المعلوماتية العربية محمد الرميحي

 المعلوماتية العربية

حديث الشهر

ننظر من حولنا فنرى أننا نعيش عصر المعلوماتية، لقد وصفت عصور تاريخية للإنسانية بأوصاف مختلفة كعصر الحديد أو عصر البخار أو حتى عصر الذرة، ولكننا نعيش في ربع القرن الأخير على الأقل عصرا عالميا جديدا هو عصر المعلومات.

والمعلومات هي العلم بالشيء أو معرفته، إلا أن الاستفادة من هذه المعرفة وتطويعها للارتقاء بالحياة، هي نتيجة تسبقها خطوات أخرى أهم وأعظم هي تنظيم المعلومات، وللأخيرة طرق ومناهج ومؤسسات لا يمكن الاستغناء عنها أو تخطيها إن أردنا أن نصل إلى النتائج المرجوة من استخدام المعلومات.

لقد توصلت الإنسانية بعد شقاق طويل إلى حقيقة أن ما تستطيع أن تحققه بالقوة تستطيع أن تحقق أفضل منه بالمعرفة.

ونحن على مشارف نهاية القرن العشرين تتحقق هذه المقولة أكثر وأكثر، خذ بلدين على سبيل المثال هما ألمانيا واليابان اللذان خاضا حربا شعواء، كان هدفهما أن يحكما العالم بالقوة وفشلت القوة في تحقيق هذا المشروع الضخم، وبالمعرفة والعلم والصناعة والاقتصاد يكاد هذان البلدان أن يتحكما - إن أردنا ألا نستخدم تعبير يحكمان - في العالم، فهذا هو المارك الألماني يضرب أخواته من عملات النقد الأوربي فيقرر هو لا غيره مستوى أسعارها، وكذلك الين الياباني ومن خلفه الصناعة والمعرفة اليابانية.

وتحقق المعرفة من جديد اتحاد أوربا الغربية دون دماء وبلا مقابل في الوقت الذي فشلت فيه في عصر آخر كل وسائل القوة في تحقيق ذلك. المعرفة هنا قادت إلى تحديد المصالح المشتركة، والمصالح المشتركة قادت إلى شيء من الوحدة، أو هي في طريقها الأكيد إلى ذلك.

وتتعدد الأمثلة على مساحة الأرض المعروفة، ويستبدل العالم المتحضر بالسلاح الحوار معتمدا على المعرفة والمعلومات. المعرفة قادت مجتمعات أخرى إلى استصلاح أراض لم تكن صالحة للزراعة فزرعتها وأطعمت أفواها جائعة، والمعرفة استنبطت أدوية لأمراض مستعصية فوضعتها في طريق الشفاء، بل إن المعرفة خلصت الإنسانية من أنواع من الأمراض كانت تحصد البشر فلا تبقي ولا تذر.

المعرفة في الغرب

المعرفة في الغرب عملية منظمة زادتها المنتجات الحديثة تنظيما وسهولة في الحفظ والاسترجاع، فلا يوجد كتاب أو كتيب أو نشرة تصدر في بلد غربي إلا وكان لها رقم مسلسل ومكان تحفظ فيه في المكتبة ومرجع سنوي تظهر فيه مصنفة حسب موضوعها، وتتعدد هذه الموضوعات حتى تصل إلى أصغر موضوع.

وعندما يريد الباحث أن يرجع إلى معلومة ظهرت في أي من هذه المطبوعات يستطيع أن يرجع إليها بسهولة ويسر، وكذلك ما تصدره الصحف والمجلات على كثرتها وتشعب تخصصاتها. وفي إطار المعلومات المسموعة والمرئية نجد التنظيم الدقيق نفسه، فإن احتجت أنت إلى صورة معينة لمعركة حربية أو تعثر رئيس وهو ينزل من على سلم طائرته أو أي لقطة ظهرت في التلفاز أمامك، فإن الحصول عليها عملية سهلة تبدأ بإرسال خطاب صغير تحدد فيه المعلومة التي تريد وتنتهي بحصولك على هذه المعلومات في البريد، بعضها مدفوع الثمن وبعضها دون ثمن.

