الحرب التجارية العالمية البديل الجديد للحرب الباردة سامي منصور

الحرب التجارية العالمية البديل الجديد للحرب الباردة

يشهد المجتمع الدولي هذه الأيام بدايات مرحلة الحرب التجارية العالمية، وأظن أنها سوف تكون أكثر ضراوة. وأوسع إطارا من الحرب الباردة التي انتهت مع نهاية الثمانينيات، وهي باليقين سوف تختلف عن الحرب التجارية التي شهدها القرن الماضي في بداية موجة الاستعمار. فالحرب الباردة التي استمرت لحوالي نصف القرن العشرين كانت مغامرة سياسية قائمة على صناعة التوتر المحكوم، أي الذي يخضع لعدد من الضوابط التي تحول دين انتقاله إلى حالة الحرب الحقيقية.

ليس ذلك نتيجة أخلاقيات أو قيم، بقدر ما هو نتيجة أن الحرب العالمية الثالثة كانت تعني انتحار العالم كله أمام القدرة على تبادل الدمار الذري. وقد أتقنت كل الأطراف دورها، حتى انتهت مرحلة الحرب الباردة بانهيار مفاجئ وغير محسوب لأحد قطبيها وهو الاتحاد السوفييتي ومجموعة الدول الشيوعية الأوربية. وغياب الانقسام العالمي على أساس أيديولوجي بين العملاقين سارع بالكشف عن بدايات الحرب التجارية التي كانت ملامحها قد بدأت في الظهور خلال السنوات الأخيرة للحرب الباردة، خاصة أن فراغ كرسي أحد العمالقة قد فتح الأبواب لإمكان تغيير النظام العالمي الثنائي إلى نظام متعدد، نتيجة ظهور أكثر من عملاق يملك كل منهم كل مؤهلات شغل المكان الخالي، مثل اليابان وألمانيا بعد التوحيد، وذلك على أساس احتمال استمرار الوضع على الأقل لبقية التسعينيات القائم على بطولة الدول وليس التجمعات الإقليمية والوحدوية.

مأزق نهاية الحرب الباردة

والحقيقة أن غياب العدو من وجهة نظر الدول الرأسمالية الكبرى، وهو الاتحاد السوفييتي، لم يكن فاتحة خير كما تصور البعض بأحلام وأوهام صاغتها أجهزة الإعلام العالمية، وهي أحلام لم تستطع الصمود طويلا أمام الواقع بكل حقائقه، فانتهاء الحرب الباردة بدلا من أن يكون بداية توجيه الإمكانات الاقتصادية نحو النمو ورفاهة الإنسان إذا به يرفع الأغطية عن الأزمة بالغة العمق والاتساع في النظام الرأسمالي الذي حال دون احتفاله بأكذوبة الانتصار.

فقد ظهر أن الأزمة الاقتصادية بالغة الخطورة، وقطعت أشواطا طويلة في الظلام - الإعلامي - اكتسبت خلالها أبعادا جديدة ودولا عديدة، وإن كانت ذروة الأزمة في الاقتصاد الأمريكي حتى أنها غيرت لأول مرة منذ سنوات طويلة نظام الحكم الأمريكي من الجمهوريين إلى الديمقراطيين. وهي ليست من تلك الأزمات التي عرف بها النظام الرأسمالي وهي أزمة الدورة الاقتصادية، ولكنها هذه المرة أعمق من ذلك وأوسع حيث شملت قواعد النظام نفسه.

وكانت تلك الأزمة أحد الأسباب وراء اندلاع الحرب التجارية العالمي، إذ كانت السبب في أن يحاول كل طرف من الدول الرأسمالية إنقاذ نفسه من السقوط في الهاوية التي سبق أن ابتلعت النظام الماركسي الأوربي، حتى لو كان ذلك على حساب الحلفاء والأصدقاء.

وإذا كان العالم قد عرف الحرب التجارية في أكثر من مرة في الماضي البعيد، فإنه من الواجب معرفة ما انتهت إليه هذه التجارب، ليس من منطلق أن التاريخ يعيد نفسه، ولكن لأن هناك ثوابت مشتركة لهذه التجارب عبر العصور، رغم اختلاف أطراف تلك الحروب وظروفها وعصورها. فالخط الثابت المشترك هو أنها كانت بداية انهيار إمبراطوريات ومولد عمالقة جدد، فهي - الحرب الباردة - كانت أداة لتحقيق الهدف، ولم تكن الهدف ذاته، وهو القوة والسيطرة، وبذلك كان معروفا أن التجارة والسوق في العالم كانت دائما أحد مجالات الصراع، بالتالي فالحرب التجارية أداة رئيسية في الصراع.

