مرفأ الذاكرة

 مرفأ الذاكرة

من زوايا.. التجارب

اعتدت من صغري، على قراءة السير الذاتية للشخصيات العربية والإسلامية والعالمية، ووجدت فيها الكثير من الزاد الناتج من حقل التجارب الخصبة بما يتيح للقارىء الدخول في تحليلات لشخصية الموضوع والتعرف على الوسائل التي استخدمتها هذه الشخصية في التعامل مع الأحداث، بحلواتها ومراراتها، بإيجابياتها وسلبياتها، وقد قرأت في بداية حياتي "حياة محمد" للدكتور محمد حسين هيكل، وعبقريات العقاد التي كتبها عن الخلفاء الراشدين وبصورة موجزة ومركزة، ونهج البلاغة الذي يلقي الضوء على شخصية الإمام علي بن أبي طالب. وعادة ما تقدم كتب السيرة صورة متكاملة عن الأحداث، التي حصلت لشخصية صاحب السيرة، ودورها في صناعة تلك الأحداث وأسلوب المواجهة فيها، ونتائجها على موضوع الكتاب، بما في ذلك لوحات تحليلية كثيرة عن شخصيات مشاركة تعاملت مع صاحب السيرة. ومع الأسف فإن كتاب السيرة الذاتية أو غير الذاتية فن بارز في الحياة الثقافية في حضارة الغرب، لم يأخذ حقه في ثقافة العرب، لأسباب كثيرة أهمها توفير المصادر، وغياب الحرية، والاستخفاف بالبحث والتنقيب. ولقد مرت علي في حياتي الدبلوماسية والعملية التي استمرت أربعين سنة، شخصيات كثيرة ومختلفة ومن مشارب متباينة، وحضارات مختلفة، شاء حظي في الحياة أن ألتقي بها بحكم العمل، إما من ضمن وفود كويتية، أو بصفتي سفيرا للكويت في الأمم المتحدة، أو بعد ذلك أميناً عاماً لمجلس التعاون الخليجي من 1981 إلى 1993.

وقد كنت أفكر في إعداد كتاب يتضمن تحليلاتي لتلك الشخصيات وإبراز بعض الجوانب التي تسهم في التعرف على طبيعتها وتصرفاتها لكنني حتى الآن، لم أسخر الوقت الكافي للقيام بهذا العمل الكبير.

عملت مع الشيخ صباح الأحمد الجابر، النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية في دولة الكويت، مديرا لمكتبه من عام 1964 الى 1971، سمحت لي تلك الفترة بالاطلاع على طبيعة العمل السياسي العربي، ولأنني كنت لصيقاً للشيخ صباح الأحمد فقد حضرت الكثير من الاجتماعات الثنائية أو الجماعية التي كان يسهم فيها كرئيس للدبلوماسية الكويتية. وقد تابعت مراحل التطور في حياة الشيخ صباح الأحمد، شاهدت خطواته خلال عنفوان المد الناصري، ورغم مرور السنين، فلم تفارقه نزعة الإنصاف والرغبة في تأييد الحق والدفاع عنه، والنزوح نحو الموضوعية.

في أبريل 1966، قام أمير دولة الكويت في ذلك الوقت الشيخ صباح السالم الصباح بزيارة رسمية إلى القاهرة بدعوة من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر. وكنت ضمن وفد الكويت المسافر إلى القاهرة، وخلال تلك الزيارة توصل الجانبان الكويتي والمصري إلى قيام الكويت ببذل مساع حميدة مع المغفور له جلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز ملك المملكة العربية السعودية للتوصل إلى حل مقبول للحرب الأهلية في اليمن، التي اندلعت بعد قيام الثورة هناك، ودعم مصر للنظام الجديد، وتعاون المملكة مع الجانب الملكي الذي انتصر لنفسه ليقاوم الثوار الجدد.

وقد حضرت لقاءات عدة تمت بين الشيخ صباح والرئيس جمال عبدالناصر في القاهرة والإسكندرية، ولقاءات مع الملك فيصل في الرياض وجدة.كنت أراقب الرئيس المصري وهو يتحدث بنبرة فيها الكثير من الهموم والقلق، واستمع إلى الرئيس المرحوم أنور السادات الذي يشارك في الاجتماعات فأسمعه يتبرم ويهدد، أما عبدالحكيم عامر، فكان ظريفاً رقيقاً في مداخلاته.