وسهل الإنسان حفظ واسترجاع المعلومة، والتي عندما تتراكم تصبح معرفة، سهلها بوجود هذه الآلات الإلكترونية والتي نسميها الكمبيوتر، فأنت تستطيع أن تخزن عشرات الآلاف من المعلومات في حيز ضيق وتعيد استرجاعها في وقت قصير، بل لقد أصبحت صناعة المعلومات هذه (التخزين والاسترجاع) صناعة قائمة بذاتها، فأنت تستطيع أن تحصل على أسطوانة في حجم الكف محفوظ عليها موسوعة كاملة، وإذا أدخلتها في الكمبيوتر وطلبت الفهرس وانتقيت منه ما تريد وبمجرد ضغطة واحدة على زر تخرج لك تلك المعلومات التي تريدها جاهزة ومطبوعة وحديثة أيضا.

حتى بدون هذه الأسطوانة صار ممكنا الحصول على هذه المعلومات سواء كانت نصوصا أو صورا أو رسوما، فعلى سبيل المثال صار باستطاعة سكرتير تحرير مجلة ما أن يضغط علي عدة أزرار فتأتيه على شاشة الكمبيوتر الشخصي المتصل بوكالات الأنباء المصورة عبر شبكة الهواتف الرقمية، وخلال ثوان قليلة، صور عديدة للموضوع الذي يريد نشره وما عليه إلا أن يفاضل بينها ليختار ما يناسب العدد المراد إخراجه، كل ذلك دون أن يغادر سكرتير التحرير مقعده، حتى ربة المنزل صار بإمكانها أن تحصل على ما تريده من معلومات دون أن تغادر عتبة بيتها، فثمة جهاز يتيح الحصول في المنزل على إجابات لأسئلة يتم إلقاؤها تليفونيا فتأتي الردود على شكل نصوص مكتوبة مرسلة من بنوك المعلومات، وتبث بواسطة الألياف البصرية لتظهر على شاشة التلفزيون التقليدية بالمنزل

ديمقراطية المعرفة في الغرب

وإذا كانت السمة السياسية البارزة للمجتمعات الغربية هي الديمقراطية التي تتجلى بأوضح معانيها في الاستجابة لضرورات الاختيار وموجبات المشاركة، فإن المعرفة في الغرب تأخذ هذا الطابع أيضا، فثورة المعلومات التي قامت على قاعدة استخدام أجهزة الكمبيوتر ارتبطت بتقنية نقل المعلومات منذ تفجراتها الأولى وإذا كان عام 1940 يسجل لاكتشاف "السيبرنيطيقا" بواسطة العالم الأمريكي "توربير فيز" وهي علم دراسة ميكانيكيات الاتصال والسيطرة ليس فقط بالنسبة للآلات وإنما أيضا بالنسبة للمجتمعات الإنسانية. وإذا كانت "السيبرنيطيقا" هي المدخل إلى نظم تقنية المعلومات أي علم المعالجة العقلانية - بآلة أوتوماتيكية - خصوصا للمعلومات التي تعتبر دعامة للمعارف، ومن ثم فهي تتعلق بعملية تشغيل الآلات الحاسبة ومجموعة المعالجات التي ترتبط بها، فإنه في ذلك العام نفسه 1940 تحققت أول تجربة لنقل المعلومات من كمبيوتر إلى مكان بعيد، فقد نجحت معامل "بيل" العلمية في هذا النقل من كمبيوتر في نيويورك إلى نهاية مركبة في كلية "دار تموث" في "نيوهامبشير". وكانت هذه هي الخطوة الأولى لنجاح الاستغلال الأوتوماتي لأنظمة نقل المعلومات التي تستخدم شبكات المواصلات السلكية واللاسلكية، والتي تجعل من المعرفة حقلا متاحا للنهل منه تبعا لتنظيم دقيق يشبه الأنظمة الديمقراطية التي ترعرع في بيئتها هذا الشكل المعرفي ومع التطور الهائل الذي يلحق بنظم الاتصال متمثلة في الهاتف سواء السلكي أو اللاسلكي صارت قنوات تبادل المعلومات مفتوحة على مصاريعها متمثلة في نقل المعلومات المخزنة في قاعدة مركزية وعرضها على الشاشات الطرفية وهي ما يعرف بالمعطيات المنظورة View Data، كما أن نقل المعلومات من كمبيوتر إلى كمبيوتر صار ميسورا عبر أجهزة "المودم" Modem التي تحول العلامات الرقمية المخزنة في كمبيوترها إلى شكل يمكن نقله بالهاتف (السلكي أو اللاسلكي) إلى كمبيوتر آخر يتحول عنده هذا الشكل إلى علامات رقمية من جديد تختزنها ذاكرة الكمبيوتر المنقول إليه المعلومات وتعرضها شاشته.

