قصص على الهواء

قصص على الهواء

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص?
-------------------------------------------

تتراوح مستويات القصص التي تم الاختيار من بينها، لكنها تتضمن عددًا من القصص اللافتة، ولعل ما يلفت الانتباه في القصص المختارة هنا اهتمامها جميعًا بالشأن العام، بالرغم من اختلاف الحيز الجغرافي الذي تعبر عنه، وفيما يلي القصص المختارة:

  • «طائرات من ورق» لكريم محمود- العراق:

يملك الكاتب قدرة جيدة على القص من خلال تطويعه لأدوات سردية ملائمة للتيمة التي اختار التعبير عنها فنيًا وتعكس القصة وعي الكاتب بمحورية البناء اللغوي، وتطويعها للانتقال بين الزمانين الماضي والحاضر بشكل جيد. كما تمتاز لغته في العديد من الفقرات بطاقة شعرية تتناسب والطابع السردي للقصة.

  • «كانت مجرد مناوشات» لزهيرة مجراب الجزائر:

تعكس القصة أسلوبًا جيدًا شائقًا، يتلائم مع المفارقة بين الواقع والحلم، ومع مضمون القصة الذي يتناول رصدًا ونقدًا لسلبيات الواقع السياسي بأسلوب يمتلك حسّا ضمنيًا ساخرًا، من دون الإيغال في المباشرة، عبر استخدام تقنية الحلم، لغة القصة بسيطة تتلاءم مع المضمون.

  • «من أوراق زمن الغد» لأشرف غنيم مصر:

بالإضافة إلى مضمون القصة الذي يتناول حدث الثورة المصرية بشكل جيد، تعكس هذه القصة قدرة الكاتب على التحكم في أدواته، خصوصًا فيما يتعلق باللغة عبر العلاقة بين اللغة العربية الفصحى واللهجة العامية المصرية، حيث استطاع تضفيرهما تضفيرًا معقولاً. تعكس القصة معالجة مختلفة لحدث الثورة المصرية.

  • «تعويذة حجر الأحزان» لعبدالكريم يحيى الزيباري - العراق:

تظهر هذه القصة تمكن الكاتب من أدوات الكتابة وتقنيات السرد في الانتقال من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب، تعكس القصة تكثيفًا جيدًا لعدة أزمنة وأحداث وعوالم تكشف جانبًا من الحياة اليومية للمواطن العراقي، الذي لاتزال أشباح الخوف تلاحقه. كما تعكس أيضا قدرة احتمالية على رسم الشخصية من زاوية فنية جيدة. ويمتلك الكاتب أيضا لغة تتسم بالجمال.

----------------------------
طائرات من ورق
كريم محمود العراق

لم يكن للطفل من وسيلة إلا أن يحمل بعضا من أحلامه الغضة ويصعد بها إلى سطح البيت، ليرى تلك الطائرة الورقية المحلقة في تخوم السماء، التي اعتاد أن يتابعها عصر كل يوم وهي تحاول أن تتخذ لنفسها وجهة ملائمة تعينها على التحليق. محاولات أولى قد تخيب لكنها ومع اشتداد الريح سرعان ما تفلح.

من هو قبطان هذه الطائرة العجيبة؟ كيف يتمكن بإتقان منقطع النظير أن يجعلها تعانق بشراشيبها غيمات السماء. حاولت جاهدًا أن أرى ذلك القبطان، لكني لم أوفق أبدًا، فبيوت الجيران حالت دون ذلك، كانت أسطحها العالية تحجب عني مدى الرؤية فلا يبدو لي حتى لو تسلقت حائط السطح إلا خيطها الرفيع وكنزتها المشرشبة بذيول من ورق.

عرفت من أطفال الحي أن قبطان تلك الطائرة الورقية والذي يستشعر هبوب الرياح بملكة ربانية لا يمتلكها أحد غيره، هو «مناور» الفتى الهادئ الذي ابتعد عن صخب الحي وضجيجه وبقي وحيدًا يصنع طائراته الورقية ويطلقها بعيدًا صوب الغيمات. يكبرني الفتى بسنوات، قلما رأيته يبتعد عن محيط الحارة التي يسكنها وإذا صادف أن رأيته، كنت أنظر إليه بتقدير وإعجاب. ظل هذا التقدير عالقًا في نفسي، يستدرج أحلامي الغضة إلى رغبات ملحة أصنع فيها طائرتي الورقية الأولى.

