ميناء أندلسي على المحيط الأطلسي.. العرائش: أشرف أبو اليزيد

ميناء أندلسي على المحيط الأطلسي.. العرائش: أشرف أبو اليزيد

صور: سليمان حيدر

أولُّ القصيدةِ سُكَّر. هكذا كانَ لسانُ حالنا حين توقَّفنا بمحاذاةِ المياهِ المغربيةِ الأطلسيةِ، وبعد أن اجتزنا مدينتي طنجة ثم أصيلة، قاصدين ـ جنوبَهما ـ مدينة العرائش.

كان توقفنا عند بائع للبطيخ الأصفر، نتذوق زادًا أوصانا بهِ كلُّ من جاء إلى هنا. تحركت نسمة هواء تحت مظلة شمس ساطعة، فتحركت معها أوراق أشجار هنا وهناك، وكأنَّ صوتَ الحفيفِ نداءُ عرَّافاتٍ أسطورياتٍ يكررن على أسماعنا عباراتٍ يترددُ صداها، بين مياهِ المحيطِ المالحةِ، وبركةِ الوادي العذبةِ: «الطريقُ إلى العرائش أخضر، والتاريخُ فيها أندر، لكنَّ ماء محيطها ـ على يمينكم ـ أخطر، لكل من اصطاد به وأبْحر، أما قَطْر بطيخها الأصفر فله حلاوة قصب السكر»! فعلا، أول القصيدة سُكَّر، فلا يزال طعم البطيخ، ونحن نتأهب لمتابعة الرحلة، يَقطرُ حيا وحلوا. تساءلنا ونحن نودع البائع: «هل ستكون المدينة بمثل ما خبرنا من ثمارها؟».

لعل ذلك لم يكن سؤالنا وحدنا، فقد عبر من هنا ـ على مر آلاف السنين ـ من تركوا بصماتهم مرأى العين. هكذا بدا الأمرُ حين وصلنا إلى الموقع التاريخي الأول في رحلتنا إلى مدينة العرائش المغربية، ذلك الميناء الأندلسي، على المحيط الأطلسي.

قال دليلنا: «في كل موقع سنزوره ستتكشف لكم صفحة من كتاب المدينة النفيس. سَلْ عن حضارة، وستجدها مرَّت من هنا. في هذا الموقع ستكتشف أن الفينيقيين؛ روّاد البحر وأباطرته، أسسوا مدينة ليكسوس؛ جدة العرائش، مثلما أقاموا في الطريق إليها مدن قرطاجنة في تونس وأسسوا عنابة وجيجل واكسيوم في الجزائر وأنشأوا سبتة ومليلة في المغرب وبنوا ملقه والبيرة في إسبانيا».

تم اختيار الموقع من طرف الفينيقيين لسهولة الاتصال عبر النهر المؤدي إلى المحيط الأطلسي، كما توضح الخريطة التاريخية الطوبوغرافية للمدينة المنشورة، وقد تعاقب على المنطقة ـ بعد الفينيقيين ـ الرومان الذين شيدوا مجموعة من المدن المغربية القديمة مثل تمودا (تطوان) وليلي (منطقة فاس) وتنجيس (طنجة).

تأملت اللوحة المنصوبة على ناصية الموضع الأثري للمدينة الفينيقية المطمورة التي تقع على بعد 3 كيلومترات من العرائش، على ربوة في مدخل المدينة شمالا وعلى ضفة نهر اللوكوس (مشروع تهيئة موقع ليكسوس الأثري، صاحب المشروع: وزارة الثقافة، المديرية الجهوية طنجة/ تطوان، الهندسة المعمارية كاثرين المرابط، قيمة الاستثمار 800.000000 درهم).

حين يجتاز البصرُ السياجَ ذا الرماح الحديدية ـ التي تحمي الموقع الأثري ـ يمكنه أن يحدد جدران المدينة التاريخية، وقد غزتها هضبة من التراب والحشائش. تحكي حدود وهيئة الهضبات الترابية عما يمكن أن يخفيه ذلك الموقع الأثري من أسرار قد تكتشفها رحلة قادمة! الصبار الشوكي النامي والحشائش البرية الخضراء والأشجار الظليلة العجوز، وحفنة من الحراس جلسوا في ذلك الموقع الشاسع، الكل ينتظر معنا، لم تقل لنا اللافتة موعدًا للبداية ولم تحدد جدولا زمنيا للختام!

يبدو أن الأحلام الوردية لن ترافقنا على طول الطريق، فقبل دخولنا المدينة، وعلى تخومها التي تتماس مع الوادي والمحيط، برزت عشوائيات المباني المشيدة فوق هضبة أخرى، كانت بيوتا لها من كل الألوان نصيب. لم يكن هذا التضاد اللوني إلا بلاغة الشتات الذي يسكن المدينة اليوم. فالمدينة تتسع للقادمين إليها، وهم من أرياف وجبال، مثلما هم عائدون من هجرة أوربية، ولكل فئات هؤلاء وهؤلاء أنساقهم المعيشية التي تهدد نسيج أن تكون العرائش مدينة متجانسة ذات قوام واحد، أو هكذا سنكتشف في حوارات الأيام التالية مع ساكنيها.