في انتظار العملاق القادم

يضاف إلى ذلك عنصر آخر لأسباب تلك الحرب القادمة بسرعة، وهو أن سلاح التجارة هو أقوى أسلحة العمالقة الجدد، حتى أنه كان يطلق عليهم منذ سنوات: عمالقة في الاقتصاد وأقزام في القوة العسكرية. فقد اختار العمالقة الجدد في ظل تسويات الحرب العالمية الثانية سلاح الاقتصاد وتركوا السياسة والسلاح للمنتصرين في تلك الحرب. وأبرز الأمثلة لذلك الوضع في اليابان وألمانيا، فقد قبلت كل منهما هيمنة عسكرية، وكثيرا ما كانت هذه الهيمنة سياسية خارجية تمثلت في قوات مسلحة وقواعد عسكرية، بل ووصاية على القرار السياسي الدولي، وانشغلت عن ذلك ببناء الكيان الاقتصادي، حتى جاء اليوم الذي أخذت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية تستجدي كلا منهما - اليابان وألمانيا - أن تتحمل جزءا من أعباء القوات الأجنبية على أرضها، ثم اتسع الطلب إلى المشاركة في مسئولية الدفاع عن الحلفاء ورفع القيود عن بناء الترسانة المسلحة. ورغم أنه أصبح لكل منهما ترسانة مسلحة ضخمة، إلا أنها لا تقارن بما لدى الحلفاء الآخرين خاصة في غياب السلاح الذري من ترسانة كل منهما. وكان طبيعيا لفلسفة عدم الاعتماد على السلاح والاعتماد على الاقتصاد أن أصبحت التجارة العالمية وأسواقها هي سلاح العملاقين الجديدين، ليصبح لكل منهما مكانة في القرار الدولي، خاصة بعد أن أصبح أحد الكرسيين على القمة خاليا ينتظر العملاق القادم.

التحالفات التجارية الجديدة

وهكذا نجحت كل العناصر لاندلاع الحرب التجارية العالمية في رحلة التسعينيات، لتكون البديل للحرب الباردة، مع اختلاف الأطراف والأوقات، فأطراف تلك الحرب الجديدة ثلاثة، هي الولايات المتحدة وألمانيا الموحدة واليابان. ورغم أن كلا منها قادر على خوض الحرب، فإنه مثلما حدث في الحرب الباردة، اتجهت أطراف الحرب إلى التحالفات وتشكيل الجبهات، فالولايات المتحدة قامت بتشكيل جبهة من كندا والمكسيك، بينما وقفت ألمانيا وراء سرعة خطوات الوحدة الأوربية، لتكون خلفها جبهة أوربية. واتجهت اليابان إلى محاولة لم تكتمل بعد لتشكيل جبهة آسيوية تعتمد على نمور آسيا.

وهكذا بدأت مناوشات الحرب التجارية العالمية بين هذه الجبهات الثلاث، فكانت بين أمريكا وأوربا حول مسألة الحاصلات الزراعية، ورغم كل عناصر العمل المشترك بين أوربا والولايات المتحدة فإن ذلك لم يمنع الخلاف الذي تحول إلى حرب، فأوربا ترى أن الولايات المتحدة تحاول إنقاذ اقتصادها علي حساب الحليف الأوربي، إلى درجة فرض رسوم جمركية على بعض السلع الأوربية. والغريب أنه في الوقت الذي تطالب فيه واشنطن أوربا بوقف دعم الحاصلات الزراعية، تقدم هي دعما ضخما لحاصلاتها الزراعية، فهي تدعم المزارعين الأمريكيين بحوالي 8.4 مليار دولار سنويا، أن عددهم لا يزيد على مليوني مزارع، بينما تدعم أوربا مزارعيها بمبلغ 34 مليار دولار، في وقت يبلغ فيه عددهم 11 مليون مزارع، أي أن معدل دعم المزارع الأمريكي 4.2 ألف دولار مقابل 3.33 ألف دولار للمزارع الأوربي.

وإذا كانت الحاصلات الزراعية هي ساحة الحرب بين أوربا وأمريكا فإن السيارات هي ساحة الحرب بين أمريكا واليابان، إذ إن السيارات تشغل حوالي 70% من حجم العجز التجاري الأمريكي مع اليابان، وأصبح لقاء القمة بين اليابان والولايات المتحدة معلقا على مشكلة فتح الأسواق اليابانية للسلع الأمريكية.