كنت قد هيأت لنفسي كل المستلزمات التي أحتاجها، شريط ورقي لاصق، لونه أصفر بطول ذراع، لم أحصل على ثمنه إلا بشق الأنفس، ما إن تلقفته يداي حتى ركضت سريعًا فانساب من خلفي كجدول ماء، أوراق سمراء هي بقايا أغلفة لكتب مدرسية، بعض من قصب متوافر في المستنقع القريب وقليل من الخيط الرفيع.. قليل.. لن يسعفني أبدا كي أصل بطائرتي صوب الغيمات! وحده المقص كان متيسرًا وفي متناول اليد.

طفل صغير يفترش الأرض، يستحضر ينابيع السحر الكامنة في أعماقه، ينفث من روحه شيئًا ما، يحاول، تلهث وراءه حواس خمس، أنهكه الأمر كثيرا، القصبات تأبى أن تتقوس، الأوراق تماحكه دومًا، ينكمش بعض منها وبعضها يستطيل. صار الوقت معصرة تقذف ذاك الطفل بين رحاها وهو يحاول أن يصنع طائرته الورقية الأولى.

لم تكن طائرتي بأحسن حال، حاولت أن أطلقها من فوق السطح، أجري هنا وأتسلق هناك لكني لم أفلح أبدًا فالخيط قصير وطائرتي مازالت عصفورًا غضًا لا يعرف كيف يخاتل ويصارع دوامات الريح. ضربتني ظلال الخيبة بسعفتها وكنست كومة أحلامي نحو مزاريب السطح! وقفت منكسرًا، لكني لم أيأس أبدا، ظلّ التحليق صوب الغيمات حلما خبأته في درجِ الأيام كباقي الأحلام الأخرى التي كانت تغفو وتصحو مع تعاقب الأيام والفصول.

«يا ليت الأيام تعود..»

هكذا قالها «مناور» حين التقيته مصادفة وبعد كل تلك السنوات عند مدخل واحدة من البنايات الحكومية التي كنت أراجعها لأمر ما، قالها.. بحسرة بعد حديث قصير دار بيننا، أخبرته فيه عن هذا التلازم الصوري الذي أقع فيه، كلما رأيت وجهك يا «مناور» أرى طائرتي وهي تحلق في سمواتك البعيدة.

اصطحبني إلى غرفته القريبة من مدخل البناية، لفتت نظري مبردة الهواء الموجودة إلى الجهة اليمنى من مقعده، كانت ملقاة على الأرض يتحرك دولابها بسرعة فائقة وكأن «مناور» لا يطيق الحياة بعيدا عن تيارات الهواء التي كان يشتم رائحتها قبل الهبوب. طلب مني أن أقف قليلا أمام تيارات الهواء المندفعة من المبردة لأجفف عرقي المتصبب، بدا لي أني أستعد للتحليق كطائرة من ورق!

أحيانًا تأخذني قدماي إلى ذاك الحي القديم، أمر على بيوت الجيران وعلى بيتنا الذي تركناه منذ سنوات، أفتش في علب الأحلام المقفلة عن طفل صغير يتسلق حائط السطح، يراقب طائرة مشرشبة بذيول من ورق، تحلق صوب الغيمات!.

----------------------------
كانت مجرد مناوشات
زهيرة مجراب الجزائر

ترن.. ترن.. ترن..

من يتصل بي في هذه الساعة المتقدمة من الصباح، فالسابعة لم تحن بعد

ترن.. ترن.. ترن....

ربما والدتي المريضة قد أصابها مكروه ما، لا.. لا أظن ذلك فقد كانت أمس في حالة صحية جيدة، ربما نسيت باب المحل مفتوحا قد يكون ذلك، ولكنني تأكدت جيدا من أنني أحكمت اغلاقه بعد أن خرجت أنا وخالد. ربما... لست أدري... يستمر الهاتف في الرنين، وبعد تردد وحيرة كبيرتين، استرجعت فيها ذكريات يوم أمس بالكامل بتفاصيله، عجزت على التخمين فاستسلمت وأجبت، لأنهي بذلك صراعي المرير مع هاجس الخوف والإحتمالات الكثيرة التي حاصرتي فجأة.

ألو صباح الخير من معي؟؟

أنا ابن صالح من أبناء هذا الوطن.