والمعرفة عندنا

بيت القصيد أن المعرفة عندنا متأخرة وغير منظمة، والأسوأ من ذلك أن ليس لها بين اهتماماتنا أولوية، فهي آخر ما نهتم به بعد أن نتحدث عن السياسة والاجتماع والبيئة والاقتصاد، قد نتحدث عن المعرفة وقد نتجاهلها، ليس لأنها غير ذات بال، بل لجهلنا العظيم بأهميتها خذ مثلا: كم من الكتب تصدر في العام في بلادنا العربية في المغرب وتونس والجزائر ومصر وليبيا واليمن والمملكة العربية السعودية وكل البلاد العربية؟ هل هي بالآلاف أم بعشرات الآلاف؟، لا أحد يعرف على وجه الدقة ليس عددها فقط ولكن حتى موضوعاتها، أما الأسوأ من ذلك فهو أن البحوث العلمية والأدبية وحتى مشروعات بحوث الدكتوراه لا يعرف جامعي في بلد عربي ما تقدم به جامعي في بلد عربي آخر في نفس الموضوع بل أتجاوز ذلك فأقول ما لا تعرفه جامعة عن بحوث جامعة أخرى في نفس البلد.

ومن المفارقات الغريبة أن طبيبا عربيا يريد تسجيل موضوع لدراسة الدكتوراه على سبيل المثال، يمكنه أن يعرف أين، ومتى وأي الجوانب من موضوع بحثه تم تسجيله في كليات الطب الغربية حتى عشر سنوات مضت، كل ذلك خلال دقائق يلقم فيها جهاز كمبيوتر متصلا بشبكة معلومات طبية في الغرب برؤوس عناوين قليلة تلخص اتجاه بحثه، أما إذا أراد هذا الطبيب نفسه الوقوف على ما تم تسجيله من بحوث في موضوع دراسته في كليات الطب ببلده في سنتين مضتا - فقط - فإنه سينفق شهورا في مطالعة أضابير الأرشيف وتقليب عناوين صفوف الرسائل المكدسة في المخازن.

وليسمح لي القارئ أن أشاركه في قصة مثيرة للعجب، منذ فترة وقع في يدي نص لأطروحة دكتوراه في إحدى الجامعات العربية وكان موضوعها "مجلة العربي"، وعندما قرأت تلك الأطروحة تبين لي إخفاق الباحث في بعض المعلومات الأساسية وقد حصل على الدكتوراه بالطبع، ولم يكن استكمال تلك المعلومات يحتاج إلى سفر أو مشقة أو بحث في مناطق بعيدة، كان يكفي فقط خطاب محول من الباحث يظهر فيه قصده والمعلومات التي يحتاجها ويرسله في البريد العادي إلى إدارة مجلة العربي، وكان بذلك قد يصل إلي معلومات أدق وأشمل يعتمد عليها باحثون آخرون بدلا من أن يأتي بحثه مفضوحا وفي بعض الفقرات مشوها.

ضربت المثال السابق حتى أدلل على أن القضية في جزء منها اتباع منهج والتعود على مستوى تفكير، دون إنكار بالطبع أن القضية في جزء منها هي تمويل. وإقامة مؤسسات. نعتني نحن العرب بالكتاب ونتغنى به على أنه خير جليس ويحتفظ بعضنا بأمهات الكتب - على مستوى الدولة والأفراد - ولكن ذلك التغني هو ديكور لا أكثر، فالباحث العربي عندما يعن له البحث في موضوع ويكون جادا فيه، فإنه يرجع إلى الكتب الصادرة في الغرب والبحوث التي تمت هناك، وقد يكون الموضوع ذا صلة وخصوصية بوطن عربي وبموضوع عربي، وقد يكون كتب فيه عرب آخرون وتأتي الاستعانة بمعلومات المصدر الغربي تعويضا حضاريا لمن يتناوله الموضوع على أساس أن مصدر المعرفة الحديثة هو الغرب.

