طبيب الأسرة

هذا جَناهُ أبِي علَيَّ

عندما ضاقت الدنيا بأبي العلاء المعري واسودت في عينيه العمياوين ألقى بمسئولية معاناته على أبيه أحمد المعري فقال بيته المشهور:

هذا جناه أبي عليَّ

وما جنيت على أحد

فهل تراه كان على صواب فيما ذهب إليه؟

لن نناقش قضية ابي العلاء إذ اصابه الجدري بالعمي فسلب منه البصر فلم يكن التطعيم ضد الجدري قد ظهر وعرفه الأطباء في زمان أبي العلاء حتى نتهم والده بالتقصير معه.

فقد عثرت عيون العلماء على تراكيب على هيئة الخيوط في نوايا خلايا الجسم سموها بالصبغيات تعرف في لغة العلم بالكرموزومات عدوها فوجدوها 46 صبغية تحمل على متنها كل الصفات التي امتزجت معا من الأب والأم وسموها الموروثات، يدعوها أهل الوراثة باسم الجينات في لغتهم العلمية. ثم وجد الباحثون أن اثنتين من هذه الصبغيات قد خصصهما الخالق لتحديد جنس المخلوق، أطلقوا على إحدهما اسم صبغية إكس(X) والأخرى صبغية واي(Y) ولكنهم وجدوا أن خلية الأنثى تحمل في نواتها صبغيتين من نوع إكس فقط، بينما الذكر يحمل صبغية واحدة من نوع إكس(X) والأخرى من نوع واي (Y).

ذكر أم انثى؟
لهذا نجد أن بويضة الأنثى التي نعتبرها نصف خلية تحمل صبغية واحدة فقط لا يمكن أن تكون سوى إكس فيما يحتمل أن يكون الحيوان المنوي الذي يلقح البويضة وهو نصف خلية ذكرية من حملة الصبغية إكس أو هو من حملة الصبغية واي، إنها مسألة احتمالات.

لهذا لو تلاقي الحيوان المنوي غكس مع بويضة الأنثى إكس فإن الجنين المتخلق سيكون أنثى والعكس لو تقابل حيوان منوي من حاملي الصبغية واي مع البويضة فعندها سيولد الطفل ذكرا. من هذا نورى أن مسئولية قضية الذكر والأنثى هي قضية الزوج ولا شريك له في هذه التهمة.

ففي كل دفقة رجل ينطلق 200 مليون حيوان منوي نصفها يحمل صبغية إكس والنصف الآخر يحمل واي فيما تنطلق من الأنثى بويضة واحدة فقط تحمل بويضة إكس فهل بعد هذا شك في مسئولية الأب وحده فقط؟

أما في أمر العقم فقد ثبت أن الرجل متهم بنسبة الخمسين في المائة فيها، فيما تتهم المرأة بالخمسين في المائة الباقية، فلماذا حملوا المرأة مسئولية قضية قد يكون الرجل فيها هو العقيم لخلل ما يحول بين تخلق حيواناته المنوية، أو على الأقل عدم انطلاقها ووصولها إلى البويضة؟

مسئولية تشوه الجنين

إن القضية المطروحة على بساط البحث الطبي ه ي مدى مسئولية الأب عن حالة الإجهاض أو على الأقل تشوهات الأجنة وولادة أطفال غير أسوياء.

هذه القضية كان الطب ينتصر فيها للرجل ويلقي بتبعيتها على المرأة وحدها، حتى كانت الدراسات الأخيرة فإذا بنتائجها مذهلة تثير عجبا ودهشة.

فما الذي جاءتا به هذه الدراسات يا ترى؟ لقد ثبت للدراسين بما لايدع مجالا لشك أن الحيوان المنوي المشوه يؤدي إلى جنين مشوه أيضا إذا كا التحم بالبويضة حتى ولو كانت هذه البويضة سليمة وبالتالي ينتهي بالإجهاض. هذه الحقيقة تقودنا غلى سؤال آخر حتمي هو:
ما الذي يشوه الحيوانات المنوية أو يدمرها عند الرجل؟ دراسات جرت في مدينة ستوكهلم عاصمة السويد شملت 317 رجلا متزوجا من نساء شكواهن هي الإجهاض المتكرر أو كان بعضهن يشتكي من العقم.

لقد أكد البحث وجود تشوهات في تراكيب الحيوان المنوي بالرغم ن سلامة بويضة المرأة وأن هذه التشوهات تعود لأسباب عدة أهمها:
الإسراف في التدخين والإدمان على المخدرات أو تعاطي العقاقير، هذا بالإضافة غلى الإصابة ببعض من الأمراض الفيروسية التي لم تكن تعار أية أهمية كالإنفلونزا مثلا أو النكاف أو الجدري وما إلى ذلك من أمراض فيروسية عبارة لا يأبه لها الطب.