أهلا بك أيها الإبن الصالح، كلنا أبناء صالحون. فلماذا تتصل بي في هذا الوقت المبكر من الصباح، وماذا تريد مني؟

قررت أن أدعوك الى اللجنة الإستشارية حيث المباحثات قائمة على قدم وساق، لبحث المستقبل السياسي للبلاد واستشارتك في أمور العباد، فكما تعلم أن هناك أصوات تعالت تطالب بحل البرلمان الحالي، وتشكيل حكومة انتقالية لتصريف الأعمال، ودعوات لاعادة تشخيص الواقع للخروج بحلول للأزمة والإحتقان السياسي، مع التحضير لإنتخابات برلمانية مسبقة، وكما تعلم أن الوفود التي حاورناها دعت الى فتح المجال الإعلامي بصفة حقيقية وليست ظرفية، لبروز سلطة مضادة هدفها تحقيق التوازن في البلاد، وبما أن المشاورات شملت عدة نقابات منهم أساتذة التعليم العالي، الفلاحين والأطباء جاء دورك أنت اليوم أيضا.

كنت أسمع الى كلامه بتمعن واهتمام، عندها فقط أدركت أنني أحدث أحدث أبطال مسلسل النشرة الإخبارية، الذي كان الأمس يردد مثل هذا الكلام، ولأني لم أعرف بعد دوري في المونولوج السياسي رحت أسأله:

وما هو دوري أنا، وكيف بامكاني أن أحل أمور البلاد والعباد؟؟

أعرف أنك مختص في الخياطة والترقيع، تجيد فنون الطرز والتزيين، فتبعث الحياة في الثوب القديم، أنت تصلح وترمم الأجزاء الممزقة، ليصبح في حلة بهية ، جميلة. لذا أردنا الإستعانة بخبرتك وحنكتك لترقيع الثوب السياسي.

طبعا بامكاني ذلك، هل تعرف قصة السروال؟؟ ذلك السروال الذي اشتراه أحد أبناء حيي من السوق الأسبوعي، منذ حوالي شهر.انه من صناعة صينية ارتداه يوما، وعاد به ممزقا من الرجلين. ظل يفكر كيف سيرمي السروال ولم يمضي على شراءه سوى يومين؟. ليحضره لي بعدها، فقمت بترقيع الأماكن الممزقة بقطعة أخرى من الجينز الفاتح، وأخطته جيدا حتى بدا وكأنه جديد، وهو الآن يرتديه دوما.

نعم... نعم انها حكاية سروال علي، من لايعرفها فهذه القصة هي من جعلت الإختيار يقع عليك، وكما لايخفى عليك فثوبنا قد اهترأ لقد مضت 49 سنة عليه، لكنه لم يتغير حاولنا جاهدين اصلاحه لكن عجزنا عن ذلك. فلما بلغتنا قصة السروال اقترحت الإعتماد عليك.

ونعم الرأي والإختيار، سأكون عندك في تمام الثامنة. لبست ثيابي على عجل ورحت أجري باحثا على سيارة تاكسي.

وين تروح خويا؟

مقر المشاورات السياسية، هل تعرف أين تتم؟؟

طبعا، فبالأمس اتصلوا بي وشاوروني أنا أيضا في مستقبل البلاد والعباد، واقترحت حلولا أساسها تغييرات جذرية في جميع الميادين، ومصالحة الشعب مع السلطة ، فتح المجال أمام الطاقات الشابة بدلا من الجثث السياسية المحنطة، والتي يعيدون استدعاءها في كل مرة، لاعادة بعث المسار الديموقراطي.

وماذا أيضا؟ هلا أكملت حديثك...

لاشئ... فهم يدركون أنها مشاورات صورية، لن تغير من الواقع شيئا فعلى أرضنا لاتوجد نوايا جادة في تفعيل ذلك.

وصلت الى المقر متأخرا قليلا، وقبل أن يسلموني الثوب السياسي لأصلحه، فتحت الحقيبة بحث عن الخيطان والإبر لم أجدها، بحثثت مطولا عنها ولكن بدون جدوى ، عندها تذكرت أني نسيتها على الطاولة بجانب السرير في غرفة النوم.

فجأة سمعت الهاتف يرن... يرن ويرن.. بدون توقف. استيقظت مفزوعا هل كان كل هذا حلما؟ والمشاورات و... يستمر الهاتف في الرنين...