وتزخر الكتب الأكاديمية باستشهادات في مقدماتها بما قاله فلان الأجنبي عن الموضوع، ولو بحثنا في كتب بعض كتابنا العرب لوجدناها أكثر عمقا مما يحصل عليه المستشهدون من الغرب، ولا أريد أن أدفع بهذه المناقشة إلى شكلها السلبي بمعنى أن كل ما جاء من الغرب هو غث غير سمين، ولكن ما أزيد الإشارة إليه هو نقص في تبادل المعرفة بيننا كعرب وعلى أرفع مستوياتها وهم النخبة المثقفة.

وتجري اليوم حركة تأصيل ثقافية في أجزاء من الوطن العربي بمعنى إمعان النظر في المهم والعاجل من قضايانا ومشكلاتنا إلا أن نقص الحصول على المعلومات - أو قل معظمها - يشكل عائقا حقيقيا لنمو المعرفة في أي فرع من فروعها العديدة، فلا أبحاثنا الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية في العلوم الحية والتطبيقية واجدة لها مسارات وقدرات للاستقبال الأفقي بين العربي والعربي، أو متوافرة لقارئ العربية، وقد يجد بعضها استقبالا رأسيا إلى لغة أجنبية - في الغالب الإنجليزية وإلى حد أقل الفرنسية - ثم تعود إلينا من جديد وهي لابسة حلة قشيبة، وكم من نقاد في المشرق العربي عرفوا بكاتب من المغرب العربي الكبير نتيجة كتابته بالفرنسية لكتاب أو بحث علمي أو رواية أو قصة، ونحتفل بذلك الكاتب احتفالا يليق به، وكم من الكتاب والمؤلفين في بلد عربي ذهبت إبداعاتهم دون أن يشير إليها أحد، وطويت في صفحات النسيان. والعكس صحيح فكم من موضوع مشرقي كتبه أحد الكتاب من خارج البلاد العربية احتفلنا به وجعله البعض المرجع الرئيسي في موضوعه.

أسباب ذلك بالطبع مركبة، فهي من جانب نقص في الثقة بالإنتاج الفكري العربي، ومن جانب آخر عدم وصول المعلومات بشكل كاف وواضح. ويواكب ذلك كله التقصير في استخدام الأجهزة الحديثة والمتطورة لمواكبة تدفق واتساع المعرفة في العالم وفي البلاد العربية وحسن تبادلها.

وإن تحدثنا عن المؤسسات التي يناط بها تبادل المعرفة - دعك من إنتاجها - فإننا نتلفت حولنا فلا نجد تلك المؤسسات التي تأخذ على عاتقها ذلك التبادل.

وحديث تبادل المعرفة هذا ينطوي على مفارقات ذات شجون، ومن أمثلته التي تسطع في الذاكرة أن بلدا عربيا هزه زلزال قريب، اكتشف أهله أن منطقة إسكان جديدة جرى إقامة عمائرها على فالق من الفوالق الأرضية التي تسهل زلزلتها، والسبب أن البناة لم يتبادلوا المعارف مع أهل الجيولوجيا في هذا البلد. ومثال آخر في بلد عربي به مركز متقدم لتحليل الصور الفضائية (الاستشعار عن بعد) أقيم في صحرائه طريق لا يكمل عاما حتى تقصم ظهره السيولة فيعاد تعميره سنويا، والسبب أن من شقوا الطريق لم يأخذوا رأي هذا المركز الذي لو سألوه لنصحهم بشق الطريق في مكان آخر بعيدا عن مجرى السيول الذي تكشفه بوضوح الصور الفضائية لمركز الاستشعار عن بعد.

