبية في جريدة «الزمان» اليومية، ففتح هذه الصفحة أمام الشعراء، شداة وأعلاما، وأجرى لهم مسابقات تنتهي بمنح الفائزين جوائز يستحقونها، وهو وحده المحكّم في هذه المسابقات وفي زيارتي الأخيرة إلى مسقط رأسه مدينة دمياط من سنوات بعيدة، لاحظت أن اسمه أطلق على إحدى مدارسها، فأيقنت أن «بلدياته» لم ينسوا فضله ولا أنكروا قيمته الأدبية.

و«البطل» الثاني في هذه الحكاية هو الشاعر الثائر المحقق المترجم الموسوعي محمد عبدالغني حسن، الذي كان بمفرده أمة وحجة وموضع ثقة. وكتبه الكثيرة، ولا أعرف عددها مع أنه أهداني أغلبها، تشهد له بطول الباع، وبأنه كان بحق أستاذ أساتذة في كل ميدان، ولا غرو أن يتم اختياره عضوًا في مجمعي اللغة العربية في القاهرة ودمشق. وكانت له معارك أدبية حتى مع أستاذنا العقاد، ولم يسلم معجم «المنجد» عند صدوره من نقد بناء ساقه له محمد عبدالغني حسن فاستعان به واضعو «المنجد» في طبعاته التالية.

أما «البطل» الثالث فهو الأديب علي الجندي، وهو درعمي كزميله عبدالغني، وإن كانت حظوظه بوأته منصب عميد هذه الكلية التي سبقت جميع الكليات والجامعات إلى الظهور، وهي كلية دار العلوم، ومع أن الجندي كان أكاديميًا صارما، فإن هذا لم يمنعه من أن يتناول في بعض كتبه موضوعات طريفة مثل كتابه «الشذا المؤنس في الورد والنرجس». بل إنه نشر في مجلة «الهلال» مقالات عن المرأة انتهى فيها إلى القول إن الأنثى تظل محتفظة بكل نوازع الأنثى وإن بلغت التسعين من العمر السعيد طبعًا.

وقد عرفت هؤلاء الأبطال الثلاثة دون أن أعرف البطل الرابع، وهو الضابط الشاعر القائمقام عبدالحميد فهمي مرسي الذي كان له صديق يدعى عبدالعزيز سلطان يقتني مزرعة في مدينة المنيا بصعيد مصر يربي فيها الخراف والنعاج والعجول، وكل هذه الثروة التي تشتهى لحومها!

وعندما أضحى عيد الأضحى على الأبواب في زمن الحرب العالمية الثانية، وكان الغلاء قد اشتد بالبلاد، تعاظمت أمام محمد الأسمر مشكلة اقتناء خروف العيد، فالعين بصيرة واليد قصيرة، وهل ثمة عيد يحتفى به بغير خروفه أو كبشه كما يسميه إخواننا التونسيون. إن هذه المعضلة المستعضلة إنما تحتاج في حلها إلى أسلوب مبتكر وغير تقليدي، كما يقول رجال السياسة، فإن تعذر شراء خروف فاستعارته قد تكون مستطاعة، والمهم أن يسمع الجيران وأهل الحي «مأمأة» الخروف فيدركون أن الشاعر لا يعاني خصاصة داهمة.

وعندئذ بعث الشاعر محمد الأسمر إلى صديقه القائمقام عبدالحميد فهمي مرسي برسالة شعرية يستعطفه فيها «إقراضه» خروفًا عوضًا عن المماكسة في سوق الشراء أو اقتراض ثمن الخروف من البنوك والديانة، وتطوع الأسمر بالتحدث بلسان صديقيه محمد عبدالغني حسن وعلي الجندي ليكون لهما نصيب في طلب هذه العارية تفرّج كربتهما. وجاء في القصيدة قوله:

عبدالحميد، وأنت معوان
إذا هز الخدين حبال ود ضرينه
إن كان «ذو القرنين» عندك حاضرًا
فابعث به لنرى ضياء جبينه
ولكي نشاهد حسنه وجماله
ونرى اقتدار الله في تكوينه
ولكي يجاوب - لو يمأمئ - مثله
في بيت جاري مأمأت قرينه
وليعلم الجيران أجمع أنني
إن جاء عيدٌ لم أضق بشئونه
ولكي يراه من أساء ظنونه
بدراهمي فأنال حسن ظنونه!
وليطمئن الدائنون ويعلموا
أني امرؤ يقضي جميع ديونه
ولكي يشرفنا بطيب حضوره
فيه من التشريف كل فنونه
ونردّه لك بعد ذلك سالمًا
بدمقص فروته وعاج قرونه
وأنا الأمين عليه وهو بمنزلي
من كل جزار ومن سكينه
يغدو غداة النحر لم يمرر على
سنعوّد عيد النحر أو طجينه
يمسي ويصبح وهو عندي آمن
من فلفل الطاهي ومن كمّونه
فابعث به عبدالحميد فإنه
شيء يرد إليكم في حينه
لسنا نميل إلى نعاجك بل إلى
كبش لك التفويض في تعيينه

وعندما تسلم الضابط عبدالحميد فهمي مرسي هذه القصيدة، اتصل بصديق له يدعى عبدالعزيز سلطان - وهو أيضًا صديق للأسمر - موعزًا إليه بأن يبعث إلى هؤلاء الشعراء بثلاثة خراف وبخروف رابع له شخصيًا بشرط أن ينتقيها من المسمّنات لا العجاف.