ألو من معي...؟؟؟ أنا ابن.....

----------------------------
من أوراق زمن الغد.. يوميات موظف
أشرف غنيم مصر

بعدما قامت ثورة 25 يناير، طلب رئيس قلم مجلس الإدارة من السيد باش كاتب قلم المستخدمين، إحداث ثورة أيضا فى شركتنا، فبدوره فكر وقدح ذهنه ثم قال فى صوت غير مسموع إلا لنفسه : نحن دائما فى ثورة داخل انفسنا وخارجها، أحيانا تحدث هوجه وهتافات من جماعات من الخلق فيسمونها ثورة، لا ذنب لنا أن الدنيا لم تقم بثورة إلا الآن بعدنا، وأخذ يضحك أن تعريفهم للثورة، هو تعريف قاصر، وأنهم لا بد يسألونه حتى يعرفها لهم على حقيقتها.

وكلما تحدث معه أحد الأشخاص أو تواجد فى إجتماع بعد تلك الأيام، يهز رأسه فى فخر ثم يتشدق باللغة العربية التى يبحث عمن يكتب له ويصحح ورقته، وهو يقرأ منها : قدرنا أن قلم المستخدمين دائما هو المحتك والمفعل المباشر للموارد البشرية بالمؤسسة، بالتالى فلابد من ثورة تنموية.

وهز رأسه كثيرا وهو ينظر لنظارة كل عين من الجالسين حول الطاولة ثم أعاد القراءة : لذا كانت الثورة فى المجتمع هى نتاج الثورة التى نقوم بها كل لحظة فى عقول الموارد البشرية.

يصفق الحاضرين بقوة وهم لا يفهمون شيئا.

ثم رفع نظارته لأعلى و يحاول حك جبهته : أتذكر سؤالى لأحد الشبان المنتخبين للإختبارات للعمل بالشركة، وقد كان السؤال : ماهو مذكر ثورة؟؟؟؟؟؟!!!!!!!! عندما رأيت الولد وهو يجذب رباط عنقه وبفخر يقول: ثور.. أيقنت أن إجابته صحيحه.

شعرت أنه يعيش فى العصر الحديث..... لكننى مسحت عينى بمنديلى القماش وعدت انظر من جديد إلى الواقع.

مازلنا نبلل ريقنا بلون القلم الكوبيا، وأنا انظر إلى السيد باش كاتب قلم المستخدمين، هل على رأسه طربوشه؟!

وإلا كيف وطريقة إنفعاله عندما خلعه بداخل مكتب رئيس قلم الجودة وهو ينظر إليه ويقول له :-

- أبدا.. ما تفكرش... مستحيل.

ثم لكز رئيس قلم الجودة بكلمة وهو يطيح بيده فى وجهه "مش ها ينفع".

شعرت أنه يقول فى قرارة نفسه "على جثتى"

تطايرت كلمات خلفه فى الهواء، وهو يخرج من مكتب الرجل، حاولت لملمة شظايا منثوراتها، "إمال أنا هنا بأعمل إيه"، "ولا تفتكرنى شرابة خرج بقى"

فذهبت إلى الولد عامل البوفيه، وهو يضحك ويصرخ :-

- أيوا جاااااااااى

أوقفته.

- نعم يا أستاذ.................

أنتحيت به مكانا قصيا، أخبئه فيه، لأستكشف الخطيئة التى حملها عقله لدى رؤيته باش كاتب قلم المستخدمين وهو يقدم له كوب الينسون الذى طلبه رئيس قلم الجودة وصوتهما مرتفع.

أخرجت من جيبى قطعة فندام مسكرة يحلى بها الولد فمه، فهذه رشوته.

- يا أستاذ..... الأستاذ رئيس قلم الجودة باين عايزينه يهيكل قلم الجودة.

فرحت وأردت أن أصرخ، وأركض فى كل مكان، أمسك الولد بفمى وهو ينظر إلى كلمات قديمة كتبت بسن بوص غاب حسنة الخط، لكنها على جدار لم تتم له صيانة منذ ألف عام، ومسح وجهه بالمنديل الكروهات الذى أخرجه من جيبه مباشرة، وأردف يتذكر ما تاه فى عقله من الأحداث، فحاولت مساعدته.

- لكن الأستاذ باش كاتب قلم المستخدمين، طبعا رافض، ومعترض.

