عماء اللغة

عماء اللغة

-1-
هل الشعر أعمى والنثر مبصر؟
-2-

يقول المذيع لضيفه الذي يحاوره: تسود اليوم في البلاد، حالة من ديمقراطية الديكتاتورية. فما رأيك؟

يجيب الضيف: إنني مع ديمقراطية الديكتاتورية. لكنّ هذه المرحلة لم نصل إليها بعد، فما يسود هو ديكتاتورية الديمقراطية.

نصغي إلى هذا الحديث، فنحار كيف نرتّب مقاصده، هو سرد، نثر، رأي مرسل، سمّه ما شئت، لكنه يدور في العماء.

فاهتزازاته الكثيرة تمنع علينا القبض على مقصده. واهتزاز اللغة هنا ليس اهتزازًا في الفك، بل هو اهتزاز في عصب داخلي تحت الجلد، هو عصب الحياة والانتباه.

-3-
يقول جان بول سارتر إنّ اهتزازات الكلمات شبيهة بالهزّات الأرضية والأفلاك. إنها خطيرة وتكشف عن اهتزازت عميقة الفور في الحضارة ذاتها.

-4-
اللغة الموصلة (Transitif) أو المتعدية، واللغة اللاموصلة (Intransitif) أي اللازمة، هما العباراتان اللتان استعملهما رولان بارت في كتابه «الدرجة الصفر للكتابة»، للتمييز بين لغة العلوم الإنسانية والاجتماعية والطبيعية من جهة، ولغة الفن من جهة ثانية. فهو يصف الأولى بأنها لغة موصلة بالضرورة، والثانية بأنها لغة لا موصلة. فلغة العلوم في رأيه، لغة مشروطة بغايات محددة ترمي إليها. فإذا انتفى الوصول إلى هذه الغايات انتفى مبرر اللغة. فأنت حين تعرض نظرية الجاذبية لنيوتن على سبيل المثال، أو النسبية لأينشتاين، إنما تستعمل التعابير والمعادلات اللغوية التي توصل إلى الغرض المحدد بكل دقة.

كذلك حين تعرض نظرية الانعكاس الشرطي في علم النفس، أو نظرية السوق في الاقتصاد، أو نظرية الندرة، أو نظرية النشوء والارتقاء، فإنك ملزم بالضبط والدقة والاختزال والإصابة، وهذه هي عناصر معنى الإيصال.

أما لغة الفنون، فيعتبرها «بارت» لغة مكتفية بذاتها، لا غائية، لا غرضية من وراء اللغة، فهي ذات اكتفاء ذاتي وإشباع.

إنها بنية لغوية لا تاريخية ولا اجتماعية. وبالتالي تكاد تكون مقفلة على ذاتها، فالفن في أساسه الالتباس، أما العلم فمن مشاكله الالتباس.

-5-
يفصل جان بول سارتر في كتاب «الكلمات» بين الشعر والنثر، فهو يعتبر الشعر لعبة لغوية تدور في الفراغ، وليس لها التزام، بعكس النثر الذي يرى فيه سارتر ضرورة الالتزام. الناشرون ملزمون بالمعنى وإيصاله، أما الشعراء فلا دور لهم سوى الدوران في مدار الكلمات المغلق.

والرأي هذا، جزء من حاصل تطوّر تكنولوجي وسياسي لمفهوم الثقافة في الغرب، جنحت من خلاله إلى تغليب الشكل (Forme) والعنصر الآلي على أي معنى غير منظور ديني أو أخلاقي في الإنسان أو الكائن.

وهناك تحفظات كثيرة حيال ذلك، أخذت تظهر في داخل البنية الثقافية للحداثة، في اتجاه تجاوزها إلى ما بعدها، والانتقال من البنية الشكلانية المتراصة إلى التفكيك، والبحث عما قبل الشكل أو ما وراءه من جوهر وجود وكينونة، من روح أو سحر أو دين أو عنصر بدئي - بدائي، فكان ارتداد إلى ما يشبه الدادائية الجديدة، فأعيد الاعتبار إلى تريستان تزارا في فرنسا، وتم في الولايات المتحدة الأمريكية إعادة اكتشاف الرسام «بن شايم» (بن حاييم) في لوحاته التعبيرية التي تستر التقدم التكنولوجي بما يشبه البدائية.

ويتم الالتفات أكثر فأكثر نحو الطقوس الدينية ومايعمر به الشرق من روحانية قديمة، كما تم الانتباه إلى الأساطير الشعبية والخرافات والعبادات الرائجة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية.

-6-
يقول رسول حمزاتوف في كتابه «بلدي»:

«حسنا، لقد صنعت قفصا صدريا لكنك نسيت أن تضع فيه قلبا يخفق.

لقد أوجدت عينين/ لكنك نسيت أن تنفخ فيهما من بريق الحياة، فالعيون التي لا حياة فيها تشبه حبات العنب».

-7-
أسأل: هل من اللازم دائمًا، أن يتمّ تحديد الشعر في موازاة النثر، والنثر في موازاة الشعر؟ أليس من موقع ثالث لهما معًا؟ وأسأل: أين؟

-8-
المحيّر حول ما هذا؟ وما ذاك؟ هو أنه أحيانًا، تنطبق أوصاف هذا على ذاك، وذك على هذا.. ويجد المصطلح نفسه واقعًا في مأزق التسمية الذي حاول أن يتلافاه فوقع فيه.

من ذلك على سبيل المثال ما قاله الباحث زياد بركات، في بحث له يحدد فيه حدود النثر وحدود الشعر، ويرسم لكل منهما حقلاً وهوية. فالنثر في تصور بركات كائن خاص قائم بكينونته. مجده وطموحه أن يكون «مبتذلاً» - بتعبير الكاتب.

