باشلار يرد على أفلاطون

باشلار يرد على أفلاطون

لطالما نظر البعض إلى الفلسفة بوصفها نقيضًا للشعر أو على الأقل مقاربة مختلفة ومغايرة لفهم العالم. ومع أن كليهما يشتغل على الإنسان والكينونة وسبر أغوار الوجود، فإن كلا منهما يفعل ذلك بأسلوبه الخاص ولغته المميزة. صحيح أن قدرًا من الخيال ينبغي أن يتوافر لكل من الفيلسوف والشاعر، إلا أن الأول يستخدم الأسلوب التحليلي والاستقرائي ويتكئ على الفرضيات والبراهين والأسباب والنتائج في تفسيره للظواهر أو في طرحه للأسئلة، في حين أن الثاني يعتمد على الاستعارة والمجاز والصور المباغتة، التي تكسر قوانين العقل وقواعد اللغة الجاهزة. وهو ما يؤكده قول بيرغسون بأن «الشعر الحقيقي هو الذي يرفع فيه العقل الكلفة مع الطبيعة».

كان ثمة على الدوام توجس متبادل بين الشعراء والفلاسفة. وهو توجس مزمن أوصله أفلاطون إلى ذروته حين طالب بإخراج الشعراء من جمهوريته المفترضة أو المتخيلة بسبب هشاشتهم ومزاجهم الانفعالي المتقلب. أما الشعراء بدورهم فلم يقصّروا في الرد حين اعتبروا أن الفلسفة، كما العقل والمنطق، تفسد الشعر وتحوّله عن طبيعته ليصبح مجرد حذلقة لغوية، أو تراكيب ذهنية باردة. وإذا كان سوء الفهم بين الطرفين قائمًا في الثقافات واللغات كلها، فإنه يصبح عند العرب أكثر ضراوة وتفاقمًا لأن الشعر العربي ارتبط بالحماسة والعاطفة والتدفق الغنائي أكثر من أي شعر آخر. وإذا كان العرب قد تساهلوا قليلاً مع سعي المتنبي إلى التوفيق بين الفضاء التخييلي والأسئلة الوجودية والفلسفية، فإنهم لم يتساهلوا بالقدر ذاته مع جنوح أبي العلاء المعري المتزايد نحو التأمل الفلسفي ذات اللمسة العقلانية الواضحة أما وصف البعض له بأنه شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء فلم يحمل دائمًا على محمل إيجابي، بل كان يأتي مشوبًا بالحذر والالتباس والتشكيل في قدراته الشعرية، تمامًا كما كان حال ابن عربي وابن الفارض وبعض الشعراء الصوفيين. وحتى في العصر الحديث ثمة من أخذ على أدونيس وخليل حاوي وآخرين أيضًا انشغالهم بالفكر والمعرفة على حساب الشعرية الخالصة.

لست هنا لأقدم بحثًا معمقًا حول العلاقة بين الفلسفة والشعر أو حول نقاط التشابه والاختلاف التي تحكم هذه العلاقة، لأن الأمر يحتاج إلى بحوث طويلة ومعمقة لا يتسع لها المقام. إلا أن ما أنا بصدده هو الإشارة إلى تجربة معاصرة ونادرة استطاعت أن توسع مساحات اللقاء بين الطرفين، هي تجربة الفيلسوف الفرنسي الشهير غاستون باشلار. فباشلار الذي نقل الفلسفة، كما فعل سارتر وأترابه الوجوديين، من عهدة الميثولوجيا الغيبية إلى عهدة الإنسان لم يشغل نفسه بأصل العالم ومآله، وغير ذلك من الأمور التي يمكن للعلوم الوضعية أن تتكفل بها، بل عمل على سبر أغوار السلوك البشري وتحليل الظواهر الاجتماعية والأخلاقية ووضعها تحت منظار التأمل والتعليل والاستنتاج. وهو إذ يفعل ذلك ينقل الميثولوجيا من إطار الشعوذة والتنجيم والضرب بالرمل إلى إطار إبيستمولوجي ونفسي نكتشف من خلاله أن الواقع ضرب من ضروب السحر وأن اللامرئي هو الوجه الآخر للمرئي.

يكاد باشلار من غير زاوية من الزوايا أن يكون فريدًا وغير مسبوق في رؤيته إلى العالم، كما في لغته وأسلوبه وطريقة فهمه للأشياء.

ففي كتابه الرائع «جماليات الكون» يساعدنا على اكتشاف العلاقة بيننا وبين البيت الذي نسكنه أو الحديقة التي تجاوزنا أو الفضاء الذي يلفنا من كل جانب، غائصًا في أبعاد الغرف والمطابخ والحمامات والشرفات والأقبية والسلالم بما يحملنا على الانتباه لتلك الجنة الوارفة من المنسيات، على حد تعبير سعدي يوسف. وكذلك الأمر في «شاعرية أحلام اليقظة» حيث يدخل في أغوار النفس البشرية مستظهرًا بشكل دائم ذلك المخزون الهائل من الظلال التي تهب من جهة الطفولة والتي لن يستطيع الشعراء من دونها أن يحققوا أي إنجاز يذكر. وفي كتابه الآخر «الماء والأحلام» يرسم باشلار لنا عالمًا أثيريًا منتزعًا من مياه الحياة الغابرة التي يتكفل لمعانها الخلاب بتغذية المخيلة البشرية ورفدها بأجمل أنواع الشعر، فيقول: «الماء هو العين الحقيقية للأرض. والماء هو الذي يحلم في عيوننا، أوليست عيوننا هي هذه البركة الصغيرة وغير المكتشفة من النور السائل الذي وضعه الله في أعماقنا؟». ولو كان باشلار عربيًا أو يحسن العربية لعرف أن تحليله العميق للعلاقة بين الماء والعين يجد ترجمته عند العرب بتسمية النبع المائي الذي لا يبارح مكانه ولا ينضب في الوقت ذاته بالعين، وأن «العين» تلك باتت مصدرًا أساسيًا من مصادر الفولكلور الشعبي في الكثير من دول العرب.

لم يكتف غاستون باشلار أخيرًا بمصالحة الفلسفة مع الشعر بل بدا كأنه يرد على سلفه أفلاطون وينتقم للشعراء من مواقفه «الجائرة» بحقهم. لا بل إنه يذهب أكثر من ذلك إلى دعوة الفلاسفة الرازحين تحت سطوة البرودة القارصة والجمود العقلي للتمثل بالشعراء في عذوبتهم وانتشائهم الباهر بالعالم، حيث يقول: «إن نماذج الشعر المثالية مخزونات حماس تساعدنا على الإيمان بالعالم، على حب العالم وخلقه. وكم من حياة حقيقية يعيشها الفلاسفة الذين يتكلمون عن الانفتاح على العالم لو أنهم قرأوا الشعراء».
---------------------------------
* شاعر من لبنان.

 

 

شوقي بزيع*