- لا.. هو بس بيقول إن الكفاءات الموجودة ما تتصعدش.

- طيب ليه.... وبعدين.... ها

- بيقول إنهم يعينوا كفاءات قديمة من بره الشركة، يعلنوا عنها.

- ها.... يمكن عنده حد بره معرفته يعنى ولا إيه.

- لأن الكفاءات الموجودة إذا نطت وتخطت القدام فى الشركة، ها تحصل ثورة، وهيصة وهو مش ناقص دوشه، خصوصا إنهم قرايب ناس مهمه فى قلم مجلس الإدارة.

- يبقى يعنى يوقفوا الهيكلة بقى ولا إيه.

أخذ عامل البوفيه ينظف الحائط بمنديله من الأتربة، وهو يقول:-

- يا أستاذ......... الجدار دا من الأثريات أول شيئ إتبنى فى الشركة.

- لأنه عليه من يومها الأول توقيعات ريقنا بلون القلم الكوبيا.

----------------------------
تعويذة حجر الأحزان
عبدالكريم يحيى الزيباري العراق

كان المدير أشبهُ بمن يعضُّ نمراً من ذيلهِ، والنمر خدران، وسنان، سُرعان ما سوف يلتفتُ النَّمِرُ عباس إليه، ويلطمهُ لطمةً قد تقتلهُ أو تقعده فيما تبقَّى من حياتهِ.

في أواسط نيسان، تلقى عبَّاس أمراً من الأجهزة الأمنية في المدينة بضرورة إخلاء البيت، بعد مراجعات ومخاطبات رسمية، أمهلوه شهرين، حتى ينتهي الفصل الدراسي ليفيَ بالتزاماتهِ وارتباطاته وينهي أبناءهُ دراستهم، وينتهي هو من جميعِ أعمالهِ في المدينة، كانا شهران تعيسين جداً، لم يذق فيهما طعم الراحة، أفكارٌ سوداء وحمراء لا تنفكُّ تطرقُ رأسه:

أنا أخوكم.. لماذا تطردونني؟ أنا واحدٌ منكم، ابنتي تدرسُ في المعهد في سنتها الأولى، أينَ سوف تبيتُ في سنتها الثانية؟ ابني لا زال في المهد صغيراً، هنا في هذه المدينة مسقطُ رأسهِ، هذه شهادة الميلاد!! أنا ما ارتكبتُ جرما ولا فعلاً مشينا، لماذا هذه الإهانة؟

أنا لستُ خائناً ولا لقيطاً على باب جامع!! أنا من عشيرةٍ كبيرة، رغمَ أنَّ شيخَ العشيرة لا يحبني، أنا لستُ تهديداً للأمن القومي ولا المحلي، أنا مواطنٌ حقيقي في هذا الوطن، أنا مواطنٌ بسيط، قضى ثلاثةٌ من آبائي في حروبه العبثية، وأنا خدمتُ العلمَ الذي كرهتهُ اليوم، اثنتا عشرةَ سنة، وجُرِحتُ مرتين، ورغم الخوف والجوع والاضطهاد، وملاحقة الأجهزة الأمنية، لم أهرب إلى إحدى دول الخليج، ولم أطلب لجوءاً من الغرب.

طوال سنتين لاحقتين من قرارِ طردهِ حاول عبَّاس أنْ يعرفَ السبب الذي استنفر الأجهزة الأمنية ضدهُ، السبب الذي جعلَ منه خطراً ماثلاً يهدِّدُ أمنَ المدينة التي أحبَّها، لكنهُ أبداً لم يفلح، فالمعلومات الأمنية سريَّة جدا جدا، ورغم تدخل أحد شيوخ العشائر، والكثير من وجهاء وأعيان المدنية، لكن جواب مدير الأمن كان واحداً وصارماً(لا أسمحُ لأحدٍ أنْ يتدخَّلَ بعملي).