كذلك مرض السكر أو ربما الأمراض الهرمونية الأخرى.

بل هم وجدوا أيضا أن سوء تغذية الرجل ونقص بعض عناصر التغذية الرئيسية عنده كالأملاح المعدنية مثلا أو الفيتامينات تشكل عوامل مؤثرة في اعتلال الحيوان المنوي عند الرجل مما ينعكس عقما أو إجهاضا أو جنينا معيبا.

مساوئ التدخين
دراستان إحداهما جرت في اسكتلندا والأخرى جرت في المجر أكدتا أن تدخين الرجل يؤدي غلى تشوه حيواناته المنوية أو إلى تخلق حيوانات شاذة أو ضغيفة ومعتلة.

لقد درسوا في ألمانيا حالات 6714 أمرأة حاملا متزوجات من رجال يدخن 46 بالمائة منهم، فكانت النتيجة أن معدلات الإجهاض والولادات قبل الموعد أو الولادات لأطفال ناقصي النمو أو ربما وفاتهم عقب الولادة كانت تتركز بكثرة بين النساء المتزوجات من مدخنين، لقد ثبت أن دخان السيجارة يحوي 30 مادة مطفرة (المادة المطفرة هي التي تحدث تغيرا في التركيب الوراثي للخلية مما نسميه طفرة) أو ربما قاتلة للصبغيات التي في نواة الخلية، مما ينتقل عبر السلالات فيما بعد.

أما المواد المجدرة فهي اشد وطأة وأبعد أثرا على الصبغيات مندخان السجائر فالكحول مثلا يثبط غفراز الهرمون الذكري المعروف باسم التستوستيرون من خلال تاثيره على الغدة النخامية التي تتحكم في إفرازات غدة الخصية، كذلك كان شأن سيجارة واحدة فقط من مخدر الحشيش المعروف فهي تؤثر على إفراز التستوستيرون وعلى إنتاج الحيوانات المنوية أيضا فتقتل عددا وتضعف حركة عدد آخر وتشوه خلقا.

العقم المؤقت
وفي الدراسات التي جرت خلال موجة أوبئة الإنفلونزا العالمية، التي سموها في حينها بالإسبانية والآسوية وما إليهما من أسماء، فقد وجدوا أن خصوبة الرجال المصابين كانت تتدنى إلى معدل 50 بالمائة وبالرغم من أنه عقم مؤقت فإنه يدوم قرابة أربعة أشهر متتالية.

كذلك وجدوا أيضا ذات النتيجة في فنلندا بالنسبة لعدوي الأمراض الفيروسية الأخرى مثل النكاف والحصبة الجديري (أو جدري الماء). طبعا لن يفوتنا أن نذكر أمراضا قديمة ينقلها الجنس إلى النساء ومن ثم إلى أحمالهن من الأجنة من بعدهن مثل مرض الزهري أو السيلان أو الإيدز فهي قضايا لا تستحق منا تأكيدا أو تكرارا، ولكن الذي يحتاج إلى التأكيد والتكرار حقا هو أن الرجل غالبا ما يكون هو "منبع العدوى لزوجته".

لقد درسوا أثر تغذية الرجل أيضا فوجدوا أن نقص أملاح الزنك أو المغنسيوم له أثر مدمر على الحيوانات المنوية وتخلق أشكال غير طبيعية منها، هذا إلى جانب نقص عدد ما يتخلق سليما منها، وضعف حركته.

والزنك على ما نعلم ينقص عادة في الخبز الذي تزيد فيه النخالة على نسبتها المعقولة لوفرة في مادة تسمى حامض الفايتيك تمنع امتصاص الزنك في الأمعاء. كذلك يفعل المغنيسيوم الذي ينقص مع وفرة تعاطي الكربومائيات النقية مثل السكر والخبز الأبيض والأرز المقشور التي تفتقر إلى المغنسيوم.

لقد وجدوا ايضا أن نقص فيتامين "أ" عند الرجال له مفعول مدمر للأنسجة الخلاقة للحيوانا المنوية في أنسجة الخصية كما أن نقصه له تأثير مضعف للمناعة الجسدية ضد الأمراض مما يهيئ الإنسان لعدوى الفيروسات.

لم يعد الرجل بريئا كما كنا نتوهم، فلا عجب إذن لو سمعنا أن هناك من يطالب بعيادات لفحص الرجال بمثل ما هناك عيادات خاصة للنساء الحوامل.