وحتى معارض الكتب التي بدأت في الظهور منذ بضعة عقود هنا وهناك في عواصمنا أخذت الشكل دون المعنى، والمظهر دون المخبر، فقد تحولت في معظمها إلى مهرجانات يعتنى بكل شيء ترفيهي فيها إلا الكتاب، وأصبحت أسواق بيع كتب بدلا من الفكرة الرائدة لها وهي توفير الكتاب، وبالتالي المعلومة لمن يريدها.

تذهب إلى معرض كتاب من تلك المعارض فتسمع الضجيج بالأغاني السيارة والزحام على بيع منتجات أخرى غير الكتب، ويتحول الأمر كله إلى سوق شرقي يعلو ضجيجه وتقل فائدته.

من الحواضر الإسلامية إلى أقبية الكنائس

لقد فطن أجدادنا - غفر الله لهم ولنا - إلى أهمية تصنيف المعلومات وجمعها، ولعل كتاب "الفهرست" لابن النديم يوضح البذور الأولى لعلم الببلوجرافيا الحديث أو ما يطلق عليه علم ترتيب المكتبات. ويكشف هذا الكتاب عن عمق المأساة التي لحقت بثمار العقل العربي، فمعظم المؤلفات والتصنيفات التي يتحدث عنها ابن النديم لم تعد موجودة، ذهبت ضحية سنوات الاندحار والهزائم المتوالية، تحولت الكتب إلى جسور يعبر عليها الغزاة، وإلى وقود لنيران الفتنة بين أتباع المذاهب المختلفة، وإلى ضحية تتسلط عليها أهواء الحكام فتطمس سطورها وتمزق أوراقها، تراث زاجر تعرض للاغتيال أكثر من مرة على أكثر من يد، آخرها عندما تدفأ جنود الغزو العراقي على أحدث الكتب في مكتبات الكويت!!

ويكفي أن نلقي نظرة عابرة على هذا التراث العربي الضائع حتى نصاب بالأسى والحزن، قفى بغداد كانت هناك مكتبة "بيت الحكمة" التي أنشأها الرشيد ونماها المأمون وبلغ مجموع ما فيها من مخطوطات مائتين وخمسين ألف مجلد، وكانت تضم جيشا من المترجمين والنساخ والوراقين. كذلك كانت هناك "دار المعرفة" في مصر، تلك التي تحدث عنها ابن خلدون، أنشأها الحاكم بأمر الله الفاطمي وأوقف عليها أوقافا كبيرة، وقد ضمت مائة ألف مجلد في العلوم الدخيلة، أي غير الدينية، وحدها، كما اشتملت على أدوات القياس والفلك وخرائط العالم كما رسمها بطليموس. وكذلك الأمر في "دار الكتب" التي أنشأها الحاكم بن الناصر في قرطبة وكانت تضم أكثر من أربعمائة ألف مجلد.وقد حاول أحد ملوك فرنسا بعد ذلك بأربعمائة عام وهو الملك العالم "شارل الخامس" أن يكون أول مكتبة وطنية فرنسية ولم يستطع على مدى سنوات طويلة أن يجمع أكثر من ألف مجلد.

ولم تكن المكتبة بالنسبة للعقل العربي مجرد حلية ترفيهية، ولكنها كانت جزءا من طبيعة النشاط العقلي الجارف الذي صاحب صعود هذه الحضارة. وبقدر انتشار المكتبات الجماعية انتشرت المكتبات الفردية. وتقول إحدى الروايات إن سلطان بخارى استدعى إلى بلاطه طبيبا عربيا فاعتذر الأخير بحجة أن كتبه تحتاج في نقلها إلى أربعمائة جمل، وكان الصاحب بن عباد يفخر بأن كتبه تملأ ستمائة صندوق.

ولكن هذه المكتبات تعرضت لنفس النكسات التي تعرضت لها الحواضر العربية والإسلامية، تحول رفاتها إلى مرثية طويلة تبكي هذه الحضارة الغاربة.