عباس فكر كثيراً بالقضية، وحلَّل شخصيته، واستذكر جميع الأحداث التي سبقت قرار الطرد، صغيرها وكبيرها، كتبَ أسماء أصدقائه في دفتر، ورغمَ أنَّهُ لم يكن لديه أعداء، كتبَ أسماء الذين يُحْتَمَلْ أنَّهم صاروا أعداءً له، بعدما سمعوا منه كلمةً نابية، أو مزحةً ثقيلة، وكثيراً ما كان يفعل، كتب أسماء أناسٍ لا يعرفهم، ولم يلتقِ بهم يوماً، كتبَ كلَّ شيء، واستشار إمام الجامع، الذي أمرهُ بأن يقول (حسبي الله ونعم الوكيل)، نعم فالمسألة أمنية، ولا تحتملُ كثيراً من الكلام، استعانَ بأحدِ القضاة، وكان جاراً قديماً، للتباحث في موضوع الطعن بالقرار، فنصحهُ بتنفيذ الأمر وعدم الانجرار وراء هذه الغواية، التي لن تجلبَ له إلا مزيداً من الشر، لَمْ يترك باباً إلا طرقهُ، لكنَّهُ أبداً لم يتذكَّر أنَّه ذات ليلةٍ من أيام الشتاء الباردة، جَرَحَ مديرَهُ جرحاً حيث لا يَضَعُ الراقي أنفهُ، بوشايةٍ الكترونية صغيرة، واتصال هاتفي قصير للتأكيد على الخط الساخن، أبداً لم يربط بين الأمر الإداري بنقله إلى المستودعِ القديم، المهجور في صحراء هيت، والقرار الأمني بطردهِ من المدينة.

عبَّاس شابٌ خجولٌ حَسَّاس، من عقلاء المجانين، يطيرُ من عينيهِ شَرَرٌ لا مكانَ لهُ في المدينة،

وتيهٌ بين العبقرية والجنون، ولعه بالشِّعر، وكثرة قراءة الكتب، أفسدتْ عقلهُ، حتى لم يَعُدْ أصدقاؤه ولا أهلهُ يحتملون الحديث معه، في بداية أمرهِ، كانوا يتطايرون حوله، مسحورين بالحكايات والقصص والأمثال والأحكام التي يسوقها من بطون الكتب، لكن ليس في هذا الزمان، هذا ليس زمن القصص والحكايات، هذا زمن العنب الأسود والغدَّارات السود، وتجاوزَ الأمرُ كلَّ حدٍّ، حتى اقترب عباس من الجنون، وها هو يتبختر في الممر الفاصل بين غرف الإدارة والحسابات وعينهُ لا تفارق شعبة التدقيق الداخلي، حيث يدخل الكثير ويخرجون، وهو لا زالَ ينشد:

"أنا ابن جلا وكَشَّافُ الخبايا، متى أمسكُ القلم تعرفوني، ماذَا يدّري الناسُ منّي، وقدْ جاوزْتُ رأْسَ الأرْبعينِ، سأضربُ ما حييتُ وإنَّ ظهري، لمشتدٌّ إلى نصْرٍ، آمينِ".

بعدما طردوه نظرَ في داخلهِ وقال لنفسهِ: هرَبَ النَّمِرُ ذو اللونينِ من داخلي، ولم يبقَ غيرُ حَمْلٍ وديع ذي لونٍ واحد، لكني سوف أتخندقُ أربعةَ أعوامٍ، وأحتملُ العواصف والثلوج، وحبات المطر تتسرب إلى حفرتي، وسوف أتخندقُ ثلاثة أعوامٍ أخرى وأحتملُ الجوع والعطش، والشمس الحارقة والجفاف، أراقبُ بعينيَّ صقر، سأذرعُ الخندقَ مرات ومرات، في مشيةٍ فيها توثُّبٌ وإقدام، سأنتظرُ مهما كانَ العدوُّ بعيداً، مهما كانت الهُوَّةُ عميقةً، وظلام الليل دامساً، مهما تآمر الضباب، وملَّ أصدقائي الجنود من رائحة الجوارب الممزقة، ورطوبة الخندق المُتَعفِّن، رغم كلِّ شيء، سوف أرى ما أريدُ رؤيته، وأصِلُ إلى ما أريدُ الوصول إليهِ، وبقبضتي هذه سوف أقدِّمُ الأدلة إلى قاضي التحقيق، ولا بدَّ أن يهبني الله فرصةً سانحة، وهو يرى آلامي وتضرعي وتذللي بين يديهِ، واضطراري وصبري ومثابرتي في التخندق وحيداً، وربما يلهمني خطةً جديدة للهجوم.