وكان الانطباع الذي خرجت به من تلك الاجتماعات هو أن الرئيس يريد الخروج من اليمن إذا توافرت وصفة مريحة ومقبولة، لأنه كان يحمل هم اليمن على كتفيه ويتعامل مع مشكلته بواقعية واضحة.

كان الملك فيصل يحمل هيبة الملوك في حديثهم، وفي أسلوبهم في اختيارالمفردات، مدركاً أن التهاون يؤجج النار التي قد تمس تراب المملكة، وكان يعمل بفهم كامل للآليات التي تضبط العلاقات بين الدول، كان براجماتياً بصلابة، وواقعياً بإصرار، ومفاوضا بثقة.وقد انتهت مشكلة اليمن بعد كارثة 1967، واختلطت المياه بعدها، وتركت الكارثة جروحاً غائرة في نفوس الجميع بمن فيهم خصوم الأمس، وقربت فيما بينهم بعد أن انحسر التوتر، وإن لم يختف الشك.

في ممر السفراء

في العاشر من سبتمبر 1971 قدمت أوراق اعتمادي إلى السكرتير العام للأمم المتحدة يوثانت، مندوبا دائما لدولة الكويت في الأمم المتحدة.

جاء يوثانت إلى الأمانة العامة بعد مقتل سكرتيرها السابق همرشولد في حادثة تحطم طائرته في الكونجو عام 1961، وظل في منصبه في الدور الثامن والثلاثين في المبنى الزجاجي لمدة عشر سنوات وترك المنصب في عام 1972.

لم يكن الحديث مع يوثانت سهلاً، فقد كان شاحباً ضعيفاً ومرهقاً، جاء من بورما، وهو معتنق الديانة البوذية، التي تسيدت طباعه، فقد كان منضبطاً وممارساً جيداً لفن السيطرة على النفس، له غموض لا يخلو من الطيبة. وقد كنت أسأل نفسي عما إذا كان هذا الرجل النحيل الصادق والمستقيم يستطيع أن يواصل مسيرته في خضم التوتر الناتج عن الحرب الباردة. لم يعش يوثانت طويلاً حيث توفي بعد عامين بعد أن داهمه مرض السرطان.جلست في الأمم المتحدة عشر سنوات، رأيت فيها الكثير من الرجال البارزين، من قادة تاريخيين، ومن رؤساء جاءت بهم الصدف، ومن أشخاص مثيرين للجدل، ومن زعيمات حازمات.

وجالست الكثير من رؤساء الدورات للجمعية العامة للأمم المتحدة، بينهم القادر، وبينهم المتخلف، وبينهم المبتكر، ومعظمهم عاديون لا لون ولا طعم لهم.وعرفت السكرتير العام للأمم المتحدة الدكتور كورت فالدهايم، الذي تولى المنصب بعد يوثانت، ولكثرة الأحداث ولكثرة الناس الذين جالستهم، فسأختار ثلاثة أحداث كان لها أثر كبير على سلوكي، مروراً ببعض الشخصيات التي تركت بصمات على الشأن العالمي.

في أكتوبر 1971، انفجرت الحرب الهندية الباكستانية، بعد تطورات الأحداث في باكستان الغربية، وإلغاء فوز نجيب الرحمن بالانتخابات الفيدرالية المركزية، وتدخل الجيش الباكستاني في ما يسمى باكستان الشرقية، ويرد عليه الوزير الباكستاني، متهماً إياه بالتدخل في الشأن الداخلي وتجزئة الأراضي الباكستانية. وغير ذلك، ولم تتخذ الأمم المتحدة خطوة تنزع فتيل التوتر.

انعقد مجلس الأمن، في اجتماعات صاخبة ومتوترة، كان ممثل أمريكا عندئذ السفير جورج بوش الرئيس الأمريكي فيما بعد ومثل الاتحاد السوفييتي السفير جاكوب مايك، السفير المخضرم الذي عاصر الأمم المتحدة منذ حرب كوريا.

كانت موسكو حامية للهند سياسياً، وواشنطن مدافعاً عن باكستان، وبسبب هذا التمحور أصاب الشلل أعمال المجلس، بعد أن استعمل الاتحاد السوفييتي حق النقض لإسقاط مشروع قرار يدعو إلى وقف القتال وسحب القوات.كان ممثل باكستان ذو الفقار علي بوتو، وهو رجل خطيب وبليغ، لكن البلاغة لم تسعفه أمام حقائق الحياة المرة.

