نحن وأوربا أحمد علبي

نحن وأوربا

ما زالت تجربة الاحتكاك بأوربا تثير ذهن المثقف العربي، فهي تجعله يقف على الخط الفاصل بين الانبهار والانتقاء. يخاف منها ويرفضها ويعيش في ظل ثقافتها، وتتحول العلاقة إلى مزيج معقد يحاول. الكاتب أن يلقي عليه الضوء في هذا المقال.

كيف أدخل في المقال والغيم الخريفي يحجب الشمس ويجذبني إلى حضن صمته ويدعوني إلى الركون والحنين؟ هذا الغيم كان يحيرني عندما كنت صغيرا، يضعني خارج الزمن، فلا المكان مكان ولا الزمان زمان. ولكأني كنت عندما أشاهد الدنيا لأول مرة وأعجب وأتململ وأروم الفرار عن عقابيله، فهو قابض على صدري، ينيخ غربته على أعصابي الطرية، ويرمي بثقله الكابوسي، فكأن الدنيا خرجت من ألوانها وغدت بيضاء وسوداء فقط، وصارت صورة "مات" جافة لا لمعان فيها ولا زلق. وكبرت وسافرت، وتغير حالي، مع هذا الغيم الخريفي، فغدا عندي أثيرا محببا، أترقب مقدمه منشرح الصدر، فاركا كفا بكف، وأحد أصدقائي يداعبني قائلا: "هيدا غيمك أبو عمار". وهذا الطقس الغائم، العابر لدينا، يكاد يكون الطقس الأوربي المألوف. وخلال زياراتي إلى هناك انعقدت الألفة بيني وبينه، وذلك أنه ارتبط في ذهني بالنشاطية والعمل. فهؤلاء قوم يعملون بجد ويبنون، والطقس معوان لهم منجاد.

قيمة العمل

ولا قيمة راسخة في صدري كالعمل.، وليس في القرآن مفردة يكثر ذكرها كما هو فعل عمل ومشتقاته. وفي الآية: "كذلك زينا لكل أمة عملهم" (الأنعام 108/ 6). فالعمل إنجيل الشعوب الحية، ولا جدوى من الأيديولوجيات، مهما بدت زاهية، إن لم تقترن بهذا الأقنوم. ولنا في خراب الاتحاد السوفييتي عبرة على الدهر، إن الإنتاجية هناك متدنية، وإن هدر الثروات الطبيعية قائم قاعد، والناس يقبضون قليلا ويعملون أقل، مع أن الشعارات تقول إن الطبقة العاملة هي الحاكمة والمسئولة، وتكشف أنها محكومة ببيروقراطية إرهابية ندر أن جاد التاريخ بمثلها. وقد أرعبت لينين هذه البيروقراطية منذ أشهر نشأتها الأولى، وصدمته بنقص كفاءتها، فكيف بما آلت إليه بعده؟ وهذا ماياكوفسكي، شاعر الثورة وبوقها الصداح، يعلنها حربا على هذه البيروقراطية المخيفة في إحدى قصائده التي مطلعها "أنا ذئب على البيروقراطية"، وينتهي به الأمر إلى اليأس والاستسلام والانتحار. وهذه البيروقراطية قنطت شاعرا لكأنه العاصفة، وتمثاله في إحدى ساحات موسكو وهو فاتح ذراعيه على وسعهما ناطق بثوريته واندفاعه. ترى هل يبقى ماثلا هناك، والعهد الجديد يتنصل حتى من بعض ما احتوت تجربته التاريخية من نصاعة؟