على حائط المستودعِ القديم، المهجور في صحراء هيت، كتبَ أحدهم بصبغٍ أحمر وخطٍّ رديء (هذا مكانٌ يصلحُ لحياة الأبطال) ذات ليلةٍ حارة، عقربٌ أصفرٌ صغير لدغَ ابنتي، مصصتُ السمَّ على عجلْ، ولأنني لا أحلق لحيتي منذ سنوات، منذ اشتريت ماكينة حلاقة كهربائية، حاولت تخديش مكان اللدغة بسكين، أقرب مستوصف يبعد ساعتين، نصحتني زوجتي بشدِّ رباط ضاغط كمانع وريدي، يمنع انتشار السم، تعجبت منها، كيف تذكرت ما نسيته، وهي تبكي وتولول، بدأ مكان الجرح يتورَّم، واللعاب يسيلُ من فمها، ويزداد تنفسها سرعةً، تبولت على نفسها، جلبت لي ثلجاً في رقعة قماش، وقالت لي ضعهُ على الجرح، وصبَّت عليه ماءً بارداً، رفضتُ في البداية، خوفاً من التهاب الجرح، لكني تذكرتُ خبرتها، لا توجد شبكة موبايل في هذه المنطقة من الصحراء، لا أدري لماذا لا تجبر الحكومة شبكات الموبايل على نصب الأبراج في هذه المناطق النائية، خاصَّةً وأنَّ أرباحهم السنوية تتجاوز المليارين، ذهبتُ أركضُ إلى خيمةِ جاري عودة البدوي راعي الأغنام، لديه سيارة بيك آب، وكنت أدعو من الله أنْ أجدهُ، لأنني لم أرَ وجهه منذ أسبوعين، وكنت خائفاً أنْ يكون قد انتقلَ إلى مكانٍ آخر، فرحتُ حين سمعتُ نبحَ الكلاب هرَّتْ عليَّ، كادَتْ أنْ تمزقني، لولا لطف الله بي، ونجدة جاري عودة أبو الريم، الذي حين كنتُ أمازحهُ أسميه أبو الريش، مع صفير في الحرف الأخير، شين، خرج حاملاً بندقيته الكلاشنكوف، خرجَ ابناهُ فزَّاع وهزَّاع ببندقيتين أيضاً، وركبنا السيارة التي أبتْ أنْ تشتغل، وبدا فاقداً لأعصابهِ وهو يشتم ميكانيكي القرية القريبة، نزعَ غطاء رأسهُ، رماه على المقعد، ونزلنا ندفعُ، من الخلف، وابناه يدفعان معي، وهو بجانب باب السائق، حتى وصلنا طريقاً قليل الانحدار فاشتغلت السيارة، وابتعد أبو الريم، حتى ظننته لن يعود، لكنه استدار وعاد سريعاً، أرادَ ابنه الصغير هزَّاع أنْ يأتي معنا، توسَّل أباهُ الذي رفضَ بشدة وشتمه وابتعدت السيارة بسرعة كبيرة، مُخَلِّفَةً وراءها الغبار، قلت لجاري عودة، أنَّ ابنتي لُدِغَتْ، ولم أخبره بالعقرب الذي قتلته، خوفاً مِنْ أنْ يخطئ في تقدير خطورة الموقف، ويقول على عادته(خفيفة ها اش جرى لك)ساخراً من دلال أبناء المدينة، لكنَّهُ حالما رأى مكان اللدغة، قال: هذه لدغة عقرب!. حين وصلنا المستشفى، قال الطبيب أنَّ اللدغة تحولت إلى تسمم عام، بقيت في المستشفى أسبوعين، تركتُ فيهما المستودع بلا حراسة، ولم يحدث شيء، هذين الأسبوعين علماني أنْ أغيبَ طويلاً عن هذا المستودع اللعين الذي لم تجد الحكومة، غيري أنا الثالث في ترتيبي من كلية القانون، أنا القانوني حلال المعضِّلات المستعصية، يرسلونني لحراسة مستودع متروك في الصحراء!!.

