غروب أحمد السّقاف خسارة كبرى للشعر والوطنية والوفاء

 غروب أحمد السّقاف خسارة كبرى للشعر والوطنية والوفاء

ما كدتُ أقرأ نعي صديق عمري الوفي الشاعر الكبير أحمد السقاف، حتى انهمرت الدموع الغزيرة من عينيّ المكدودتين، ولا عجب. فبيني وبين الراحل الحبيب إخاء يزيد على نصف قرن. وبحركة لا شعورية أخرجت دفتري الصغير من جيبي، لأحاول التنفس بهذين البيتين:

أبا أسامة دمعي من شراييني
كحال دمعك لو أصبحت ترثيني
أبكي عليك بدمع كله لهب
تغار منه دموعي في ثمانيني!!

***

التقيت بشاعر الكويت وأديبها الكبير الأستاذ أحمد السقاف لأول مرة عند زيارته لبغداد سنة 1957، فقد اتصل بي صديقه وصديقي المرحوم الأستاذ فالح القصاب هاتفيا ودعاني مع العائلة إلى وليمة عشاء عائلية في داره، وقال إن أديب الكويت الأستاذ أحمد السقاف يريد أن يراك، فلبيت الدعوة مع العائلة والتقيت السقاف وأم أولاده. ولاحظت أن نسر الكويت كان متواضعًا وصريحًا ومنصفًا وودودًا فدخل قلبي ولايزال فيه. وعلمت من أبي أسامة خلال ذلك اللقاء الذي لا ينسى أن في نية المسئولين في الكويت إصدار مجلة ثقافية راقية باسم «الخليج العربي» أو «العربي» وهم يبحثون لها عن رئيس تحرير. وقد طرح الرجل اسمين ضخمين على المسئولين هناك لاختيار أحدهما لهذه المهمة الأدبية العلمية الثقافية الكبرى، هما العلاّمة فؤاد صروف والعلامة أحمد زكي، فهنأته على حسن اختياره وأخبرته أن المفاضلة بين هذين العالمين الكبيرين ليست باليسيرة.

وسألني الأستاذ السقاف قائلا:

هل لديك مانع يا أستاذ حارث في أن تكون مساعدًا لرئيس التحرير أو مديرًا للتحرير؟

- لا مانع لدي وأرحب بهذه الوظيفة الكبيرة بشرط أن أبقى في وظيفتي كأمين لمكتبة المجمع العلمي العراقي!

- العمل في المجلة يتطلب أن تكون في الكويت.

- كيف أترك وظيفتي ولم يمض عليّ فيها سوى سنتين وبيني وبين التقاعد سنين عديدة؟!

- سيكون راتبك في المجلة ضخمًا جدًا يعوضك عما تفقده.

وفكّرت ثم اعتذرت ولم يدر بخلدي أن اعتذاري هذا سيسبب لي في المستقبل كوارث مالية، أنا الذي لا أملك من حطام الدنيا شيئًا! وصدرت مجلة العربي بعد عام من هذا اللقاء وكان رئيس تحريرها الدكتور أحمد زكي - رحمه الله - وكان الفضل لأبي أسامة في اختيار هذا العالم الكاتب الكبير لهذه المجلة الزاهرة.

وغادر الأستاذ أحمد السقّاف العراق وأنا أتتبع أخباره وأتمنى لهذا الرجل الأديب الذي يقدّر أهل العلم والأدب كل خير وتوفيق، ولكننا لم نتراسل، حتى إذا جاءت سنة 1964 ووصل بغداد عدد أبريل من مجلة العربي قرأت لشاعر الكويت الكبير الأستاذ أحمد السقاف فيه قصيدة غزلية وجدانية رائعة تحت عنوان «لمَ الهجر والصّد؟» هذا نصها:

يا حبيبي قل لي: لم الهجر والصّد؟
وأنا في هواك باكٍ مسهّدْ؟
أنتَ عندي كل الحياة وأني
قسمًا ما أسأت والله يشهدْ
إن يكن قد أتاك عني كلامٌ
فكلام الوشاة زور مفنّد
أنت في ناظري أعزّ من النو
ر وأنت النعيم بل أنتَ أزيدْ
كيف ترضى لي العذاب فقلبي
في هموم والفكر منّي مشرّد
وطعامي قد عفته ومنامي
لم أذقه، وكل عيشي منكدْ
وعلى العكس أنت في كل يوم
نزهة حلوة وحال مجدّد
أي ذنب جنيت حتى أجازى
- بأبي أنت - بالشقاء المؤبد؟
سائل الشارع الذي فيه دار
أنت فيها على الجميع مسوّد
كم حواني أطوف حولك حتّى
خالني ناسكًا أتى يتعبّد
رقّ لي بالذي براك من الحسـ
نِ وسوّاكَ فرقدًا أي فرقدْ
بالقوام الرشيق، بالبسمة الزهـ
راء بالناعسين بالثغر بالخدْ

ولما كنتُ في تلك الأيام أعاني ما أعاني من أزمة الصد والهجران، فقد عارضت هذه القصيدة بقصيدة من البحر نفسه والقافية نفسها، أما فكرة القصيدة فمناقضة لفكرة السقاف إذ كانت «ثورة عاشق» في حين أن قصيدة السقاف يصح أن تسمّى «ابتهالات عاشق». وقد أطلقت على قصيدتي اسم «نصيحة» وياليتني نصحت بها نفسي قبل أن أنصح بها الصديق العاشق. قلت:

لا تقل للحبيب: أسرفت في الصد
أيها العاشق الوفيّ المسهّد
لا تعاتب إذا استطعت سلوّا
واحذر الحب، أنه يتجدّد
لايصدّ الحبيب إلا لأمر
فاعرف السّر قبل أن تتعبّد
ربما ذبت من حنان وشوق
وتهاويت كالهشيم المبدّد
وتوهمتَ أن حالك! هذا
يستثير الوفاء في قلب من صد
لن يعود الوفاء بعد رحيل
فغياب الوفاء دوما مؤبّد
ربما حنّ نحو صب جديد
وترامى يقبّل الكفّ والخدْ
لا تقل: كيف؟ لا أصدّق هذا
وافتح العين جيدًا وتأكدْ
أيها العاشق الموله أقصر
إن (رؤيا) الوفاء لا تتجسد
قد أتيح الفضاء حلّق بعيدًا
أيها الطائر السجين المصفّدْ
وتنقّل من زهرة نحو أخرى
قبل أن ينضب الشباب وينفدْ
لقّن الهاجر المغامر درسًا
ليس ينساه دون أن تتردّدْ

***

والتقيت أبا أسامة في بغداد لقاءات عديدة في الستينيات والسبعينيات خلال المؤتمرات الأدبية التي مثل فيها الأستاذ السقاف الكويت، فاستعدنا وسعدنا بذكريات الخمسينيات الجميلة. وفي أواسط فبراير 1980 ذهبت مع زوجتي إلى الكويت للراحة والاستشفاء فزرت الصديق العزيز في مكتبه ببناية الهيئة العامة للجنوب والخليج العربي، وكان عضوا منتدبًا في هذه الهيئة، فتعانقنا وأخذنا نستعيد ذكرياتنا الجميلة، ولما علم بمرضي تألم كثيرًا وأشار عليّ بمراجعة طبيب مختص بأمراض الأنف والأذن يعرفه ويعرف حذقه في هذا المجال. وقد تفضل وكتب رسالة معطرة إليه جاء فيها أن يبذل عناية خاصة بي، فلبى الطبيب الرجاء على أفضل وجه، فشفيت بالبلسمين: الوفاء والدواء. ولما ودعت الكويت عائدًا إلى بغداد في 17 / 2 / 1980 أرسلت إلى السقاف في الكويت الرسالة التالية:

أخي الحبيب الأديب الشاعر الكبير الأستاذ أحمد السقاف حفظه الله وأعزّه

يا أبا أسامة،
يا هزار الخليج،
يا شقيق الروح،
لا يسعني وأنا أغادر الكويت الشقيق إلا أن أطيل في العناق وألح في القيل وأسكب دموع السرور التي سكبها أستاذنا شاعر النيل حافظ إبراهيم في المجمع العلمي العربي بدمشق عندما شكر صنع إخوانه في المجمع بقوله:

شكرتُ جميل صنعكم بدمعي
ودمع العين مقياس الشعورِ
لأول مرة قد ذاق جفني
- على ما ذاقه - دمع السرورِ

***

إن بلدًا من أبنائه السقاف يعز عليّ فراقه وتطيب لي الإقامة فيه ما شاء الله، فقد لمستُ من لطفك وكرمك ولمست أم طه من أختها أم أسامة من اللطف والكرم ما يعجز البيان عن تصويره. ألا قاتل الله كل شيطان، حتى شيطان الشعر، إذ كيف لايستحق اللعنة والموت وقد جاءني البارحة بأبيات خمسة في مجال لا أرضى فيه بالخمسين.. فاعذر أخاك والعن شيطانه.. وإليك الأبيات:

القلب قد أعطى زمامهْ
لأخي الحبيب أبي أسامة
الشاعر الحرّ المحلّق
فوق طود أو غمامة
والصاحب العربي في
أصل جلته لنا الشهامة
إني شربتُ وفي الكويت
- ولم أخف - منه المدامة
لم ينهها ربي فقد
كانت حديثًا وابتسامة

مع أسمى تقديري وتقدير أم طه لأخيها أبي أسامة وأختها أم أسامة حفظهما الله وأدام لهما جميع المحروسين بخير وعافية إن شاء الله، واسلم لأخيك.

المخلص حارث طه الراوي

وبعد أن أرسلت له هذ الرسالة اتصلت به هاتفيًا فعلمت منه أنه يعاني آلامًا مبرحة من «سن العقل» وأنه سيذهب إلى الطبيب لاقتلاعه.. فداعبته من بغداد برسالة مؤرخة بـ 6 / 3 / 1980 جاء فيها بخصوص «سن العقل» ما يلي: «.. تركتُ الكويت مرتاح البال لأنني أصبت قسطًا كبيرًا من الشفاء في جوّها الجميل ورعايتك الأخوية الممتازة، ولكن فكري كان منشغلاً بقضية السن الذي آلمك فاقتلعته، وخفف ألمي عليك، يا طويل العمر، كون سنك - كما علمنا - سن العقل. فالخلاص من أي جزء من أجزاء العقل راحة يتوق إليها في عالمنا الحاضر ليس أصحاب الحسّ المرهف من أمثالك وأمثالي وحسب بل حتى الذين لا يبلغ حسّهم هذه المرحلة المتقدمة من الرهافة والذين بقيت في عقولهم أجزاء كثيرة صالحة للاستعمال!».

فأجابني - رحمه الله - بالرسالة التالية المؤرخة في 28 / 3 / 1980:

أخي الأغر الأديب الشاعر حارث طه الراوي:

تحيّات ومودات ودعاء إلى الله بأن تكون كما أحب من كافة الوجوه، وبعد، فقد تسلّمت رسالتك المؤرخة في 6 / 3 / 1980 وقرأتها بضع مرّات، فقد كانت قطعة أدبيّة ممتازة، ولا غرو فيراع أخي أبي طه يأتي بالعجب العجاب. عزيزي أبا طه، أرجو أن تتأكد من أن أخاك مازال يشعر بالتقصير نحو زيارتك الخاطفة، فقد كان أسبوع زيارتك موعدًا لعلاجي كما رأيت. لذلك بلّغ أم طه تحيات أختها أم أسامة، فلقد طلبت مني ذلك تلفونيا من لندن، ولك من أخيك صادق الود وخالص الإخاء وإلى اللقاء إن شاء الله.

أحمد السقاف

وفي سبتمبر (أيلول) 1980 التقيت بالسقّاف في «الكويت» وكنت موفدًا مع أعضاء مكتب التربية العربي لدول الخليج» وذلك في دعوة شاي أقامتها «رابطة الأدباء» التي يرأسها السقاف لأعضاء المكتب. ثم التقيت به في «بغداد» في الثمانينيات خلال مهرجانات «المبرد» الشعرية ثم انقطعت أخباره عني إلى أن فوجئت بمأساة رحيله الأبدي - رحمه الله.

