معرض العربي: جورج سورا «جزيرة غراند جات»

معرض العربي: جورج سورا «جزيرة غراند جات»

تميَّزت طباع الرسام الفرنسي جورج سورا عن غيره من الرسامين، بما يشبه اللامبالاة التامة بما كان يقوله النقاد عن لوحاته، سواء أكان ذلك مديحاً أم ذماً. ولهذا، عندما رفض المعرض الرسمي (الصالون) قبول لوحته «مستحمون في أنيار» عام 1884م، اكتفى بإدارة ظهره تماماً لهذا المقام الذي كان الرسَّامون يعتبرون قبولهم فيه اعترافاً بأهميتهم، والتحق بمجموعة من الفنانين الشبان الذين أطلقوا على أنفسهم اسم «الفنانون المستقلون»، وأقاموا أول معرض لهم في شهر مايو (أيار) من العام 1884م.

بعد عامين، أي في معرض المستقلين لعام 1886م، عرض سورا لوحته التي نقف أمامها هنا، واسمها الكامل هو: «بعد ظهر يوم أحد على جزيرة غراند جات»، وليس مختصراً كما وضعناه في العنوان.

كان سورا قد بدأ العمل على هذه الوحة قبل سنتين، ولكنه لم يعرضها إلا آنذاك. ولأنها جاءت بتقنية وأسلوب لم يكن لأحد أي عهد بهما في ذلك الوقت، فقد أثارت هذه اللوحة حفيظة النقاد، حتى أولئك الذين كانوا من مؤيدي الانطباعية، وكانوا يتوقعون عملاً انطباعياً وفق مقاييس مونيه وبيسارو.

فعلى الرغم من بقاء لعبة الضوء والظل شأناً مهماً في هذه اللوحة كما كانت عند باقي الانطباعيين، فإن النتيجة النهائية جاءت مغايرة تماماً للانطباعية «الكلاسيكية» آنذاك. والواقع أن سورا ظل يقصد جزيرة غراند جات كل يوم أحد ليرسم بعض جوانب هذه اللوحة في مئات الرسوم التحضيرية الانطباعية تماماً. ولكنه كان يعود مساءً إلى محتَرَفه، لينقل هذه الرسوم التحضيرية على اللوحة النهائية بتقنية مختلفة تماماً.

كان سورا، بدلاً من أن يرسم مساحة بالفرشاة، يكتفي بوضع نقطة من لون معين، وهو يعرف مسبقاً أن مجموع هذه النقاط سيكون بعد تكامله معبراً عن حقيقة المشهد. وأي مشهد؟

نرى في هذه اللوحة جموع المتنزهين على الجزيرة، وقد افترش بعضهم الأرض تحت ظل الأشجار، وبعضهم يتنزه، وبعضهم يرقب من ضفة النهر الزوارق والحركة على سطح النهر.. ولكن المشهد ككل يبدو ستاتيكياً، ساكناً، ويشبه مشهداً من فيلم سينمائي، عندما تجمد الصورة تماماً.

وبخلاف ما هو الحال عند الانطباعيين حيث تتداخل ضربات الفرشاة لتذيب الأحجام ببعضها بعضا وفي محيطها، فإن كل عنصر في هذه اللوحة يبدو مؤطراً بشكل كامل، وكأنه مستقل عن محيطه، لا بل إن كثرة الخطوط الواضحة أعطت هذه اللوحة نكهة هندسية بعيدة كل البعد عن مزاج الانطباعيين.

وبعد الصدمة الأولى التي تسببت فيها هذه اللوحة، تمكن بعض النقاد - ومن أبرزهم فيليكس فينون - من سبر أغوارها، فاستوقفهم تركيبها العام، ونوعية الشخصيات الظاهرة فيها، والنظرة شبه الانطباعية إلى اخضرار العشب في الظل واصفراره تحت شمس بعد الظهر، وغير ذلك من التفاصيل.

فصفَّق العالم لهذا التجديد الذي كان فن الرسم بحاجة إليه بعد وصول الانطباعية إلى طريق مسدود. وإن لم يُكتب لفن «التنقيط» الذي أسسه سورا من أن يتحول إلى مدرسة، رغم كثرة الذين حاولوا اتباعه لبعض الوقت، فذلك يعود إلى أنه تعامل مع منهجه في الرسم باعتباره ملكية فكرية خاصة، فلم يُطلع أحداً على هذا المنهج، ولم يُعلِّمه لأي كان، الأمر الذي فتح المجال أمام اتجاهات أخرى مثل اتجاه سيزان مثلاً، لأن يقودوا الانتقال من الانطباعية إلى التكعيب.
-------------------------------
* ناقد تشكيلي من لبنان.

 

عبود طلعت عطية