كان ممثل الطرف المظلوم، لكن الحق، وإن كان معه، لم ينجده من ضياع نصف باكستان، وبروز الدولة الجديدة "بنغلادش"، على يد القائدة "انديرا غاندي".

كنت ممثلاً جديداً لدولة الكويت، أتابع الأحداث في مجلس الأمن، ولم أكن أقاوم الألم لرؤية عملية تفكيك دولة بقوة السلاح من قبل دولة جارة أقوى وأكبر، تحت حماية القطب الثاني في الثنائية العالمية.ورأيت تفوق حق القوة على قوة الحق، ورأيت أيضاً قذارة السياسة، وتسيد المصالح.

وكأنني أتوقع شيئا ما قد يحدث للكويت التي كانت بلا غطاء أمني، سوى غطاء التآخي العربي القائم على مشاعر دون آليات رادعة.

في عام 1973، عبر الجيش المصري خط بارليف، وابتدأت حرب أكتوبر، بشكل جماعي بما فيها سلاح النفط، وساد العالم، بسبب ذلك، اهتزاز عصبي حول ندرة الطاقة، الأمر الذي دعا الرئيس هواري بومدين إلى عقد دورة استثنائية للجمعية العامة لبحث النظام الاقتصادي العالمي الذي لا يتسم بالعدالة، وكذلك بحث دور الشركات الكبرى غير الوطنية في احتكار ثروات الدول النامية.

جاء الرئيس بومدين في بداية عام 1974 على رأس فريق جزائري متكامل، يتضمن كفاءات سياسية واقتصادية بارزة، وبعد أن ألقى الرئيس بومدين خطابه الطويل، ابتدأت أعمال الدورة في جو فيه الكثير من التخوف والتوتر بين الشمال والجنوب.كان أبطال الجنوب الهند، باكستان، وإيران، والجزائر، بالإضافة إلى فنزويلا ودول النفط، وأبطال الشمال يترأسهم الدكتور كيسنجر.

وإذا كانت ولادة بنغلادش قد فتحت عيني على واقع القوة ومنطقها وحقوقها، فإن الدورة الاقتصادية الاستثنائية فتحت عيني على حقوق التفوق التكنولوجي والعلمي والبحثي، وأهم من ذلك على قوة الندرة.

تتميز الكويت، من بين الدول النامية بأنها تملك "قوة الندرة" التي تعني ملكيتها لسلعة استراتيجية يحتاج إليها كل العالم، ويملكها قلة منه، الأمر الذي أعطى هذه الدول قوة اقتصادية وسياسية تفوق حجمها وامكاناتها.

ولأن الكويت صاحبة قوة الندرة فكان لابد من مشاركتها في الاجتماعات المصغرة لصياغة نظام اقتصادي عالمي، سواء في مبنى الأمم المتحدة أو خارجه في منتجعات بعيدة عن الأضواء في أماكن خارج مدينة نيويورك.

ولم تنجح المساعي في تلك السنة 1974، لأن الطرفين وقعا تحت تأثير نفوذ المتسلطين، فقد كانت قوى معتدلة في الشمال "النرويج، السويد، إيطاليا، إسبانيا" وقوى أخرى متصلبة "كيسنجر في واشنطن وبريطانيا"،وقوى معقولة في الجنوب وقوى أخرى وجدت فرصتها في الخلخلة التي أصابت الاقتصاد العالمي لتكافح من أجل الحصول على امتيازات أكبر "مثل الهند وباكستان وإيران"، بينما آثرت قوى الاعتدال الابتعاد عن الصدام.

انتهت تلك الدورة الاستثنائية التي فجرها الهواري بومدين رجل الجد الذي لا يعرف الهزار، رجل الصرامة والمواجهة.

وبالمناسبة فقد تولى رئاسة تلك الدورة وزير خارجية الجزائر عبدالعزيز بوتفليقة "الرئيس الحالي للجزائر".

وقد كان رئيساً ثورياً لا يعبأ باللوائح الداخلية، ولا يهتم بالضوابط، ويسير وفق قناعاته، وهو الذي رتب حضور عرفات للجمعية العامة، وجمد مشاركة جنوب إفريقيا العنصرية.

كرسي ساخن

وضعت نصب عيني الحصول على عضوية الكويت في مجلس الأمن، ودولة الكويت على لائحة آسيا التي لها مقعدان، تتناوب عليهما ست وأربعون دولة، ولهذا فكان علينا الانتظار حتى تأتي المناسبة التي جاءت في 1977، عندما تم اختيار الكويت عضواً في مجلس الأمن، ممثلا لآسيا، وفق التوزيع الجغرافي للأمم المتحدة، ولكنها ممثل للمجموعة العربية حسب التوزيع السياسي.

