دولة المؤسسات.. ما الذي تعنيه؟ يحيى الجمل

دولة المؤسسات.. ما الذي تعنيه؟

القصة يكثر الحديث - وبالذات في بلاد العالم الثالث - عن دولة المؤسسات، على حين أنه في الدول المتقدمة التي توجد فيها مؤسسات دستورية بالفعل لا نجد حديثا كثيرا عن هذا الموضوع، وإنما نجد فعلا اختصاصات حقيقية لهذه المؤسسات، مما يغني عن كل حديث. فما هو معنى دولة المؤسسات هذه التي نتحدث عنها كثيرا، ولا نمارسها إلا قليلا في بلادنا، ولا يتحدثون عنها هناك، ويرون أن الفعل أولى من الحديث؟

ترجع إلى أيام لويس الرابع عشر عندما قال "أنا الدولة" وعندما قال لويس الرابع عشر ذلك لم يكن يقصد إلى مجرد الفخر والأبهة والعظمة وإنما كان يقصد إلى أن يقرر حقيقة قانونية تقول إن الملك - آنذاك - كانت إرادته هي إرادة الدولة، وكانت مالية الدولة تختلط بماليته، وكان صاحب السلطة وليس مجرد ممارس لها.

كان الملك هو القاضي وهو المشرع وهو المنفذ. وكان يباشر بنفسه بعض الأمور ويترك لأعوانه ومساعديه مباشرة الأمور الأخرى الأقل أهمية، ولكن باسمه وتحت إمرته المباشرة وإشرافه، وكان يملك أن يلغي ما أبرموه وأن يبرم غيره فالأمر في النهاية مرجعه له، ذلك أنه ليس صاحب اختصاص معين وإنما هو صاحب السلطة نفسها. وأوضح مظهر لذلك أن مال الدولة كان يختلط بماله، وأن ذمته المالية وذمة الدولة كانتا شيئا واحدا. وهكذا لم يكن لويس الرابع عشر مبالغا عندما قال "أنا الدولة" وإنما كان يعبر عن الواقع الذي كانت تعيشه وترتضيه الشعوب والدول آنذاك.

ومرت مياه كثيرة في الأنهار. وكتبت كتابات كثيرة. وحدثت صراعات. وقامت ثورات.

وبدأ حديث يتردد في فرنسا وفي الولايات المتحدة الحديثة الاستقلال - آنذاك - عن أن الأمة مصدر السلطات. وواكب ذلك حديث آخر يشتد منذ القرن الثامن عشر وما تلاه في المملكة المتحدة - بريطانيا - عن مبدأ سيادة القانون وعن أن القاعدة القانونية التي يشرعها ممثلو الشعب تعلو الإرادات جميعا، سواء في ذلك إرادة الحاكمين أو إرادة المحكومين.

وصب ذلك كله في مجرى تيار كبير من تيارات أنظمة الحكم عرف باسم الديموقراطية. وفى ظل هذا النظام من أنظمة الحكم تأكدت دولة المؤسسات ولم يعد من الممكن في النظام الديموقراطي ولا في ظل دولة المؤسسات أن يقول حاكم كائنا من كان "أنا الدولة"، إلا إذا كان ملتاث العقل، أو كان ينتمي إلى زمن غير هذا الزمان، أو كان من بعض حكام العالم الثالث.

الديمقراطية والتعددية السياسية

فما هي الديموقراطية وما هي المؤسسات؟

الديموقراطية ليست أحاجي ولا ألغازا، والاجتهاد في معناها أصبح محدودا، ذلك أن الديموقراطية تعني أمورا محددة هي التعددية السياسية، بمعنى أن الاختلاف حق طبيعي لبني البشر، وأن كل اتجاه يستطيع أن يعبر عن نفسه ويدعو الناس إليه، وهكذا تتعدد الاتجاهات والآراء وكيفية التعبير عن هذه الاتجاهات والآراء. وهذه الاتجاهات المتعددة تسعى إلى الناس تخطب ودهم، وصاحب الأغلبية من حقه أن يحكم، كما أن الأقلية من حقها - وليس مجرد سماح - أن تعارض لكي تكون أغلبية في يوم من الأيام، وبذلك يكون من حقها بدورها أن تحكم. وهكذا يتم تداول السلطة سلميا.

وذلك كله في ظل القانون أو سيادة القانون، فالناس في النظام الديموقراطي سواء كانوا حاكمين أو محكومين يلتزمون بالقاعدة القانونية، ذلك أن القانون يعلو الإرادات جميعا ويحكم الإرادات جمعيا. كذلك فإن القانون الأساسي في أي دولة من الدول - وهو ما نسميه عادة الدستور - يبين نظام الحكم في الدولة ويحدد الاختصاصات لكل سلطة أو جهة أو مؤسسة، ويحدد الذين يمارسون هذه السلطات. والشعب كله ممثلا في الدولة هو الذي يملك السلطة بكل مظاهرها وتقسيماتها. لم يعد أحد يمتلك السلطة كما كان يملكها لويس الرابع عشر وأضرابه، وإنما أصبح هناك ممارسون للسلطة في ظل الدستور ووفقا لما يرسمه من حدود، وهذه هي الفكرة الجوهرية في دولة المؤسسات.

كانت السلطة شخصية، كانت ملكا لشخص أو مجموعة من الأشخاص. هذا في ظل الحكم الفردي، أما في ظل الديموقراطية وسيادة الدستور، فإن السلطة وظيفة يمارسها من يعطيه الدستور الحق في ممارستها، فإذا مارسها غيره قيل عنه إنه "مغتصب" للسلطة واعتبر تصرفه غير قانوني وغير مشروع وغير منتج بالتالي.