الزمن الأوربي

ولا ريب أن هناك جانبا عاطفيا ثقافيا، فضلا عن العمل، قرب الغيم الخريفي من مزاجي وجعله مندسا طي روحي، إنه الاحتكاك بأوربا التي تجسد قطب الرحى في التاريخ الحديث. وحتى الذين يتشدقون بالرفض تراهم متلبسين بالأسمال الأوربية، ويجادلونك وهم يستعينون بالمكتسبات الغربية في كل حركاتهم وسكناتهم. وأذكر أيام حرب الجزائر وسعيها المتحرر من الاستعمار، أني سألت أحدهم هل شاهد الفيلم الفرنسي الفلاني، فأجابني باستعلاء أنه يقاطع السينما الفرنسية، تضامنا مع الجزائريين. وبدا الجواب صبيانيا، تافها، لأننا نقاطع الاستعمار الفرنسي ولا نقاطع الثقافة الفرنسية، فهي إرث إنساني. وهل ترانا نعادي فولتير والانسيكلوبيديين وفكتور هوجو وأراجون؟ إن نفعل نكن من الخاسرين، ونفوت على ذواتنا سلاحا ثقافيا ماضيا، به نزداد وعيا، وبواسطته نحارب المحتل نفسه بماكسبناه في عقر ثقافته. ثم إن المتحدث المقاطع كان يستعير من أوربا ما فوقه وما تحته: نظاراته لم تستنبطها قبائل ربيعة، وملابسه الداخلية لم تسجل براءة اختراعها في واحات نجد، وجاكتته كما يخبر اسمها أجنبية، وبنطلونه يعود إلى مسيو بنطلون مكتشفه. ولا أدري إن كانت يومها شيالات أو حزام جلدي يمسك بهذا البنطلون المحشو بالمقاطع المتذاكي فيحول دون انزلاقه إلى أسفل. والواقع أنه لا خوف من ظهور العورة، لأن صاحبها بنفسه يكاد يكون عورة متكاملة.

هذا عن اللباس، فكيف إذا عرجنا على المأكل وطريقة العيش، ونمط تأثيث البيوت، وأساليب التعليم، إلى ما هنالك من مرافق ومؤسسات؟ نحن نحيا الزمن الأوربي المعمم كونيا، وتجربة اليابان الاستثنائية تسابق هذا الزمن ولا تخرج عن مفاعيله، لأنها أساسا تعلمت من النموذج الأوربي وقامت على احتذائه وسعت مفلحة إلى تجاوزه. على أن اليابان حافظت على خصوصيتها الروحية إلى حد مرموق، ربما لأنها تجاوزت النموذج ففرضت تقاليدها، والمتفوق يملي شروطه ويكيف الأمور حسب أهوائه. وكان الأمل في التجربة الاشتراكية أنها ستشيد عالما أوربيا صناعيا حديثا، يتحصن بالنظافة والطهارة وبقيم مشرقة وبتقاليد مضيئة لإنسانية جديدة، ولكننا كنا واهمين، فقد حلت الإرادة مكان العلم، وأفسحت الموضوعية محلها للغريزة والمثالية. وتساقط البناء الاشتراكي الطنان، وجددت الرأسمالية نفسها وأثوابها، واستمر الظلم والقهر في قوالب مستحدثة.

الرحلة والحلم

والغيم الخريفي غدا مقترنا في نفسي بذكريات عن أوربا، غربها وشرقها، ولهذا فظهوره يبتعث دفق مشاهدات وقراءات وزيارات. إن التعرف على أوربا حلم راود الكثير من المثقفين العرب. لقد اطلعوا على آدابها وفنونها ومنجزاتها عن بعد، وكانوا يأملون أن ينزلوا أرض الأحلام هذه، أن يتقروها بأعينهم، أن يلمسوها بأصابعهم، أن يعايشوا أهلها ويلجوا صروحها الثقافية، وأن يمزمزوا هذه الحياة الأوربية الحرة الممتعة البديعة التي طالما سمعوا بأفانينها. كان ارتياد أوربا الأمل الكبير والحلم شبه المستحيل. يقول طه حسين عن نفسه: "واستقبل الفتى حياته في مدينة مونبلييه سعيدا بها إلى أقصى ماتبلغ السعادة، راضيا عنها كأحسن ما يكون الرضا. فقد حقق أملا لم يكن يقدر أنه سيحققه في يوم من الأيام" (مذكرات طه حسين، ص 129، دار الآداب، بيروت 1967).