«العربي» مع العربي

في العرائش كانت لنا مواعيد مع أعلام بها، مثلما كانت لنا لقاءات بالمصادفة أيضا. أجمل تلك اللقاءات العفوية كان حين جمعتنا جلسة في موقع أثري يقع عند أعتاب قصبة المدينة القديمة، التي تطل من علٍ فوق مينائها، بالباحث (العربي المصباحي) محافظ المباني التاريخية بالعرائش.

كان هاجسنا ـ ونحن نرى العمل جاريا في ترميم أثر مقابلنا ـ أن نسأل عن خطط إحياء تلك العمارة متعددة الراقات الحضارية. أخبرنا العربي المصباحي أن خلاصة المشروع هو إيجاد مركز للتدبير التشاركي للتراث، يهدف إلى التعريف بالتراث المحلي، وإدراجه ضمن المسلسل التنموي بشكل عام، جنبا إلى جنب مع الساكنة (أهل العرائش)، وهو الأمر الذي استدعى تنظيم أكثر من 8 ورشات تقنية، تطبيقية ونظرية، تقدم سبل الحفاظ على التراث وتنميته. عرفنا أن هذه المشاريع تتم برعاية المبادرة الوطنية للتنمية البشرية بإقليم العرائش، داعمًا ماديا للمشروع، والإدارة المحلية للثقافة بالإقليم، وبشراكة أيضا تقدم الدعم المادي والتقني من برنامج الأمم المتحدة للإنماء، ومؤسسة (سيريم) للبحث والدراسة في البحر الأبيض المتوسط ومقرها برشلونة، وهي تعمل بتنسيق كبير كذلك مع بلدية برشلونة. طالعنا خرائط تفصيلية للمشاريع في مدينة القصر الكبير التراثية، مطالعة سبقت زيارتنا إلى مدارسها، التي تبدو على الخريطة باللون الأرجواني، ومساجدها (اللون البرتقالي)، وزواياها وأضرحتها (اللون الأخضر)، ومجمعاتها التجارية (اللون الأزرق)، ومناطقها السياحية (اللون الذهبي)، وبيوتاتها التقليدية (اللون الوردي).

عرفنا أيضا أن هناك في العرائش مشروعا ـ لم يكتمل بعد ـ يعيد الاستفادة من إحدى التحصينات التاريخية، وهو البرج المطل على البحر، ويسمى حصن القبيبات، لتحويله من قبل إحدى الشركات الخاصة إلى فندق، وهذا ضمن مجموعة من المشروعات التي تحاول إعادة تأهيل العمارة التقليدية لتكون مزارا سياحيا له فائدة تنموية للمحيط البشري، ليس فقط كفنادق، ولكن أيضا كمقاه، ووحدات صناعات تقليدية. الجميع حاضر في معادلة التنمية، المؤسسة الوطنية، والأفراد الواعون للمشروع الحضاري، وكذلك الأجانب المقيمون ممن لديهم أفكارهم وصلاتهم مع الآخر الممول لبعض هذه المشروعات. وهو ما دفع البلدية لتقديم الدفع اللازم للاستثمار في المجال الثقافي المبني على خلفية تراثية، جنبا إلى جنب مع مؤسسات المجتمع المدني التي تؤدي دورا مهما ـ بحسب رأي العربي المصباحي ـ للمحافظة على التراث بشكل جديد، يضيف للحركة السوسيوـ اقتصادية للمدينة، وتكمل طيف الرعاية للمشروعات المماثلة التي تقدم لها الإدارة الرسمية الغطاء الرسمي والقانوني.

لا يشعر العربي المصباحي بأي تخوف من التأثير السلبي للسياحة، على البنية الخاصة بالعرائش التاريخية والتراثية، فالمدينة لم تصل بعد إلى هذه المرحلة، وهذه المشروعات هي لجعل السياحة عنصرا من عناصر التنمية المحلية.

سرني اهتمام المملكة بالصناعات التقليدية والحرف اليدوية، حتى أنني رأيت أثناء زيارتي للمدينة إعلانا ملونا بحجم ربع الصفحة بالصحف اليومية تدعو فيه كتابة (وزارة) الدولة المكلفة بالصناعة التقليدية الصانعات والصناع التقليديين للتقدم إلى الجائزة الوطنية لأمهر الصناع التقليديين في فروع الديكور والأثاث والمجوهرات والألبسة.