سمفونيّة الألم

المقطع الثالث والأربعون
في مدخل السّبعين..
شعر: حارث طه الرّاوي

هل تطفئ السبعون عمري؟
يارب وحدكَ أنتَ تدري..
قد خضتُ معركة الحيا
ةِ ولم يزل كالشّمسِ نصري
مَن فرَّ من فَقرٍ فإ
نّي بالإباء اخترتُ فقري!
وسموتُ بالزّهدِ المعـ
زِّ لزهد أستاذي المعرّي..
غيري يُحب المال.. يزحـ
فُ نحوه، والمال يغري..
يغري العبيدَ الخانعيـ
ـنَ ولا يقودُ زمامَ حُرِّ
أنا بالكفافِ أعيشُ مرتا
حًا يبزّ الألفَ صغري!
سبعون باركها
الإباء وأنه نهجٌ لعمري
سبعون.. ياللذكريات
تلوحُ من حُمرٍ وصُفرِ!
مازلتُ ذاكَ الطفل في
دنيا البراءةِ ليس يدري،
ما الحقد، ما الحسد اللعيـ
ـن ولا يميل لأيّ شرِّ
لم يصطنع مني الجحو
دُ حليفَ إيذاءٍ وغدرِ
أنا لا أُعادي بل أُعادي
مُذ سما في الناسِ قدري
ذنبي بأني قد علو
تُ وما هويت لأيّ قعرِ
ذنبي بأني لا أجامل
كاذبًا في أيّ أمرِ
جرّبتُ أصحابي فيا
ويلَ المغفّل حين يدري!
***
سبعون.. يُتعب عدّها
وبذكرها تعبٌ لفكري
وحدي هنا، والذكريا
ت تريقُ دمعي فوقَ خمري
والوحشةُ الكبرى تحا
صرني فهل يفترُّ ثغري؟!
يجتاحني الماضي كموجٍ
قد تلاطمَ فوق بحرِ
أيام حبّي آهِ من
عُمرٍ تقلّبَ فوقَ جمرِ
اليأس يجلدني وأجل
ده بليلٍ دون فجرِ!
أترقّب الطيفَ البخيـ
لَ فلا يرفُّ لموت صبري!
غدرت وأهواها كأ
ني بالهوى أدركتُ ثأري!
خلفَ البحارِ يزورها
طيفي ويصفعها بشعري!
حاولتُ أن أنسى وهل
يبقى المتيّمُ دون ذِكرِ؟!
فقبعتُ في سجن الجنو
نِ مُسلّمًا لله أمري!
قيس الملوّح لو رآ
ني هائمًا والدمع يجري
لنسى لواعجه وأجهـ
شَ باكيًا لغيابِ بدري!!
كم سرتُ في الرّوض الأغـ
نِّ كأنني في تيهِ قَفرِ
أحيا لذكراها وتحيا
كي تمزّقني بهجرِ!
ويقلنَ: «قد خان الرجا
لُ» فيالَبهتانٍ ومكرِ
***
سبعونَ في حربٍ ومثـ
لي لا يهادنُ أهلَ غدرِ
يستنكرون ترفّعي
وتغيضهم أنوارُ فكري!
ويثيرهم سيلُ النبو
غِ يصبُّ في شعري ونثري!
يستصغروني في الوظائـ
ـفِ وهي كم ضاقت بقدري
فأظلَّ في عزِّ الأميـ
ـرِ ولا تُردُّ سهامُ أمري!
***
سبعون فيها قد فقد
تُ أحبتي ففقدتُ صبري
أطيافهم ما فارقت
قلبي فهم حبّي وفخري
أسكنتهم بالخالدات
تموج سحرًا أيّ سحرِ
وبذكرهم ذاب الفؤا
دُ بدمع عيني وهو يجري!.

-----------------------------
* شاعر من العراق

 

حارث طه الراوي