بدأنا العمل في يناير 1978، وجلست ممثلاً للكويت في مجلس الأمن لمدة عامين، رأيت فيهما الكثير، المزعج والمريح، وتعرفت فيهما على عدد كبير من الزعامات والشخصيات، لأن عضوية مجلس الأمن توفر لممثل الدولة صفة خاصة تتيح له المشاركة في اجتماعات مغلقة، واحتفالات عامة، ولقاءات محدودة، فضلاً عن اتصالات الدول التي ليست عضوا في مجلس الأمن، من أجل الدفاع عن قضاياها أو لشرح موقفها.

يشكل مجلس الأمن ناديا خاصا لطبقة من النبلاء هم أعضاء المجلس الذين يتحملون مسئوليات أكبر.

في ذلك الوقت لم يكن للكويت هموم خاصة، وليس لها قضايا ولا جدول أعمال خاص بها، كانت قضاياها عربية، ومواقفها عربية، وهمومها عربية، واستراتيجيتها في الدبلوماسية هي تبني قضايا العرب والدفاع عنها، وإعطاؤها أولويات في عملها الخارجي.

كانت تلك الاستراتيجية ترجمة لتعريب الكويت في دبلوماسيتها وسلوكها السياسي الخارجي والداخلي، وتحت ذلك التعريب شيدت الكويت خيامها الأمنية، مقتنعة بأنها المرفأ الآمن الذي لا تصله الأعاصير.

وقد كانت قضية فلسطين بكل إفرازاتها هي جدول أعمال الكويت، التي شكلت أيضاً 06% من أعمال مجلس الأمن في الفترة من 1967 1980.

كان الهم الأكبر هو العمل على تحقيق قرار من مجلس الأمن، يدعو إلى سحب القوات الإسرائيلية من جميع الأراضي العربية المحتلة، ويدعو أيضا إلى حق شعب فلسطين في ممارسة تقرير المصير.

كان القرار الذي يستند إليه مجلس الأمن في معالجته لقضايا الشرق الأوسط هو القرار 242، الذي يعالج شئون الاحتلال والانسحاب.

لكن لا يستجيب لمطالب منظمة التحرير الفلسطينية في حق تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية.

ولأنني ممثل العرب في مجلس الأمن، فقد تحملت لمدة عامين مسئولية الدفاع عن منظمة التحرير في مطالبها لإضافة فقرة جوهرية تعطي المنظمة مرجعية سياسية وقانونية لممارسة حق تقرير المصير.

وقد بدأت الاتصالات السرية مع وفد المنظمة لصياغة قرار مبسط تقدمه الكويت لمناقشته والتصويت عليه.

وبصراحة فإن خطوة مثل تلك ستؤدي إلى توتر وصدام مع الولايات المتحدة بالذات، وهي دولة صديقة، لنا مصالح مشتركة معها، ولنا مصلحة استراتيجية في التعاون معها، ولكننا لم نعبأ بذلك.

وقد بدأت مناقشة المجلس لقضية فلسطين بشكل واسع، دون أن نحدد شكل القرار الذي سنطرحه على مجلس الأمن.

وفي مفاوضات واتصالات اقترحت على اندي يونج السفير الأمريكي في الأمم المتحدة، ورئيس مجلس الأمن لذلك الشهر (أغسطس 1978) أن يلتقي رئيس وفد منظمة التحرير في منزلي بصورة سرية لكي يتم التفاهم حول مصير القرار الذي لا تريده واشنطن وتصر عليه المنظمة وتدعو له الكويت، ولا يقضي عليه سوى الفيتو الأمريكي الذي لا تريد واشنطن أن تعزل نفسها باستخدامه.

جاء إلى منزلي القريب من مبنى الأمم المتحدة السفير الأمريكي يونج لمقابلة المندوب الفلسطيني السيد زهدي الطرزي، الرجل البدين، صاحب الروح الخفيفة، يرافقه ابنه الصغير للتغطية.

وجلسنا الثلاثة، نتكلم بصورة غير رسمية حول القرار، واتفقنا على تأجيل التصويت نتيجة لذلك اللقاء، إلى أجل غير مسمى، تقديراً لموقف السفير الأمريكي ذلك القسيس الأسود الذي برز في حركة تحرير السود مع الزعيم مارتن لوثر كينج.