كان الحديث في ساحة دار المخزن، نسبة إلى البناء ذي الصومعة الذي كان مسكن ممثل السلطة الرسمي بالمدينة منذ القرن الخامس عشر، (يسمى بالإسبانية كوماندانسيا، وهو مقر السلطة العسكرية، كما أصبح في فترة الحماية الإسبانية في بدايات القرن العشرين). المكان أعيد بناؤه بشكل جديد خلال القرن السابع عشر ـ خلال حكم السلطان العلوي مولاي إسماعيل ـ ليؤكد على هويته كدار ممثل السلطة المركزية، وكانت الدار مع بعض الوحدات التابعة لها تمثل مجمعا إداريا وعسكريا يحرس القصبة، وهي الحي السكني القديم بالمدينة، التي ترجع إلى الفترة الوطاسية، بالتحديد في العام 1471ميلادية، وهو الذي نقل مدينة العرائش من موقعها التاريخي الفينيقي في الليكسوس إلى موقعها الحالي، بعد إفراغ الليكسوس من أهلها ليسكنوا القصبة. ربما يكون أحد الأسباب ـ كما تقول فرضيات علمية وتاريخية ـ هو ندرة الماء في الضفة الأخرى ـ حيث الموقع القديم على ربوته الترابية اليوم ـ مما عجل بهذه النقلة الديموغرافية والجغرافية في القرن الخامس عشر، إلى الموقع الحالي المشهور بعيونه المائية. وفي القصبة لايزال السوق الصغير، كما يسمى، أقدم الأسواق التي لاتزال تستقبل زوارها منذ القرن الثامن عشر، واهتم سيدي محمد بن عبد الله، وهو أحد السلاطين العلويين، بإنشاء السوق والمسجد الأعظم ومدرسة تقليدية (أصبحت فندقا) ومرافق أخرى لكون العرائش مرفأ مهما على المحيط الأطلسي.

معالم القصر الكبير

كنا نغادر صحبة المصباحي، من الموقع الذي يشاع خطأ أن اسمه البرج اليهودي! وهو برج يطل على البحر، بني خلال فترة الحماية الإسبانية الأولى في القرن السابع عشر، بعد العام 1610ميلادية الذي شهد احتلال العرائش، ليكون مراقبا للبحر وللمدخل الرئيسي للمدينة، وهذه التسمية التي تعزوه لليهودي تعود للرواية الشفهية، لاعتقاد العامة بوجود طبيب له أصول يهودية يرعى السلطان السعدي إبان القرن السادس عشر، أثناء معركة وادي المخازن الشهيرة، وأنه كان يسكن هذا البرج.

العمارة في المدينة العتيقة ـ كما تبدو للزائر ـ تشي بتأثرها الكبير بالعمارة الغربية. وهو أمرٌ مرده أيضا لفترة الحماية الإسبانية الأولى في القرن السابع عشر، وهو ما جعل المدينة تمر بتحول عمراني له خصوصيته.

الأمر اللافت في القصر الكبير حين تدرس الزوايا والأضرحة هو شيوع اللونين الأبيض والأخضر، إلا من بعض الاستثناءات، سواء في الباب، أو القبة، أوالأعمدة النحيفة، أو الجدران. هكذا كان الأمر في زاوية سيدي قاسم بن زبير، وزاوية التيجانية، وزاوية فاطمة الأندلسية، وزاوية البدوية الناصرية، وأضرحة سيدي بوغالب، وسيدي بلعباس، وللا فاطمة بن أحمد (المتوفاة في 1050 للهجرة كما يقول الشاهد). سيضاف اللون الأزرق في عمارة الفنادق والحمامات المرممة، كفندق العطارين والطود وحمام سيدي ميمون. لاتزال بعض الحمامات المهملة تحتاج إلى ترميم كبير. وسنجد البيوت والمدارس والأسواق أسعد حالا، ربما بالرعاية الفردية التي حافظت عليها على مدى عقود، مثل سوق سبتة، ودار الدباغ، ودرسة سيدي بوحمد والمركز الثقافي، لكن الأماكن التاريخية التي نالت الاهتمام الأكبر كانت المساجد، هكذا تقول لنا عمارة مسجد أبي حديد، ومسجد السويقة، ومسجد سيدي منصور، ومسجد السيدة وغيرها (الذي يعد من أجملها بمشربياته الخشبية وأقوسته الهندسية، وجدرانه البيضاء).

نهار الميناء ومساؤه

عدد سكان العرائش، طبقا لإحصاء 2004، هو 472.386 نسمة، وبما أن مساحة العرائش هي 450 كلم² (من 2783 كيلومترًا مربعًا هي مساحة الإقليم كله) فإن نسبة الكثافة السكانية تبلغ 230.3 / كلم². في الشرق منها شفشاون، وفي الجنوب القنيطرة، وفي الشمال تطوان وطنجة وأصيلة، وفي الغرب، بالطبع، المحيط الأطلنطي بواجهة بحرية تبلغ 56 كيلومترًا طولا. هذا الشاطئ، مع التكوين الجغرافي الطبيعي للميناء، يعني ارتباط السكان بالصيد، والمهن البحرية، ولهذا كانت رحلة أو أكثر للميناء العرائشي ضرورة.

لدى وصولنا المبكر بدا نهار الميناء الصغير هادئا، وكسولا. شباب يصلح الشباك التي اهترأت من رحلة صيد سابقة. صندوق أسماك صغير ينتظر مشتريا فاتته أسواق الصباح المبكرة. مراكب تتهادى داخلة المرفأ لتنعس مع أصحابها بعد مفازة بحرية صعبة. لم تكن الوجوه مستبشرة، كأن هناك ألما ما. تبدو المراكب بدائية بعض الشيء، وربما يمكن وصف أغلبها بأنها قديمة. فوق سطح المركب الكبير يتجمع عشرات البحارة، ينتظرون بوصلة اليوم، التي ستحدد مكان الصيد.