وفي الوقت الذي بدأت فيه النهضة الأوربية ووجدت أقبية الكنائس والأديرة محتشدة بكل التراث العقلي محفوظا ومرتبا، لم يجد التراث العربي اليتيم أهلا يحفظونه، ففي الرواية الشهيرة التي كتبها عالم الإنسانيات الإيطالي "امبرتو ايكو" تحت عنوان "اسم الوردة" والتي تحولت بعد ذلك إلى فيلم مشهور عن أحوال الكنائس والأديرة في القرون الوسطى، يصف المكتبات المحفوظة بداخلها وكيف أنها تحتوي على نفائس التراث العربي وعلى رأسها كتاب "الجبر" للخوارزمي. لقد أخذت كل هذه المخطوطات وحفظت وفهرست وخبئت إلى أن تحين فرصة الاستفادة منها.

قامت الكنائس الغربية هنا بدور مزدوج، ففي الوقت الذي كانت تحشد فيه كل قوتها وعنفوانها من أجل خروج الحملات الصليبية "لتخليص الأراضي المقدسة من المسلمين الكفار"! كانت تجمع تراثهم العقلي والروحي، كانت تريد القضاء المبرم على الجانب المادي من هذه الحضارة، وتريد الاحتفاظ بالجانب العقلي منها. اختيار يحكمه منطق صارم ربما لا يزال يحكم الحضارة الغربية حتى الآن.

وهكذا نرى أن الكنيسة كانت متعصبة حقا، ولكنها لم تكن عمياء، ولعل هذا الاتجاه يقدم إجابة لكل الذين يرفضون مظاهر الحياة الغربية المادية بما فيها من تحلل، ويقفون حائرين أمام مظاهر نشاطها العقلي والحضاري بما فيه من ازدهار.

هل يمكن أن ندرك أن هذا النشاط العقلي يجب ألا يخضع لعوامل التعصب أو النظرة الضيقة؟

يجب أن نعترف بذلك، فالاعتراف هو الذي سوف يخلصنا من غرور الجهل ويقودنا إلى تواضع الرغبة في التعلم والمعرفة، فالإصرار على الجهل هو نوع من الضلالة. وقديما قالوا "من قال لا أدري فقد أفتى" ولا يعنى هذا الاعتزاز بالجهل بقدر ما يعني التحذير من مغبة التضليل، فالاعتراف بعدم المعرفة يمكن أن يمثل عنصرا إيجابيا بدلا من الافتقار إلى أمور يمكن أن يؤدي الجهل بتفصيلاتها إلى كارثة جديدة.

ولأن المعرفة مطلب عقلي إنساني فهي ليست إلا وسيلة جيدة تعرفنا بمدى اتساع دائرة ما نجهل، كما يعرف إسحق نيوتن العلم.

المعلومة والمعرفة

كثير منا لا يفرق بين المعلومة والمعرفة التي تتحول إلى سياسة بمعنى اتخاذ القرارات، والذي قلنا في صدر هذا الحديث إنه يفرض القوة.

المعلومة قد تكون صحيحة وقد لا تكون، ولا تنتج المعرفة من المعلومة فقط، هانما تنتج من عملية تراكم المعلومات ومقارنتها ببعضها وتدقيقها، من هاتين العمليتين تنتج المعرفة، وإن حصولنا على معرفة دقيقة في موضوع ما يقودنا بسلامة أكثر إلى تبني سياسة واتخاذ قرارات تصب في نهايتها لتحقيق الصالح العام.

هذه العملية من معلومة إلى معرفة إلى سياسة يمكن أن تطبق في أي مجال سواء كان مجالا اقتصاديا أو اجتماعيا أو سياسيا أو علما تطبيقيا، ويختصرها البعض في الحديث عن مجالات البحث والتطوير ويرمز لها بالإنجليزية بالحرفين R.D بمعنى Research & Development.

وقد تجاوزت هذه الفكرة الكثير من الأيديولوجيات القطعية والتي تخضع لتصور مسبق لما يجب أن تكون عليه حلول المشكلات التي تواجه الإنسان، فالبحث هو ما اصطلحنا عليه بأنه مقارنة المعلومات وتدقيقها (المعرفة) وإن عرفنا حلولا لمشكلات تواجهنا استطعنا تطوير مستلزماتها لتحقيق الصالح العام أو ما نرغب فيه، وأساس كل ذلك المعلومة المنظمة والدقيقة، وما دام هناك شبه اتفاق أن المعلومة في بلادنا غير دقيقة ولا منظمة في مؤسسات فبالتالي يصعب مقارنتها وتدقيقها والخروج منها بنتائج بحثية تقودنا إلى التطور.