منذ قدومي هنا، وعائلتي، كان أبو الريم جاري، قد حدثني طويلا عن رحلات الصيد التي يعشقها وأبناءَهُ، وأخذني معه ذات مرة، بعدما خرجت ابنتي من المستشفى بأربعة أيام، ذهبتُ معه إلى الدار أولاً، جاءت زوجته بوجهها الباسم، رحَّبَت بي أجملَ ترحيب، سألتني عن زوجتي وأبنائي، وبطنها أمامها، كانت حُبلى بينة الحبل، بل ربما كانت في شهرها الأخير، غادرت بسرعة، هيَّأت الطعام، وضعتُهُ أمامنا، في منسفٍ كبير، برغل وطيرين صغيرين من طيور القطا، وماعون بصل أحمر، رائحته اخترقت أنفي، وخبز حار أخرجته من التنور إلينا مباشرةً، حَمَلَتْ أمُّ فزَّاع منام رجلين في السيارة، مع بندقية كلاشنكوف وبندقية صيد طالما حدثني عنها أبو الريم، كانت تفعل كلَّ شيء وهي باسمة، بهمَّةٍ ونشاط كبيرين لا مثيل لهما، سألتها عن ابنيها، أجابتني دون أن تتوقف عن مباشرةِ أعمالها: يرعيان الغَنَمْ، أخذت رقعة قماش وراحت تمسح نافذة السائق والمرآة، ومعها إبريق من الماء، كنتُ آكل ببطء شديد، وأنا أراقب حركتها، وسعادتها البائنة على وجهها، ما هذه المرأة؟ إنَّها أقوى وأجمل من الرجل الحديدي!!، ناداها زوجها: أم فزَّاع، ركضت تحمل الطِّست أو ما يسمونها الإجّانة مع إبريق نحاسي، قد زال لونه، وصابونة في وسط الطِّست، وضعت العدَّة أمامي، والمنشفة على كتفها، غسلتُ يديَّ وفمي أولاً، ومن ثمَّ من ورائي أبو الريم، ولم تحمل عدتها، حتى كان الشاي أمامنا في قدحين كبيرين، ارتشف أبو الريم شايه الحار جداً، برشفتين، مسحَ شفيته الغليظتين بكمِّ ردائهِ، وتمدَّد على ظهره قائلاً: الحمد لله، على أنعامهِ الكثيرة.

خرجنا لصيد القطا في هذه الصحراء التي تبدو بلا نهاية، أبو الريم كان الله قد حباه بعيني نسر، فرأى من بعيد صَفَّاً واحداً من طيور القطا، فأطفأ سيارته، وحذرته أنْ يفعل، لأني ليس بي طاقةٌ على دفعها، خاصَّةً بعد غداء دسم، فقال متهكِّما: ومن أينَ لك الطاقة يا ابن المدينة المدلل؟

اقتربنا بهدوء، أطلق أبو الريم من بندقية الصيد، وقال لي صَوِّب وسدِّد بالكلاشنكوف، لكنَّهُ أطلق النار وأنا لم أنتهِ، وحين فعلت كنت أطلق النار في الهواء، لأنَّ صفَّ الطيور كان قد طار، بعدما قتل منهم أبو الريم أربعةَ طيور فقط، وبقينا حتى غابت الشمس، فلم نعثر على شيء.

في الليل انطفأت الكهرباء، ورأيتُ ضوء سيارة تقترب، ترجَّل منها فزَّاع، وبيده طائرين، لقد نسيت أخذ حِصَّتك من الصيد، هذه حصتك وعشاؤك، والدي يسلِّم عليك، وبإلحاحٍ شديد وافق أن يرتشفَ معي الشاي، مع بعض الكعك الذي تصنعه زوجتي في الفرن الصغير، قلت له:

- لماذا لا يوافق والدك على الاقتراب من المستودع؟

لم يجب فَزَّاع بشيء، وظل صامتاً ساهماً.

- سوف أسحب لكم خطَ كهرباء، ولن تضطرون إلى شراء الماء، ونتسامر كل ليلة أمام شاشة التلفزيون، و..

- والدي يخاف أنْ يزورك مسئولٌ في يومٍ ما، فيسرقَ أغنامهُ!!.

- كيف هذا لن يكون، لقد ولَّى ذاك الزمن.

- والدي يقول دوماً: لم يتغير شيء، فقط أسماؤهم تغيرت.
-----------------------------
* كاتبة وناقدة من مصر.

---------------------------------------

سكتت وأدركها الصباح، وعاد للمقهى الحزين
كالسائل المحروم، كالحلزون
ينتظر المساء
وغدًا ستوصد بابها في وجهه، ويعود للمقهى الحزين
ولا يعود
كالسائل المحروم ينتظر المساء
ولربما سيقول عنه الآخرون - ويهزأون
من سره المدفون:
«أفّاقٌ لئيم!»

عبدالوهاب البياتي

 

 

غادة الحلواني*