ويقول مجايل عميد الأدب العربي، المنور سلامة موسى، عن تجربته الفرنسية، قبل أن طغت عليها التجربة الإنجليزية واكتسحتها: "وكانت الدهشة عندي على أعظم ما تكون حين وجدتني في مجتمع يخالف المجتمع الذي نشأت فيه في مصر. ولم تكن الدهشة منبهة فقط بل كانت صدمة موقظة. فرنسا ليست الآن وطنا جغرافيا للفرنسيين وحدهم، بل هي وطن كل مثقف درس الثورة الفرنسية وأحب باسكال وروسو وعرف كلود برنار وأناطول فرانس. ولا يستطيع أحد أن يقول مثل هذا القول عن زي قطر آخر" (تربية سلامة موسى، ص 78، 85، دار الكاتب المصري، القاهرة 1948). ويستوقفنا أن موقف سلامة موسى من فرنسا والثقافة الفرنسية شديد الشبه بموقف طه حسين، بل إن بعض عباراتهما ومصطلحاتهما متماثلة. وهذا العطش اللاغب إلى اكتشاف الثقافة الغربية في ينابيعها الأصلية كان المطمح الغالي منذ بعوث محمد علي، باني مصر الحديثة، واستمر لهفة مشبوبة في صدور الأجيال العربية المتعاقبة. يقول المفكر محمود أمين العالم، وهو من الجيل التالي على جيل طه حسين: "هذه هي رحلتي الأولى إلى أوربا. ظللت شبابي كله أحلم بهذه الرحلة. أقرؤها في الكتاب، وأعاينها في الفكر، وأغنيها في الموسيقى، وأحققها بالخيال. ما أكثر ما دار بيني وبين شوارعها وأثارها ما أكثر ما تسكعت في طرقاتها، وسبحت في أنهارها، وتسلقت جبالها، ودرت في متاحفها، وجلست إلى مقاعد جامعاتها، وأنا في مكاني بالقاهرة" (البحث عن أوربا، ص 7، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1975).

الهوة السحيقة

كان الانبهار بالحضارة الغربية الجامع المشترك بين قصاد أوربا من المثقفين العرب. إن أمورا كثيرة استوقفتهم، وخصوصا أن المقايسة كانت ديدنهم. جاءوا من مجتمعات تفتك بها الأمراض والأوبئة، ويجتاحها الفقر، وتحيا على الغيبيات والنذور، والآلة فيها ما برحت بدائية، والنفوس مستكينة إلى تخلفها تجتره وتعيد إنتاجه وكأنه قدر مكتوب على الجبين وفي لوح التاريخ. فأين هذه الأوضاع الشرقية الزرية الأسنة، كأن الزمن وقف معها وأقلع عن الحركة بل نسيها، من لألاء أوربا المتدفقة بالعمل والوفرة والإبداع والتجديد؟ إن المقارنة فاضحة ، ومن شروط المقارنة أن يكون هناك تناسب ما بين الطرفين، في حين أن الهوة تبدو شاسعة بين غرب الخارطة وشرقها، كان هؤلاء المثقفون العرب، وهم نخبة طليعية في مجتمعاتهم التي استولى عليها الجمود، يختنقون أو يكادون في بلدانهم، فالتقاليد جائرة لا سبيل إلى الخروج عليها، والمرأة مخبأة وراء جدران سميكة تتلصص على المجتمع من خلف الأصص، وعبر خصاص النوافذ، وخلال الأبواب المشقوقة، فكيف أن تشارك فيه وتنهض به؟ والرجل من غير المرأة إمكانية معطلة ونفس مشوهة وطاقة عرجاء. المرأة تاريخ الرجل. وهي في أوربا جزء حي نابض، تشارك بفعالية، وتطالب بالحقوق، وتنادي بالمساواة، وتمارس الحياة جهرة لاخفية.

يذكر سلامة موسى في "تربية" (ص 79 و 80) أن الحب فن كان يجهله الناس في مصر، ولهذا فعندما عرف فرنسا فإن المرأة هي أعظم ما حرك وجدانه الاجتماعي. بل إنه كان يستشعر لهبا ويجد نفسه طعينا في كرامته الوطنية، عند مقارنته حال المرأة الأوربية الحرة بحال المرأة المصرية المستعبدة. وهذا الكلام يعود بذاكرتنا إلى إسماعيل، بطل القصة الشهيرة "قنديل أم هاشم"، لأحد كبار كتابنا العرب يحيى حقي. فقد ذهب إسماعيل إلى إنجلترا حيث درس طب العيون ولمع، وهناك التقى بماري، زميلته في الدراسة، فهزته وأنضجته، ورجت آراءه وأطلقته من القيود وصلبت شخصيته، وأخرجته من تيهه عندما ارتجت عليه المفاهيم وكادت روحه تغدو خرابا. إنها محنة الصراع بين شرق وغرب في ذهن طالب علم وقلبه، والمرأة الأوربية ههنا هي لليد الحانية والمنقذة: "لقد أخذ هذا الفتى الشرقي الأسمر بلبها فآثرته واحتضنته. عندما وهبته نفسها كانت هي التي فضت براءته العذراء. أخرجته من الوخم والخمول إلى النشاط والوثوق، فتحت له آفاقا يجهلها من الجمال: في الفن، في الموسيقى، في الطبيعة، بل في الروح الإنسانية أيضا" (قنديل أم هاشم، ص 29، سلسلة "اقرأ" (18)، يونيو 1944، دار المعارف بمصر).