الشباك المتكدسة تحتاج إلى سحرة مهرة لكي يفكوا طلاسمها لينطلقوا بعد إشارة البدء، وفي قلب المركب، يختفي في العنبر فريق آخر من البحارة مهمته وضع ما صاده الرفاق من الأسماك في الصناديق المخصصة، مع الثلج الحافظ لها، لضمان وصولها طازجة. على الربان أن ينتبه حين يعود الجميع، ليعبروا مدخل الميناء الذي سماه الإسبان: لا بوكا دي ليون، أي (فم السبع) بسبب شراسة الجغرافيا التي قد تقلب المركب وما حمل.

في الليل، تسكن المركب المرفأ، وينقل بحارتها صناديق الأسماك إلى (لوخا)، وهو الاسم الذي يطلقونه على المكتب الوطني للصيد البحري. هناك ستسمع الكثير من الشكوى، من الجميع. كانت العبارات تدين الكل، اللوخا، والصيادين، وأصحاب المراكب، وخطورة المرفأ، ومياه المحيط أيضا.

الكل يتحدث عن كثرة الحوادث للباحثين عن السمك؛ الذهب الأزرق، ربما ليس فقط بسبب الموج الهادر، ولكن بسبب المراكب المهترئة التي تفتقد لعنصر الأمان وتقنياته. الكل يشكو من قلة ما يأخذون (من نحو 80 ألف درهم قد تحصده الرحلة البحرية الواحدة لا يتجاوز نصيب البحار 300 درهم!) أما الخطر الحقيقي على الثروة السمكية فهو في استخدام الضوء الباهر لجذب أسماك الصيد، وهو ما يعني أن مقابل كل صندوق أسماك هناك 400 صندوق من الأسماك الصغيرة تقتل بسبب هذه الأشعة، مما يعني خسارة دامية على المدى الطويل. فضلا عن البطالة التي تطول الكثيرين فيظلون أسابيع بلا عمل.

لعل الوضع الاقتصادي يختلف حين ننظر للفلاحة، وخاصة بسهل حوض نهر اللوكوس، إحدى المناطق الزراعية الرئيسية بالمملكة المغربية، ومساحته الإجمالية 256.000 هكتار، منها 47.300 هكتار صالحة للزراعة. يتميز الإنتاج الفلاحي بالمنطقة بتنوع في الإنتاج النباتي والحيواني وتساهم منطقة اللوكوس بنسبة 80% من الإنتاج الوطني من توت الأرض، و7% من الخضراوات و15% من السكر و7% من الزيوت و8% من الحليب و10% من العسل.

في ساحة التحرير

بقلب المدينة، تدخل القلب ساحة التحرير، بفضل جماليات عماراتها التي تقدم كل منها ـ حسب ما يرصد دليلنا ـ صورة من صور العمارة الأندلسية، فهذه من ألميريا، وتلك من قرطبة، وهذه غرناطية، وهكذا.

كانت الساحة بمنزلة بطاقة بريدية أندلسية مرسلة إلى سكان العرائش، لكن العمائر هذه ليست تحظى بما تستحق من ترميم واهتمام، والأغرب أن هذه الهندسة الموريسكية الجديدة مهددة بالانهيار، بل إن إحدى هذه العمائر هدم بالفعل، وشيدت أخرى محلها سدت فضاء البحر تعادي العمارة التي أقيمت محلها، فبدت نشازا هجينا.

كانت جلستنا في الساحة مع نخبة من رجالات المدينة، يتصدرهم البروفيسور عبدالإله أصوادقه رئيس جمعية عبد الصمد الكنفاوي التي صادف أنها تنظم بالعرائش الموسم الأول من مهرجان المسرح والفنون الشعبية. لم تكن الفنون المحلية وحدها حاضرة، بل كذلك تحدث الجميع عن عرض الليلة الماضية لمجموعة الفلامينكو الإسبانية «لاروبا فييخا». وهكذا، مرة أخرى وليست أخيرة، سيكون الحس الأندلسي حاضرا في الأدب والفن والحياة.

أتى الشورو مع إحدى الأمسيات إلى المائدة مع الشاي والقهوة والعصائر. (الشورو ـ لمن لم يعرفه مثلي قبل زيارة العرائش ـ هو مخبوزات خفيفة، تجدها مثل سيقان طويلة ولينة من البسكويت، وهي فريدة الشكل هنا، مقابل شقيقاتها المستديرات من الشورو في مدن مغربية أخرى). على المائدة دار حديث عن الميدان والحياة وتحولاته، وأتت مجموعة من الكتب المهداة، بالعربية والإسبانية، وكأن مائدة الفكر هنا ذات لسانين. لم يكن ذلك اللقاء الوحيد مع البروفيسور، فقد التقينا في شرفة على الأطلسي، وفي منزله، وفي المدرسة التي درس بها الروائي محمد شكري، وساعد البروفيسور في ترميمها؛ مدرسة المعتمد بن عباد، التي كرمت البروفيسور في عادة سنوية تختار أبناءها الذين برزوا في الحياة.