ولكن الأسمر تبيّن عند وصول هذه الخراف أنها تعاني وعثاء السفر الطويل بسبب بعد المكان ما انعكس على شكلها وهندامها وغدت مثل الهرر الهزيلة، فبعث الأسمر إلى صديقه الضابط يعاتبه ويشكو من هزال الخراف مرددًا:

ويح عبدالعزيز أرسل هرّات
إلينا، وقال عنها خراف!!
لم تمأمئ بل نَوْنَوْتْ فضحكنا
ثم قلنا، ماذلك الإسراف!
أهدايا أم تلك بعض الرزايا
ربِّ سلم ونجّ مما نخاف!
أربع أقبلت، فقلت خراف
ما تراه العيون، أم أطياف؟!
كان منها لنا خروف عجيب
هو من فرط ضعفه شفاف
لاح كالوهم بل هو الوهم يمشي
لا خروف جاءت به الأرياف
هو بين الكباش كبش صناعي
وزيف أدقّه الزياف
أثريٌ من عهد يوسف موميا
خلفته لنا السنون العجاف
ليس فيه من الخراف التي نعرف
إلا القرون والأظلاف
كم تمنى أطفالنا أن يروه
ورأوه، فأنكروه وخافوا!
يا صديقي عبدالحميد أهذا
ما رجونا، وعندك الألطاف؟
دإن عبدالعزيز مال عن الحق
فأين الوفاء والإنصاف
كبشه وهو كبشكم حين وافى
حار فيه الجزار والعلاف
أبصرته القدور عندي فمالت
ضاحكات، وفرّت الأضياف
خذه عبدالحميد خذه وحسبي
هبه حكمًا ما له استئناف؟

وإذ كان الأسمر قد تضجر وارتفعت شكواه من هدية لا تسمن ولا تسد الرمق، فإن الشاعر محمد عبدالغني حسن تقبل الهدية «الخروفية» بعبارات شكران، فالخروف أفضل من لا خروف، والهدية مقبولة على العين ورأس بغض النظر عن شكلها أو قيمتها المادية، فبعث إلى الضابط مرسي بهذه الأبيات، فالشكر واجب، وإن شكرتم لأزيدنكم!

وصل الخروف وقد حسبتك مازحًا
فإذاك قد بالغت في تسمينه
الله زيّنه بكل جميلة
وجميل صنعك زاد في تزيينه
للأسمر المحبوب فضل وصوله
لاتتخذ لك صاحبًا من دونه
هو واحد منفرد في شعره
وجماعة في ظرفه وفنونه
قد دلني يوما عليك ولم يكن
إلا دليل الخير في تبيينه

وأما علي الجندي فسكت عن الكلام المباح فلا تذمر ولا شكر، ولعل لسان حاله هو: لا شكر على واجب وإن الصمت أبلغ من أي كلام.

وفي عيد تال رغب قريب للضابط مرسي في إهداء خروف إلى الشاعر الأسمر، ولكن يبدو أن الخروف أدرك أن مصيره المحتوم سيكون على يدي شاعر شاهر سيفه متربص به، فنفق، وقيل إنه انتحر خشية الوقوع في يد الأسمر الذي سجّل هذه الواقعة بقوله:

أخبرني عبدالحميد أنه
أحضر لي للعيد كبشًا أحورا
فقلت: كبش أم غزال؟ قال
بل أجمل منه منظرًا ومخبرًا
فما الغزال عنده إلاّ كمن
شبّه بالمصباح هذا القمر
وقال لي إن عليه فروة
مثل الدمقس دونها كل الفرا
وإنه بين الخراف لم يزل
للحمه وشحمه موقّرا!
وقال لي، حتى بدا
لي أنه أجمل ما فوق الثرى
فقمت من فوري لأهلي ضاحكًا
مستبشرًا بقوله، مبشّرا
وقلت: شيء جاءني أزهو به
على السراة، أو أغيظ الشعرا!
ولم أزل متبهجًا منتظرًا
قدومه، مطبلا مزمرا!
حتى علمت أنه فجأة
مات، ولاقى حتفه مثمرًا
وأنه استعمل ما كان له
لو لم يمت، مهيأ مقدرا
من لامه من أمره فإنني
عذرته والله فيمن عذرا
لما أحسّ أنه هدية
لشاعر، فكّر ثم انتحرا!

إن الحياة المادية التي كادت تهيمن على كل مقدراتنا لم تعد تحتمل مثل هذه الدعابات الشعرية التي كانت تحتفي بها، حتى الصحف اليومية السيارة، فنجد من قرائها إقبالاً على متابعتها، وهو ما نفتقده اليوم - ضمن أمور كثيرة - في صحفنا حتى في صفحاتها الأدبية - إن وجدت.
-----------------------------------
* كاتب من مصر.

 

وديع فلسطين