الدستور يقول مثلا: إن الملك يسود ولا يحكم. هنا - كما هو الحال في إنجلترا - فإن الملك رغم وجوده الرمزي لا يملك أي سلطة.

ولكن الدستور في بلد مثل الولايات المتحدة الأميركية أو مثل فرنسا يعطي رئيس الدولة - وهو رئيس الجمهورية - سلطات محدودة يمارسها رئيس الجمهورية مادام شاغلا المنصب، ويمارسها وفقا للحدود التي وضعها الدستور، وعندئذ تكون ممارسة مشروعة ومنتجة لآثارها. فإذا فرضنا أن الرئيس تعدى الحدود المرسومة له فإن تصرفه يكون غير قانوني وغير منتج، ولكن من الذي يقول له ذلك؟

الفصل بين السلطات

في الدولة الحديثة لا توجد مؤسسة واحدة ولا سلطة واحدة وإنما توجد سلطات ثلاث كل منها تمارس بواسطة مؤسسة دستورية.

هناك سلطة التشريع والتي تمارسها مؤسسة اسمها البرلمان، سواء تكون البرلمان من مجلس واحد أو من مجلسين وفقا لنص الدستور.

وهناك سلطة اسمها التنفيذ تمارسها كل المؤسسات التنفيذية، بدءا من مجلس الوزراء إلى الوزارات المتعددة إلى قوات الأمن إلى المديرين والمحافظين وأصغر وحدات الإدارة المحلية. وهناك سلطة اسمها "القضاء" تمارسها المحاكم على اختلاف أنواعها.

وفي الدولة الحديثة تتعاون المؤسسات مع بعضها، كما يراقب بعضها بعضا.

والأصل أن "القضاء" هو الذي يطبق حكم القانون وهو الذي يقول إن تصرفا معينا يتفق مع القانون ليكون مشروعا ومنتجا، وإن تصرفا آخر لا يتفق مع القانون فلا يكون مشروعا ولا منتجا.

كل سلطة لها اختصاص محدد تمارسه في إطار الدستور، فإذا هي خرجت عن هذا الاختصاص المحدد كان خروجا غير مشروع.

البرلمان مثلا يملك سلطة التشريع، فهو الذي يسن القوانين للدولة، وهو عندما يمارس ذلك إنما يمارس وظيفته الأصلية التي عهد بها إليه الدستور. ولكن البرلمان - مع هذه السلطة الواسعة - لا يملك أن يبت في ملكية منزل صغير ليقرر أن هذا المنزل ملك فلان من الناس وليس ملك فلان. البرلمان لا يملك ذلك، وإذا عرفنا أنه فعله فإن تصرفه يكون مخالفا للدستور ويكون غير مشروع ولا منتج. ذلك أن أحد القضاة أو دائرة من ثلاثة قضاة هي التي تملك أن تفصل في أمر ملكية هذا المنزل، وحكمها يكون مشروعا ونافذا لأنه يستند إلى الدستور والقانون.

يملك ولا يحكم

والأمير أو رئيس الجمهورية يملك أن يعين وزيرا وأن يقيله، ويملك الشيء نفسه بالنسبة للمحافظين وكبار الموظفين، ولكنه لا يملك بإرادته المنفردة أن يعين قاضيا شابا في محكمة صغيرة إلا وفقا لإجراءات معينة رسمها له الدستور والقانون. كذلك فإن الأمير أو الملك أو رئيس الجمهورية لا يستطيع أي منهم في الدولة الحديثة - التي هي دولة المؤسسات - أن يحكم على متهم في جنحة سرقة بالحبس ثلاثة أشهر على حين يملك ذلك كله قاض شاب في محكمة صغيرة يقال لها محكمة الجنح. كل ذلك لأن الدستور وزع الاختصاصات وحدد لكل مؤسسة اختصاصها وجعل المشروعية مقرونة بالاختصاص القانوني. وهذا هو جوهر دولة المؤسسات.

والمؤسسات دائما متجددة، على حين أن الأشخاص الذين يمارسون سلطة المؤسسة باسمها وفي حدود الدستور متغيرون وزائلون. اليوم الملك أو الرئيس هو فلان. وغدا فلان آخر، ولكن مؤسسة الرئاسة مستمرة بصرف النظر عمن يشغلها.

اليوم أعضاء البرلمان هم فلان وغدا غيرهم. ولكن البرلمان هو المؤسسة المستمرة التي تملك سلطة التشريع باسم الأمة.

واليوم يجلس فلان على منصة القضاء، وغدا يحال إلى التقاعد أو يتوفاه الله، ويجلس على المنصة غيره، وتستمر المؤسسة ويتغير الأفراد. هذه هي دولة المؤسسات. وبإيجاز شديد نقول: إن المؤسسات في الدولة الحديثة هي أجهزة الدولة للقيام بوظائفها واختصاصاتها، تلك الوظائف والاختصاصات التي يحددها الدستور والقانون ويعهد إلى أشخاص معينين يمارسون تلك الوظائف والاختصاصات باسم المؤسسة وليس باسمهم الشخصي.

لم يعد لويس الرابع عشر لو بعث حيا يستطيع أن يقول "أنا الدولة".

الأمل في وجه الله كبير أن يأتي يوم قريب لا يستطيع فيه حاكم من حكام بلاد العالم الثالث أن يقول "أنا الدولة" أو أن يتصرف على هذا الأساس.

الله المستعان.

 

يحيى الجمل