في منزله، حدثنا البروفيسور عن الكنفاوي (1928 ـ 1967) الذي تحمل الجمعية اسمه، والذي درس في العرائش وطنجة والرباط ليصبح مع الطاهر وعزيز مؤسسا لأول فرقة محترفة، سميت رسميا فرقة المسرح المغربي، من طرف الأمير الحسن في 3 فبراير 1956 ميلادية، وقد أصبح الكنفاوي مدير فرقة المسرح في المهرجان الدولي للمسرح ساره برنار في باريس بالعام نفسه، وشغل مناصب كثيرة، وكتب نصوصا أكثر، لكن أطرف ما قرأتُ له كتابًا أصدرته الجمعية ـ ضمن مجموعة مؤلفاته ـ للأمثال الشعبية، دون فيه 485 مثلا شعبيا، باللهجة الدارجة، وترجمتها إلى الفرنسية. يقول، مثلا: اللي زرع الشوك، كيمشي فيه بالحفي (من زرع الشوك سار عليه حافي الأقدام)، وإضافة (الكاف) في أول اللهجة المحكية متكررة، وإذا استبدلناها بقولنا (مثل الذي)، بانت لنا أمثلة عديدة:

كَيطلي وجْهُ بالفَحْم وكيقول مُعلِّم حدَّاد، كيزيد في الرباب فتلة (وتر) والطنبور نغمة، كيحشم من خياله (مثل الذي يخاف من ظله)، كتفشار بسوالف جارتها (مثل التي تحكي ما جرى لجارتها كأنه جرى معها)، وتكرار الكاف مثل تكرار (حتى) كثيرٌ في أمثال الكنفاوي، مثل: حتى كال واتكى، عاد قال هد الخبز بلا مسكة (بعد أن انتهى من طعامه واتكأ شبعا، قال إن الخبز لم يكن ذا طعم!)، ولعلي أختتم بمثل أعجبني يحمل حكمة السنوات ونكهة اللغة المحكية: الجماعة تفرقت (أي ذهبت الأسنان لأنها كانت معا)، والقريب صار بعيدًا (أي ضعف البصر)، والبعيد صار قريبًا (للموت)، وجوج ولو ثلاثة (والاثنان أصبحا ثلاثة، إشارة للقدمين و زيادة العصا عند الهرم!).

بالمدينة عبرنا السوق المركزية وتسمى البلاصا، وتضم محال الفاكهة والخضراوات، والأسماك واللحوم، وقد بني من قبل الإسبان في عهد الحماية الثانية، ووضع حجر الأساس له، سنة 1924ميلادية، المهندس أندريس جالمبس نادال، واستأنفه بعده بعام المهندس ليون أورزايس، مهندس مجلس الأعمال المحلية، والذي قام بإدخال بعض التغييرات الخارجية عليه، وقد انتهت عملية البناء سنة 1928 ميلادية.

وقفة تاريخية

لدى محدثينا تعددت الإشارات إلى الحماية الإسبانية، ومن المهم أن نراجع التاريخ المعاصر الذي سبق الاستقلال في 1956 ميلادية لكي نبرر هذا التعدد العمراني في المدينة، ونفسر الحضور اللغوي أيضا. فقد رأيت واقتنيت مؤلفات عربية وإسبانية واستمعت إلى قصص ومرويات شعبية، تؤكد كون العرائش ميناء أندلسيًا على المحيط الأطلسي.

في البداية نحن نعرف أن إسبانيا بدأت تحتل منطقة الريف على مقتضى اتفاقها مع فرنسا سنة 1904ميلادية، فثار الشريف أحمد الرسولي (من قبيلة بني عروة) على السلطان واختطف القنصل الأمريكي وعائلته. وقد عينه السلطان عبد الحفيظ بعد ذلك حاكمًا على الجبالة من سكان الريف، وسهل نزول القوات الإسبانية في ميناء العرائش في سبتمبر 1911ميلادية، طمعًا في أن يعترف له الإسبان بالاستقلال بإدارة الجبالة، فيتولى منصب خليفة السلطان في منطقة النفوذ الإسباني. لكن خاب ظنه، حيث عين السلطان أحد أقاربه خليفة في تطوان سنة 1913 ميلادية، واحتل الإسبان مدينتي أصيلة ثم تطوان في السنة نفسها. وخلال الحرب العالمية الأولى عقد الإسبان هدنة مع الرسولي سنة 1915 ميلادية، فبقي حاكمًا على إقليم الجبالة.