وليس سرا اليوم أن البلاد الأخرى تقيس مستواها في التطور والتقدم بحجم إنفاقها من ميزانياتها العامة على البحث والتطوير. وتذهب الشركات الكبرى والمؤسسات الخاصة مذهب المجتمع والدولة في ذلك، فكلما كانت الشركة أو المصنع قد صرف جزءا كبيرا من ميزانيته على البحث والتطوير، تقدم إنتاجه واستطاع المنافسة في السوق. وما هذا الزخم من التطور التقني إلا نتيجة البحوث والتطوير، وما هذا التقدم في المجال الطبي إلا نتيجة ذلك أيضا. وكان قد أعلن في بريطانيا وأنا اكتب لك هذا الحديث - عزيزي القارئ - عن اكتشاف (الجينات) التي تسبب مرض باركسون (الارتعاش اللاإرادي) بعد بحوث استمرت عشر سنوات. ويستطيع أي إنسان اليوم أن يعرف على وجه كبير من الدقة ما إذا كان سوف يصاب بهذا المرض في المستقبل ويكون انتقاله إلى الآخرة بسببه بطريقة بسيطة وهو كشف بسيط على الجينات عن طريق عينة من الدم.

لم يصل العلم إلى ما وصل إليه اليوم دون البحث والتطوير، ولم يصل إلا بعد أن نظم المعلومات .، وقد يكون ومفاجئا لبعض القراء أن العالم الإنجليزي المشهور والمقعد "ستيفن هوكنج" والذي نشر الكتاب الأكثر مبيعا في العالم في السنوات الخمس الأخيرة وهو بعنوان "موجز تاريخ الزمان من الانفجار العظيم إلى الثقوب السوداء" وترجم إلى أكثر من عشر لغات حتى الآن من بينها العربية، قد يكون مفاجئا أن يقول في مقابلة تلفازية أجريت معه في العام الماضي إن العالم سوف يكتشف كل أسرار الكون في الخمس عشرة سنة القادمة، ولن يبقى بعدها شيء لم يكتشف، قد تكون مبالغة من عالم ولكنهات مبالغة العارف ببواطن الأمور والمطلع على البحوث الجديدة.

المعلومات وسرعة تراكمها

إننا نعيش في عصر تتفجر فيه المعرفة وتتراكم فيه المعلومات بوتيرة متلاحقة. وعلى سبيل المثال فقد تضاعفت المعلومات في الفترة من 1850 إلى 1925 - أي على مدى 75 عاما - مرة واحدة، ثم عادت للتضاعف في الفترة من 1925 إلى 1950 - أي على مدى 25 عاما - مرة ثانية. تضاءلت هذه المدة إلى 20 عاما فقط في الفترة من 1950 إلى 1970، ومنذ ذلك التاريخ وحتى الآن فقد تضاعفت المعلومات ثلاث مرات وسوف تواصل تضاعفها بينما تتناقص الفترات الزمنية. وهكذا نجد أن طرق الحفظ في المكتبات التقليدية لم تعد كافية، والمكتبة التي كانت تضم آلاف الكتب أصبحت تضم الملايين منها. وفي الوقت نفسه فإن طرق الحفظ غير التقليدية مثل أجهزة الكمبيوتر هي التي تساهم أيضا في تضاعف المعلومات، وبذلك فإن سيل المعلومات لن يكف عن التدفق في مستقبل السنوات القادمة.

لقد انتهى الاعتقاد الذي كان سائدا بأن معرفة القراءة والكتابة تكفي حتى يكون الإنسان متعلما، كذلك لم يعد كافيا أن يكون الشخص على درجة معقولة من فهم اللغة حتى يستطيع استخدامها كوسيلة اتصالا بينه وبين الآخرين، ولكن المختصين يؤكدون الآن على وجوب ما يسمى ب "المعرفة الوظيفية" وهو اصطلاح يصف بعض المهارات ذات المستوى الرفيع التي تؤهل الفرد للتعامل مع آلية الكمبيوتر، كيف يقوم بتشغيله أو برمجته، وكذلك كيفية التعامل مع أرقامه وبياناته، كما يتضمن أيضا الدوافع والاستعداد للتعامل مع هذه الآلة.

