هو . . . . هي

الشيطان في الديوان

لا أدري لماذا تضع سامية نفسها في قفص حديدي، تأتي إلى المكتب مبكرة، لا نكاد نسمع منها غير تحية الصباح، ثم تغرق في الأوراق حتى إذا صادفت ما يستحق السؤال، كل ساعة أو ساعتين رفعت رأسها تسأل، ثم تغرق مرة أخرى، بعيدة عن الحجرة ومن فيها.

أفهم أنها لا تحب الثرثرة، وأنها جادة في عملها، ولكن لماذا يبرز ذلك في مواجهة الرجال وحدهم، فإذا جاءتها صديقة أو زميلة تغير الأمر؟.

ترتدي الحجاب وهذا حقها، ولكن ما العيب وما الحرام حين تتحدث مع زميلها في المكتب، حين تفصح عن شيء مما بنفسها أو تستمع لشيء مما في نفسه، حين تقيم علاقة إنسانية بها بعض المصارحة، حتى عن الحياة الخاصة وما قد يصادف الإنسان من متاعب يومية تحتاج إلى أن يبوح بها، أو يناقشها مع الآخرين؟.

أذكر أنني تشاجرت مع زوجتي ذات صباح، وذهبت إلى العمل غاضبا ثائرا، أريد أن أفرغ ما في صدري تحدثت معها، شرحت كيف أن زوجتي عصبية، سريعة الانفعال سريعة الخطأ وسألتها: هل هذه هي طبيعة كل النساء؟ .. ثم انتظرت ردا، شرحا، شيئا يقلل من انفعالي لكنها نظرت لي في بلاهة، وابتسمت، ثم عادت تنظر في الأوراق. هل تحتقر ما أثرثر به؟ هل تظن أنني أحكي عن زوجتي لأستبدل علاقة بعلاقة؟ لم أفهم، لكنني قلت لنفسي: زوجتي العصبية خير من زميلتي التي تضع نفسها في القفص كل يوم وتحكم إغلاقه طوال فترة العمل، ولكن أمام الرجال وحدهم!

نعم، العقدة مع الرجال، وما زالت أتذكر عندما أغلق أحدهم باب الغرفة فباتت تضمنا وحدنا، وقتها قامت فجأة صرخت، استشاطت غضبا، تحدثت مع نفسها بصوت مرتفع: "وهل هذا معقول؟!"، وكانت كأنها تقول "ما اجتمع رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما".. ولكن هل يأتي الشيطان إلى الدواوين والمكاتب ، نهارا، جهارا؟ هل يتسلل بين الأوراق ويلعب لعبته بين زميل وزميلة اجتمعا على عمل في مكان عام تحت بصر الجمهور؟

أحار في شخصيتها وأتساءل: أليست هناك مساحة ود بين الزميل والزميلة؟ أليست الزمالة الطويلة نوعا من الصداقة؟ وماذا يعيب الرجل والمرأة أن يتحولا إلى صداقة بريئة، وأن تتقارب نفساهما، أن يحدث بينهما نوع من التفاهم؟. أم أنهما كالمكاتب والملفات وسائر القطع المكتبية توجد بلا إحساس، تؤدي وظيفتها بلا حياة أو حيوية، لأن الرجل - في نظر بعضهن - "رجس من عمل الشيطان".

لسنا قطعا مكتبية، نحن زملاء، أصدقاء بالضرورة، ولكن هل تقتنع؟

هو..

نساء في النهاية

زميلي سامي موظف غريب الأطوار، ما إن يدخل إلى المكتب حتى يرفع سماعة التليفون، وما يكاد ينتهي من المكالمات الصباحية حتى يبدأ في الثرثرة.

إنه يتحدث مع الزملاء، فإذا لم يجد أحدنا، تحدث مع الجمهور، فإذا تعذر ذلك تحدث مع نفسه، ولو بأغنية سمعها من المذياع في المساء.

على أي حال فإن ذلك لا يهمني، فأنا جادة في عملي، منكبة عليه، لا يشغلني عنه شيء، كل ما يهمني هو نظرته لي التي تؤلمني كثيرا، فلست بامرأة رجعية كما يشيع، ولست عدوة للرجل كما يظن، أنا امرأة عادية، لكنني أفصل بين العام والاص في حياتي، بين عملي وبيتي، حتى أن زملائي لا يعرفون عن الجانب العائلي في حياتي غير أنني "أم أحمد".

أذكر أنه قد حاول مرة أن يحكي لي بعض همومه، أن يشكو لي أمر زوجته ومشاجراتهما الصباحية، يومها نظرت له وابتسمت ولم أعلق، انصرفت إلى عملي، كنت أريد أن أقول به: وما شأني بما تفعله امرأة أخرى؟ وماذا استطيع أن أفعل في موقف لست طرفا فيه؟ ثم هل من حق أي زميلة أن تختلس النظر وتسترق السمع لما يجري في حياة الآخرين؟ أليس في ذلك الحديث - وبصرف النظر عن أنه بين رجل وامرأة - نوع ن الغيبة التي حرمها الإسلام؟

ثم ما هي حدود تلك الزمالة التي يتحدثون عنها، والتي تبيح لبعضهم مسامرة الرجال طوال اليوم، وطرح همومهم أمام كل من هب ودب؟ أظن أن الزمالة غير الصداقة، والصداقة على أي حال لا تكون بين رجل وامرأة، فتلك بداية الانزلاق لطريق لا يعرف مداه إلا الله.

أصدقئي، أقصد صديقاتي كلهن من الجنس الناعم عدا واحد فقط هو زوجي العزيز، وقبله كان أبي، وكلا الاثنين لا استطيع أن أقول إنني أبوح بشيء مما يحدث بيننا لرجل آخر.

نعم حياة الديوان شيء مختلف، تطول الساعات أو تقصر، أقضي في المكتب من الساعات مثلما أقضي مع زوجي وأبنائي إذا استبعدنا ساعات النوم، ولكن تبقى للعمل خصوصيته، ولا يمكن أن يكون منزلقا "لكلمة ، فدعابة، فقصة فامتزاج يسقط كل ما هو خاص وانثوي".

أصدقائي - أعني صديقاتي - في المنزل.

زملائي في المكتب.

وفي الحالين لابد من سياج، سياج المنزل ليلف كل ما فيه ويحافظ عليه، وسياج العمل ليفصل بيني وبين هؤلاء الرجال الذين لا ينسون أننا نساء في النهاية.

.. هي