اتصل الرسولي بالألمان أثناء الحرب، مما جعل إسبانيا تغير سياستها معه إرضاء لفرنسا وتتوغل في إقليم الجبالة، فتحتل شفشاون في شهر أكتوبر 1920 ميلادية، بعد تكبدها خسائر فادحة. لكن الرسولي فضل التعاون مع الإسبان رغم ذلك على أن يخضع لمحمد بن عبد الكريم الخطابي، إلى أن تمكن الخطابي من طرد الإسبان وأسره سنة 1925 ميلادية. وقد بدأ الخطابي حركة المقاومة بعد أن استولت إسبانيا على شفشاون وأخذت تركز قواتها على بلاد الريف، فانتصر عليها عند إبرن في سنة 1921 ميلادية، وشجعه ذلك الانتصار على مهاجمة المراكز الإسبانية الأخرى، وساهمت انتصاراته في توسيع نفوذه بين الأهالي وتدعيم زعامته لقبيلة ورياغل التي انتقلت إليه بعد وفاة أبيه سنة 1920 ميلادية.

وفي 27 نوفمبر 1912 ميلادية وقَّعَتْ فرنسا اتفاقية مع إسبانيا لاقتسام المغرب بينهما. وقد ميزت الاتفاقية بين قسمين في منطقة النفوذ الإسباني من حيث وضعهما القانوني، فيشمل القسم الأول جيبي سبتة ومليلة ومنطقة إفني في الجنوب حيث تمارس إسبانيا حقوق السيادة من دون قيد، ويشمل القسم الثاني شمال المغرب من الحدود الجزائرية إلى نقطة جنوب ميناء العرائش على ساحل الأطلسي تستمد إسبانيا وجودها فيه من معاهدة الحماية بين فرنسا والسلطان، ويمثله به خليفة يقيم بتطوان ويخضع لإشراف الإدارة الإسبانية، كما يخضع هو نفسه للإقامة العامة الفرنسية، وتمارس فيه إسبانيا صلاحيات الحماية. كما تؤكد الاتفاقية على جعل طنجة منطقة محايدة، ثم تطور أمرها إلى التدويل في ديسمبر 1923 ميلادية. وبذلك أصبح المغرب الأقصى في عهد الحماية مقسمًا إلى أربع مناطق تختلف كل منها عن الأخرى من حيث الوضع القانوني. وفي منطقة الحماية الفرنسية، قسم المقيم العام إدارة المغرب إلى ثلاثة أجهزة هي: إدارة المخزن التي احتفظت بطابعها القديم، والإدارة الشريفية الجديدة التي يقوم بها مثقفون مغاربة لإدارة الشئون الفنية الخاصة بالأهالي، والإقامة العامة التي تهيمن على سياسة البلاد العليا في مجالات الخارجية والدفاع والأمن العام. ولم يبق في مجلس الوزراء سوى ثلاثة مغاربة، هم الصدر الأعظم الذي انتقلت معظم اختصاصاته إلى الكاتب العام للحماية، ووزير العدل الذي صارت سلطاته الحقيقية على المحاكم الشرعية والمعاهد الدينية بيد رئيس مراقبة العدل بالإدارة الشريفية، في حين كانت إدارة العدل فرنسية محضة، ووزير الأوقاف الذي كانت سلطته الفعلية بيد موظف فرنسي لدى الإدارة الشريفية، في الوقت الذي وضعت فيه إدارات الفلاحة والمالية والأشغال العامة والبريد والصناعة بأيدي مديرين فرنسيين يديرونها إدارة مباشرة. كما عين مراقبون فرنسيون خارج العاصمة بالجهات لمراقبة الباشوات وقادة الأقاليم المغاربة.

تأثيرات خارجية

في ظل هذه الإدارة، دخل المغرب الأقصى مستوطنون زراعيون فرنسيون وأصحاب حرف ورجال أعمال وتجارة، ورغم أن المقيم العام ليوتي لم يكن يشجع الهجرة، فقد بلغت مساحة الأراضي التي امتلكها فرنسيون في عهده 400 ألف هكتار. وقد فتح باب الهجرة والاستيطان بعده على مصراعيه، فاستغل مستوطنو الجزائر سهل الملوية في الشرق، وتركز عدد كبير من المعمرين في سهل الشاوية. وفي أبريل 1919 ميلادية، استصدرت الإقامة العامة ظهيرًا بجواز استغلال أراضي القبائل غير المزروعة في مقابل إيجار رمزي، وبلغت الملكيات الأوربية في الأربعينيات من القرن العشرين نحو مليون هكتار استأثرت بنصيب الأسد في توزيع المياه، ما أوقع ضررًا كبيرًا بالزراعة الأهلية. كما قامت شركات رأسمالية فرنسية خاصة بالبحث عن الثروات الباطنية واستغلت مناجم للفوسفات والمعادن كالحديد والمنجنيز والرصاص والكوبالت والنحاس وغيرها بالمغرب.

معركة وادي المخازن.. حطين الغرب الإسلامي

لكن من بين التاريخ كله ـ قديمه وحديثه ـ يذكر الجميع في العرائش بفخر معركة وادي المخازن. فبعد احتلال البرتغاليين لمدينة سبتة، دشنت حملة أخرى موازية لحملة الصليبيين إلى الشرق الإسلامي، ضمت جيوش الغزاة برعاية الفاتيكان البرتغاليين والإسبانيين والألمان والإيطاليين. وأمام نهر وادي المخازن قرب مدينة القصر الكبير كانت معركة سميت فيما بعد (معركة الملوك الثلاثة)!