وتنمية هذه المعرفة الوظيفية يجب أن تبدأ في نفوس الأطفال مع سنوات التعلم الأولى، لأن تدريب الأطفال على استخدام هذه الآلات الإلكترونية يعطيهم الثقة في أنفسهم ويعزز من قدراتهم النفسية والعقلية معا.

ولا يتوقف الأمر على هذا النحو المطرد في المعلومات، ولكن هذا النمو يأتي وسط عالم قلق مليء بالمتغيرات، فهناك متغيرات مستمرة في عالم الاقتصاد والتجارة، ومخاوف من تناقص الطاقة، ومتغيرات مفاجئة في الأبنية والنظم السياسية. كذلك هناك اختلال في المفاهيم والأنماط الثقافية والاجتماعية، ويجب أن تمتلك المؤسسات الوسائل التي تتيح لها القدرة على التنبؤ بتأثير كل هذه المتغيرات. وبطبيعة الحال فإن تخزين معلومات وبكل هذا الكم من المتغيرات يحتاج إلى بحوث مضنية في البحث والتطوير وتوفير الوقت المناسب لتعديل البرامج العلمية في ضوء الاحتياجات المستقبلية. وهكذا نرى أن معظم المؤسسات التي تفشل في استمرارية استخدام الكمبيوتر إنما تفتقر بالدرجة الأولى إلى التخطيط للمستقبل. ولعل العبء الأكبر في التخطيط لهذا المستقبل يقع على الجامعات العربية، فهي المؤسسات الوحيدة القادرة على إعداد خريجين يمكنهم أن يتفهموا أبعاد هذه التقنية الحديثة والطرق المختلفة لتطبيقها. كما أن تزويدها الطلاب بكل هذه المعلومات المطلوبة يساعدهم على التعامل مع الثورة القادمة في عالم الكمبيوتر، وهي التي يطلق عليها ثورة "الصفائح المصغرة" أي الكمبيوتر البالغ الصغر.

أين نحن من كل ذلك؟

فاتنا عصر البخار، وفاتنا عصر الذرة، فهل يفوتنا أيضا عصر المعلومات؟ الأقرب - واغفروا لي هذا التشاؤم - أنه قد فاتنا الكثير منه، وإذا كانت الأمثلة تدلل على ذلك، فلنضرب الأمثلة، فمعظم أمم الأرض لديها اليوم موسوعة، وأشهر هذه الموسوعات الموسوعة البريطانية والموسوعة الأمريكية. ونحن رغم ما توافر لدينا من مال وما لدينا من عقول وعديد من الجامعات ومؤسسات البحث العلمي، فإن الموسوعة العربية الشاملة لم تر النور بعد. لدينا موسوعات موجزة ومحدودة قامت على إنجازها مؤسسة خاصة ولكنها موجزة فقط، وظل مشروع الموسوعة العربية حبيس أضابير البيروقراطية والعصبيات السياسية في المنظمة العربية للثقافة والفنون (اليكسو) التابعة للجامعة العربية. يوجد في الغرب مؤسسات متكاملة بعضها متخصص في المشكلات التي تواجهنا وتدرس مجتمعاتنا وليس لدينا مؤسسات ندرس نحن من خلالها مجتمعاتنا. ما زلنا نعتمد في اتخاذ قراراتنا على ما يتوافر لدينا في التو واللحظة من معلومات ناقصة.

واكتشف بعضنا أهمية المعلومات فبدأ في مراكمتها، واهتمت بعض أجهزتنا بتكديس المعلومات وكأن الهدف الأساسي هو التكديس، فتراكمت معلومات صحيحة وأخرى خاطئة قادت بعضنا في الغالب إلى اتخاذ قرارات عشوائية مميتة، ولم ينتبه أحد إلى أن تكدس المعلومات دون تدقيقها وغربلتها ومقارنتها أشبه بابتلاع الأكل فوق الأكل بين الوجبات.. يضر أكثر مما ينفع.

 

محمد الرميحي