الحياة الجديدة

ولا يقتصر الأمر في موقف المثقفين العرب المرتادين الغرب على المرأة، بل إن هناك حياة فكرية حافلة وجدوا أنفسهم في خضمها. فهناك الصروح العلمية التي كنا نفتقدها لعقود مضت في أغلب البلدان العربية، وهناك الحياة الفنية والثقافية، بحيث تزدحم الخشبات بالعروض المسرحية والغنائية المتنوعة، وهناك للصحافة الراقية التي تغذي العقول بالتحليلات وبالزاد المعرفي حول موضوعات لا حصر لها، وهناك المتاحف التي تعنى بالكثير من شئون الحياة، ولا ينفرد اسمها بالعاديات، بل تلتفت إلى العلوم والملابس والتقاليد والفلكلور. الطبيعة نفسها هناك وجدت أيدي ماهرة عطوفا، تزيدها جمالا على جمال بما تضفي عليها من تنسيق وتشذيب ورعاية إضافية. فالريف لم يعد ريفا كما ألفناه، يعاني الحرمان ويتوسل الأدوات الزراعية اليسيرة المرهقة، وإنما القرية هناك تنعم بالرفاه وغدت للناس مقصدا ومنتجعا ومزارا. وعدد جم من المثقفين العرب خرجوا من أعماق الأرياف، حيث الطين والغبار والتيفوئيد والتراخوما، أو جاءوا من المدن البدائية التكوين البسيطة من حيث الحياة الاجتماعية، ووجدوا أنفسهم في عواصم ثقافة العصر، يدرجون بر جادات فسيحة، ويمشون فوق أرصفة عريضة، ويتنزهون خلال حدائق غناء وحيثما التفتوا فالنظام سائد، والترتيب معمول به، والنظافة تفوح من كل ركن وزاوية.

حياة جديدة مغايرة تماما لتلك التي فتحوا أعينهم عليها، يحياها أناس تربوا على الحرية وفي الهواء الطلق، ويدركون الأساليب الصحية التي فيها رعاية لأبدانهم، ويمارسون حياة سياسية ديمقراطية بعيدين في الكثير من أصقاع أوربا عن الكبت وكم الأفواه وإزهاق الأرواح.. فالنظام الاجتماعي جمهوري، ولو كان ملكيا فهو مقيد بسلاسل دستورية تجعل منه صورة من الماضي مستمرة في الحاضر من غير صلاحيات ولا سلطة، أضحت ملكية برهن المتحف والفولكلور. ومثقفونا العرب يئنون في الغالب، فقد وفدوا من بلاد الديمقراطية عنها غائبة، والحكم فيها ثيوقراطي أو استبدادي أو فردي، فكيف لا يسحرهم هذا النمط الأوربي ويتمنون أن تنعم مواطنهم بشيء من هذه المكتسبات الرائعة؟ فاللا مبالون والجاحدون والذين اضطرتهم ظروف العيش آثروا هذه الحياة البراقة على أوطانهم المتخلفة، وسعوا إلى البقاء هناك والاستمتاع والتأورب، مديرين الظهر لماضيهم ولأهلهم ولمنابتهم، أما المتولهون بحب الوطن فقد عادوا وفي البال أن رسالة رسولية تنتظرهم، وهي النهوض بمجتمعاتهم على نحو ما شاهدوا وعانوا ومارسوا وأعجبهم، أي أن يجعلوا من هذه المجتمعات الوطنية امتدادا للمدنية الغربية، وذلك لأنها الوسيلة المتاحة للخروج من المستنقع، مستنقع الفقر والمرض والتأخر والاتكال على الغيب. وبعض مثقفينا عثروا في الاشتراكية التي كانت مزدهرة في أوربا على مذهب اجتماعي يعين أوطاننا الراسفة في الأغلال على شق طريقها نحو الإنتاج والبناء والتقدم.

 

أحمد علبي







طه حسين





لينين





يحيي حقي





اليابانيون يحافظون على تراثهم التقليدي