كان السلطان المغربي آنذاك وهو أبو مروان عبدالملك المعتصم بالله السَّعدي، وأخوه أبو العباس أحمد المنصور، قد أعدا للغزاة مقبرة استثنائية. أما الغزاة فقد كانت تحركهم أهواء الإنقضاض على الثروات الإفريقية، خاصة ما تنامى لمسامع هنري حاكم سبتة البرتغالي عن وجود مناجم الذهب في غانا. وقد أراد ملك البرتغال الشاب «سبستيان» القيام بعمل سياسي ديني يمحو ما وصم به عرش حكم أبيه يوحنا الثالث من ضعف وتخاذل أدى لانسحاب البرتغاليين في عهده من عدد من المناطق، فعبأ معه اثني عشر ألفًا من البرتغال، كما أرسل إليه الطُّليان ثلاثة آلاف، ومثلها من الألمان وغيرهم عددًا كثيرًا، وبعث إليه البابا صاحب روما بأربعة آلاف أخرى، وبألف وخمس مئة من الخيل، واثني عشر مدفعًا، وجمع «سبستيان» نحو ألف مركب ليحمل هذه الجموع إلى العدوة المغربية، رغم تحذير فيليب الثاني ابن أخته عاقبة التوغل في أرض المغرب.

أبحرت السفن الصليبية من ميناء لشبونة باتجاه المغرب وأقامت في «لاكوس» بضعة أيام، ثم توجهت إلى «قادس» حيث أقامت إسبوعًا كاملاً ثم رست «بطنجة»، وفي طنجة وجد «سبستيان» حليفه المتوكل، ثم تابعت السفن سيرها إلى «أصيلا»، وأقام «سبستيان» بطنجة يومًا واحدًا ثم لحق بجيشه. ودوت في كل أنحاء المغرب صرخة واحدة كما يقول الباحث ناصر بن محمد الأحمد (اقصدوا وادي المخازن للجهاد في سبيل الله). وأشار المتوكل على سباستيان أن يتقدم لامتلاك «تِطَّاوين والعرايش والقصر».

ثم كتب عبدالملك لأخيه أحمد المنصور وكان نائبه على مدينة فاس وأعمالها أن يخرج بجند فاس وما حولها، ويتهيأ للقتال، ثم كتب إليه أيضًا في شأن مؤونة الجيش، وهكذا سار أهل مَرَّاكش وجنوبي المغرب بقيادة عبدالملك المعتصم بالله، وسار أخوه أحمد المنصور بأهل فاس وما حولها وكان اللقاء قرب محلَّة القصر الكبير. كان الجيش البرتغالي 125.000 مقاتل وما يلزمهم من المعدات مع ألوف الخيل وأكثر من أربعين مدفعًا، وكان معهم المتوكل بشرذمة تتراوح ما بين 300 إلى 600 رجل. وكان الجيش المغربي بقيادة عبدالملك المعتصم بالله 40.000 مجاهد يملكون تفوقًا في الخيل، ومدافعهم أربعة وثلاثون مدفعًا فقط.

اختار عبدالملك المعتصم بالله القصر الكبير مقرًا لقيادته، وخصص من يراقب تحركات «سبستيان» وجيشه بدقة، ثم كتب إلى «سبستيان» مستدرجًا إياه إلى ميدان المعركة التي اختار: «إني قطعت للمجيء إليك ست عشرة مرحلة، فهلا قطعت أنت مرحلة واحدة لملاقاتي؟» فنصحه رجاله والمتوكل أن يبقى بأصيلا، ليبقى على اتصال بالمؤن والعتاد والبحر، ولكن تشوق «سبستيان» إلى الحرب وغروره بمن معه من قوات ومدفعية، جعله يرفض نصيحة أركانه فتحرك قاصدًا القصر الكبير، حتى وصل الضِّفة الشمالية لوادي المخازن فشاهد طلائع الجيش المغربي المسلم متجهة نحوه. عبر «سبستيان» ومن معه جسر وادي المخازن حيث خيَّم قُبَالة الجيش المغربي وفي جنح الليل، أمر عبدالملك أخاه أحمد المنصور في كتيبة من الجيش بنسف قنطرة جسر وادي المخازن إتمامًا للخطة التي وضعها، فالوادي لا معبر له سوى هذه القنطرة.