وخرجنا متصورين أن الموضوع قد انتهى، فلن نستمر في سياسة الإحراج، ولن نضغط على واشنطن، وراح السفير يونج إلى مقره مرتاحاً.

وأول من نشر الخبر كانت مجلة نيوزويك، بعد حوالي شهر من اللقاء، وبعدها تصاعدت أصوات التجمعات الصهيونية مطالبة برأس السفير يونج الذي كسر قواعد العمل الأمريكي الذي يرفض التعامل مع منظمة التحرير.

وانتشر الخبر عالياً، وكسبت المنظمة انجازاً سياسيا وإعلامياً لم تتوقعه، وصار زهدي الطرزي معروفاً لربات البيوت الأمريكيات، يطل عليهن من قنوات التلفزيون بشكله القريب من سانتا كلوز.

وانتهى الأمر باستقالة السفير الأسود أندي يونج، صديق الرئيس كارتر، الذي ضحى بصديقه للاعتبارات السياسية، رغم صيحات تجمعات السود المناصرة للسفير.

تلك الحادثة علمتني شيئاً مارسته المنظمة وهو "الدبلوماسية الضبابية" فقد جاء ممثل المنظمة بالمشروع الذي يقبل "القرار 242 الذي كان مرفوضا في ذلك الوقت من جميع العرب"، بالإضافة إلى حق شعب فلسطين بممارسة تقرير المصير.

كانت المنظمة تريد التحرك ولكنها تريد غطاء سياسياً، وقد وفرت الكويت ذلك الغطاء، فإن نجح المشروع فلن تتردد بالاستفادة منه وإن فشل نتيجة المعارضة الأمريكية، فستأخذ منه مكاسب إعلامية وسياسية أيضاً، وسيزيد السخط الجماهيري العربي على واشنطن.

هناك الكثير من الدول التي مارست هذا النوع من الدبلوماسية، لا سيما في دول الطوق، ومن فنون الضبابية الغموض، والتستر والاختباء خلف راع أو متبن، خوفاً من وضع داخلي محرج مثل وضع لبنان، أو مزايدات عقيم تمارسها منظمات أخرى، مثل حالة منظمة التحرير. أو لأسباب إقليمية معقدة.

وقد شعرت بهذه الضبابية بشكل حاد أيضاً خلال أزمة جنوب لبنان في مارس 1978 عندما أمر بيجن رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك قواته بالتوغل في الجنوب اللبناني على إثر حادثة السفير الإسرائيلي في لندن.

كانت مشكلة لبنان حادة لأنه بلد مسكون بالطائفية وصراع الطوائف، واعتيادية الدخول في تحالفات مع قوى إقليمية ضد طوائف لبنانية داخلية.

وقد كانت مشكلة مجلس الأمن هي صراع القوى اللبنانية المتحالفة مع منظمة التحرير ضد الدولة اللبنانية. ولهذا فقد كان السفير اللبناني الذي عملت معه خلال عملي في مجلس الأمن السفير غسان التويني، يمارس سياسة الغموض وتغليف الأوراق التي يلعب بها بسرية نابعة من الثقافة الضبابية التي يعيش فيها لبنان السياسي.

وكان مندوب المنظمة زهدي الطرزي مزعجاً ومشاغباً يثير موضوعا ميتا مثل اتفاقية القاهرة ضد لبنان، أمام مجلس الأمن في وقت ضاعت فيه هيبة الدولة اللبنانية تماما وتعطلت أوراقها واستسلمت للقدر المكتوب.

رئاسة مجلس الأمن

ترأست مجلس الأمن في فبراير 1979، وحدثت خلال رئاستي عملية تأديب قامت بها الصين الدولة الدائمة العضوية في مجلس الأمن، ضد فيتنام.

وقد عقدت عدة اجتماعات رسمية لمجلس الأمن، كنت أضع مقترحات ومسودات قرارات كثيرة، لم أستطع فيها الحصول على موافقة الدول الدائمة، ولذلك آثرت السلامة وانهيت رئاستي بخطاب مثير خال من المجاملة، نثرت فيه الملح على الجروح الغائرة.

وعلى فكرة لم يتبدل أسلوب الصين في أعمال الأمم المتحدة عما كانت عليه الحال منذ أيامي، فالصين دولة لا تعطل لكنها لا تسهم بالمشاورات أو تقديم المقترحات، قليلة الكلام، تفضل الاحتفاظ بالأوراق وعدم البوح بالأسرار، لا تصطدم لكنها لا تبادر، ربما بسبب العزلة التي كانت فيها أو بسبب الشك والريبة أو بسبب الحضارة الصينية التي تعتمد الامتصاص والصبر.