وخصوصيته هي في أن يبتعد عن «الشعريّة» كمعيار، فقد «وُجد لكي يسلّي الآخرين»، وله «فضيحته بل فضائحه الكثيرة، فبذرائعيته الرخيصة يكشف عن مراياه الصافية التي لا تعكس إلا الوحل. إنه مضلل وبرجماتي وسيد وخادم في الوقت نفسه، بدءًا من خطب الرؤساء، انتهاء بابتهالات الوعاظ، مرورًا بالاستدعاءات التي تكتب على أبواب المحاكم. ثمة ما يثبت دائمًا فضيحة النثر وطلاقه مع الإخلاص لمبدأ واحد أو حتى الإخلاص لكاتبه». فليس على النثر أن ينتج شعريته، سيكون، إنتاج ذاك، الأسواء، بل الخائن لنفسه، المحكوم بعقدة نقص تجاه الشعر. سيكون له شعور بالدونية، وهي فكرة استمرار ألف ليلة وليلة كنصّ سردي بلا مؤلف، على دحضها وإثبات عكسها (تنظر مقالته في جريدة الحياة عدد 6 تشرين الأول / أكتوبر 1996).

-9-
لا قيمة، تبعًا لرأي بركات، للمؤلف في النثر، لا قيمة للموضوع، لا قيمة للطقوس، بل هو سرد طويل مهذار جميل مبتذل حي حكائي نثري ناقل ونافل، مدّع، بارد وحار، واقعي وخرفي، إيروتيكي وينطوي على ابتهالات وأناشيد، خطابي وإعلاني، سام وتبليغي، وللسوقة والملوك وللخاصة والعامة، ومن أول الدهر إلى آخر الدهر، وهو هكذا يجري ويتدافع وينتشر، إنه «النثر» وكفى.. وبلا أي لقب آخر.

وينهي بركات فكرته بالجملتين التاليتين:

«لا قداسة أبدًا في النثر»، «لا شعر أبدًا في النثر».

-10-
حسنًا، قلت في نفسي: إذا كان هذا هو النثر، وهذا هو اقتراح حدّه، فهو أيضًا «الشعر» في الاقتراحات الحديثة، والمابعد.. لحدوده.

فما صحّ من أوصاف بركات على الأول، يصحّ على الثاني، فهو أيضًا (أي الشعر) صعلوك سردي هامشي منتشر جرائدي متفلّت كاسر وقح حر مغامر مسلّ رؤيوي قديس مبتذل مرتّب مبعثر ثقيل خفيف طائر منغمس في القذارة انغماسه في الطهارة، بل لعلّ كل معنيين واحد فيه، وبالتالي ليس له سوى أن يعرف بذاته الهائلة المنفلشة على اليابسة انفلاش الموجة على الرمال.

-11-
هل نعود إلى السؤال من أوّله؟
هل الشعر أعمى والنثر مبصر؟

بمقدار ما هو السؤال قلق، الجواب صعب. تبدو لنا إشكالية في علاقة الفن بالعلم، وعلاقة كل منهما باللغة. ونعني بالإشكالية هنا مشكلة مفتوحة لا حلّ لها. طرحت المسألة بشكل شامل ومتنوّع المجلة الفرنسية المتخصصة المسماة «أوترمان» Autrement بإصدارها عددًا خاصًا بهذه العلاقة، ضمنته أبحاثًا حول علاقة العلوم الفيزيائية والرياضية الحديثة - من خلال نظرية أينشتاين في النسبية - مع الفنون التشكيلية بشكل خاص، سيما المدرسة التكعيبية التي مرّ بمرحلتها بابلو بيكاسو من خلال لوحته الشهيرة «فتيات آفينيون» ولوحته الأخرى «الموسيقيون» ورسخها براك في رسومه وتجاربه.

وكان أستاذ الجماليات الفرنسي بول لابورت قد أعدّ أطروحة جامعية حول علاقة الفن التكعيبي بالنسبية الفيزيائية والرياضية، ووجّه سؤالاً إلى ألبرت أينشتاين حول رأيه في جديّة هذه العلاقة، من حيث كون الفن التكعيبي يتسند إلى الاختزال الهندسي وإلى تعدّد زوايا النظر والأبعاد للمنظر الواحد، حيث لحظ البعد الرابع في الفن التشكيلي، المتعلق بالزمن، فهل هو عينه «التتابعية» في النسبية؟

لم يوافق أينشتاين لابورت على افتراضاته، ولكنه أشار إلى نسبية إبداعية في الشعر الصوفي والديني، تلتقي مع النسبية الفيزيائية والرياضية.

-13-
هل في الشعر الصوفي تندمج كل الافتراضات والعناصر، كما تندمج المياه في البحر؟

هل الميتافيزيك أساس الشعر والنثر والوجود والعدم؟

إنها أسئلتنا اليوم على كل حال، مثلما هي أسئلة قديمة قديمة.
--------------------------------
* شاعر وكاتب من لبنان.

-------------------------------------

قمري الحزينْ
البحر مات وغيّبت أمواجُهُ السوداء قلع السندبادْ
ولم يعد أبناؤه يتصايحون مع النوارس والصدى
المبحوح عاد
والأفق كَفَّنَهُ الرمادْ
فَلِمَنْ تغنّي الساحراتْ؟
والعشب فوق جبينه يطفو وتطفو دنيوات
كانت لنا فيها، إذا غنى المغنّي، ذكريات
غرقت جزيرتنا وما عاد الغناء
إلا بكاءْ
والقُبَّرَاتْ
طارت، فيا قمري الحزين
الكنز في المجرى دفين
في آخر البستان، تحت شجيرة الليمون، خبأهُ هناك السندبادْ

عبدالوهاب البياتي

 

محمد علي شمس الدين*