وفي صباح الاثنين 30 جمادى الآخرة سنة 986هـ (في 4 أغسطس 1578ميلادية) انطلقت عشرات الطلقات النارية من الطرفين كليهما إيذانًا ببدء المعركة، ورغم تدهور صحة السلطان عبدالملك المعتصم بالله الذي رافقه المرض وهو في طريقه من مَرَّاكش إلى القصر الكبير، خرج بنفسه ليرد الهجوم الأول، ولكن المرض غالبه فغلبه، فعاد إلى محفَّته، وما هي إلا دقائق حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، ومات وهو واضع سبابته على فمه، مشيرًا أن يكتموا الأمر حتى يتم النصر. ومال أحمد المنصور بمقدمة جيش المغاربة على مؤخرة البرتغاليين، وأوقدت النار في بارودهم، واتجهت موجة مهاجمة ضد رماتهم أيضًا، فلم يفق البرتغاليون لقوة الصدمة، فتهالك قسم منهم صرعى، وولَّى الباقون الأدبار قاصدين قنطرة نهر وادي المخازن، فإذا هي أثر بعد عين، نسفها المسلمون بأمر سلطانهم عبدالملك المعتصم بالله، فارتموا بالنهر فغرق من غرق، وأُسر من أسر، وقتل من قتل. وصُرع «سبستيان» وألوف من حوله. وحاول المتوكل رمز الخيانة، الفرار شمالاً، فوقع غريقًا في نهر وادي المخازن، ووجدت جثته طافية على الماء.

دامت المعركة أربع ساعات وثلث الساعة، وبويع أحمد المنصور بعد انتصار وادي المخازن. ثم كتب إلى القسطنطينية مقر السلطنة العثمانية يعلم السلطان مراد خان الثالث العثماني وإلى سائر ممالك الإسلام المجاورين للمغرب، بإخفاق الغزو البرتغالي الصليبي لأرض المغرب واستئصال شأفته، فوردت عليه الرسل من سائر الأقطار مهنئين مباركين. وقدمت رسل السلطان العثماني ومعهم هديته، وبعدها جاءت رسل ملك فرنسا، والأرسال تصبح وتمسي على أعتاب تلك القصور. وكان سر تسمية معركة الملوك الثلاثة هو وفاة ثلاثة ملوك، اختلفت نهاياتهم، فالملك الأول هو البرتغالي «سبستيان»، والثاني خائن غريق استخرج الغواصون جثته من نهر وادي المخازن، والثالث عبدالملك المعتصم بالله، الذي استشهد وبقيت سيرته حية تحكي إخلاصه وحكمته وشجاعته وفروسيته، ومثلما كانت حطين في الشرق الإسلامي انتصارا على الصليبيين، أصبحت شقيقتها في وادي المخازن معادلا تاريخيا لها.

شرفة على الأطلسي

أمام مقهى يسمى بالإسبانية (شرفة على المحيط الأطلسي)، وكأنه يصف العرائش نفسها، صحبنا دليلنا لنشاهد حصن القبيبات (نسبة لقبابه الصغيرة)، الذي يقع فوق مقر الحراسة القديم المشرف على المحيط الاطلسي ومدخل نهر اللوكوس بجوار حي القبيبات بالمدينة القديمة، وهو من الحصون القديمة التي كانت تمتاز بها المدينة، حيث أمر السلطان أحمد المنصور ببناء حصنين جديدين خلال القرن السادس عشر الميلادي، وتحتل هذه القلعة مكان قلعة النصر التي شيدت في العصر الوسيط، وقد روعي في عمارة الحصن الأسس الفنية السائدة في إيطاليا آنذاك، فقد قال لي محدثي أن مصممها أسير إيطالي! أخذ حصن القبيبات عدة أسماء واستعمل كمستشفى مدني في عهد الإسبان إلى أن امتدت إليه يد الإهمال فلم يبق منه إلا الأطلال، وحديث الأمل في أن يعود فندقا كما قال لي محدثي الأول الأثري بداية الرحلة.

في مساء ثان، كان لنا موعدٌ جديد مع البروفسور في منزله، ولقاء متجدد مع الحضور الأندلسي بالعرائش. لم يكن ذلك في العشاء الذي تضمن وجبة البايه الأندلسية الشهيرة، ولكن أيضا في متعة عزف على الجيتار للفنان الكبير العدلوني صدوقه، هكذا تجاور الدوكالي مع أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ، وبينهم كان اللقاء مع منتخبات إسبانية، وكان ختامها مع (مانويلا) خوليو إجلسياس: مع حلول الليل والأحلام، تكون العيون السود، لمانويلا حبيبتي..

يغني العازف البارع بالإسبانية صادحا وسط إعجاب الجميع، أسمعه وأنا أخرج لأطل من الشرفة التي تواجه الأطلسي. هنا كلٌّ يغني على (مانويلاه)؛ الشباب العائد من أوربا في إجازة لبلده العرائش، البحارة الذين تجاوزا فم الميناء إلى عرض الماء بحثا عن الرزق، السيارات التي تحمل الزهور على ظهرها لتشي بالعرسان فيها تتبعهم قافلة المهنئين، بائعو الشورو، الصخب الجميل، والنوارس التي تحلق فوق حصن القبيبات. كان المشهد موزاييك مختلطا، لعل الصورة أبلغ ما يعبر عن العرائش اليوم، ذلك الميناء الأندلسي، على المحيط الأطلسي، الذي يحاول أن يجدد شباب عمارته، ويحفظ سيرة نضاله، ويؤمِّن مستقبل أبنائه.

 

 

أشرف أبو اليزيد