انعقدت آخر جلسة شاركت فيها كعضو في مجلس الأمن في يوم 31 ديسمبر 1979 وهو آخر يوم لعضوية الكويت في مجلس الأمن، وموضوعها "الرهائن الأمريكيون في السفارة الأمريكية في طهران" حضرها وفد أمريكي رفيع برئاسة وزير الخارجية سايروس فانس.

وقد صوت مجلس الأمن على إرسال السكرتير العام كورت فالدهايم إلى طهران لمقابلة الإمام الخوميني لإيجاد حل للأزمة التي طالت دون حل معقول.

وقد ألقيت خطاباً أشرح فيه موقف الكويت، حيث امتنعت عن التصويت على القرار، وهو موقف كان معقولاً في ذلك الوقت إذا أخذنا في الاعتبار الظروف الإقليمية المحيطة بالكويت.

شعرت بارتياح بعد خروجنا من مجلس الأمن، فقد ساهمت الحرب الباردة في تعطيل إرادة المجلس، لأن الغرب لا يسمح بشيء ما ضد دول حليفة له، وموسكو لا تعرف قيما أو مبادئ في حمايتها لدول ضمن نفوذها السياسي أو صديقة لها.

كان العمل كثيراً، وكان تعامل المجموعة العربية مع قضايا فلسطين والشرق الأوسط فيه الكثير من غياب الصدق وفيه التلون والانتهازية، لم أكن مرتاحاً من علاقات الشك والريبة التي تحكم المربع السوري اللبناني الفلسطيني الأردني.

فقد كان هذا المربع يبحث عن متطوع يخرج له الجوز من الجمر الحار، ولا يريد أحد من هذا المربع أن يقوم بنفسه بحرق أصابعه.

ولذلك ظلت قضايا العرب جامدة، إلى أن أتى الرئيس السادات، فتطوع بإخراج جوز مصر بنفسه، تاركاً الآخرين يبحثون عن متطوعين.

وعندما لم يجدوا متطوعاً، راح الواحد بعد الآخر يعقد اتفاقيات السلام مع إسرائيل لينقذ ما يمكن إنقاذه بعد أن ضاع وقت طويل.

كانت علاقتي بالسكرتير العام كورت فالدهايم متينة جداً، فقد كان يدعوني للتشاور باعتباري ممثل العرب في مجلس الأمن، وكان يريد مني دعمه في الاستمرار في منصبه، وقد دعاني للعشاء بمفردي في منزله لنتكلم عن هذا الموضوع.

كان طموحاً، ميكافيللي السلوك، براجماتي العقيدة، له طاقة غير محدودة للعمل، تتحكم فيه غريزة الانضباط المرافقة للعنصر الألماني.

وقد استمرت علاقاتنا بعد عودته إلى فيينا وتوليه منصب رئيس الجمهورية حيث زرته في فيينا، وقابلته في الكويت ولانزال على اتصال في المناسبات.

من الشخصيات الكثيرة التي قابلتها، ارتحت للزعيم الديني البابا الحالي، وجدت زعيم كوبا كاسترو مثيراً ومملؤاً بالكاريزما السياسية، والسيدة غاندي نحيفة نظراتها لا تبعث على الارتياح، ووجدت سيها نوك ممثلا كوميدياً، وشعرت بالتباعد مع الملك حسين، رأيت السادات مزيجاً من البساطة والفلكلورية، وأعجبت بالسيدة جيهان أكثر من الرئيس.

كان رئيس وزراء السويد بالما الذي قتله مجهول، جذوة نشاط وفكر، ونيريري من تنزانيا خطيباً بارعاً، والملك الحسن هيبة الملوك لا تفارقه، أما زوجة الرئيس الفلبيني أميلدا ماركوس فمزيج من التصنع والبهرجة، والرئيس اللبناني سليمان فرنجية شعبي جماهيري.

غادرت نيويورك في فبراير 1981، بعد أن قضيت عشر سنوات في الأمم المتحدة، وآثرت السفر بهدوء دون حفلات وداعية فيها الكثير من التكلف وثقل البروتوكول، عائدا إلى الكويت، لمواصلة العمل في فصل آخر من فصول دنياي.

 

عبدالله بشارة