والواقع أن الميزان التجاري بين أمريكا وأوربا يتسم بتبادل المواقع من عام لآخر، بمعنى أنه قد يكون في صالح طرف لعام والآخر لعام آخر، وإن كان منذ التسعينيات قد أصبح في صالح الولايات المتحدة، بينما الميزان التجاري بين أمريكا واليابان هو في صالح اليابان على طول الخط السنوات المتتابعة حتى الآن. وقد وصل إلى 44 مليار دولار في العام الماضي 1992. والمشكلة هي أن معدل نمو الصادرات مقارنا بالواردات في غير صالح الولايات المتحدة بشكل خطير، حيث تتجه إلى الاستيراد، بضعف الاتجاه نحو التصدير وفق أرقام الأمم المتحدة. فإذا أخذنا فترتين للمقارنة الأولى من 1965 حتى 1980، والثانية من 1980 حتى 1990 فسوف نجد أن معدل نمو الصادرات الأمريكية قد هبط إلى النصف تقريبا، فبعد أن كان 6.4% أصبح 3.3% بينما ارتفعت وارداتها بمعدل 7.6% بعد أن كانت 5.5% وبالتالي فإن معدل نمو الواردات ضعف معدل نمو الصادرات، وتغير ذلك يحتاج إلى ثورة في أسلوب معيشة المواطن الأمريكي ونمط استهلاكه، وهو أمر يبدو في ظل معطيات الوضع الحالي شبه مستحيل، فالواردات الأمريكية تبلغ قدر صادراتها مرة ونصفا، بينما نجد الوضع بالنسبة لليابان مثلا أن معدل نمو صادراتها قد انهار من 11.4% إلى 4.2% بينما معدل نمو وارداتها قد زاد من 4.9% إلى 5.6% فقط، وهو ما يعني أن الفارق في المعدل بين الواردات والصادرات حوالي 1.4% وهو ما لا يبتلع الفارق الضخم في زيادة حجم الصادرات عن الواردات إلا إذا استمر هذا الوضع لسنوات طويلة.

ووضع ألمانيا كان مختلفا، ففي الوقت الذي انخفض فيه معدل نمو صادراتها في المرحلة الأولى من 7.2% إلى 4.2% في المرحلة الثانية، انخفض معدل نمو وارداتها من 3.5% إلى 2.9% أي أن معدل نمو وارداتها أقل من معدل نمو صادراتها وهو ما يساعدها على تحويل ميزانها التجاري إلى صالحها.

التجسس .. اقتصاديا!!

وهكذا يبدو أن الموقف الأمريكي في هذه المعركة هو على الأقل ليس في صالحها، ما بقيت معطيات الإطار الاقتصادي الأمريكي على ما هي عليه، فإن نجح برنامج كلينتون في التنفيذ، فربما يغير بعض العناصر، ولكن احتمال أن يجد من الاقتصاد الأمريكي القدرة على تجسيد الطموح السياسي في دور العملاق الأوحد لهو أمر مشكوك فيه. فهو مثلا ورث معركة دعم الحاصلات الزراعية بين أمريكا وأوربا، وفي الأيام الأولى له، فبدلا من أن يستطيع إخماد الحرب بين الحلفاء، إذا به يفتح جبهة جديدة وهي الطيران التجاري، وهو ما لا يساعد على التهدئة.

وأظن أن ما نشرته الصحف الأمريكية في فبراير الماضي أي بعد تعيين كلينتون لمجلس وزرائه وبقي فقط منصب مدير المخابرات المركزية، أمر يستحق الوقوف عنده، فقد قالت الصحف إن شخصية المدير الجديد لا بد أن يكون لها بعد اقتصادي، إذ من المطلوب توسيع مهام المخابرات المركزية ليدخل فيها مهمة التجسس الاقتصادي، وذلك بجمع المعلومات من الشركات لمساعدة الشركات الأمريكية على المنافسة في الأسواق العالمية على حد تعبير تلك الصحف، بل إن المتحدث باسم البيت الأبيض قد أعلن أن الرئيس يرغب في أن تركز المخابرات المركزية دورها على حماية المصالح الاقتصادية الأمريكية، والتجسس الاقتصادي على الدول الأخرى التي تنافس الولايات المتحدة، وهو ما يعني إدراك الإدارة الأمريكية الجديدة أن الحرب التجارية قد بدأت، وليس هناك ما يضع حدا سريعا لها، إلا بحسم المعارك لصالح طرف أوآخر من أطراف تلك الحرب.

وأظن أن صورة العالم سوف تتغير نتيجة هذه المعارك، وهذه أولى ضحايا أكذوبة السوق الحرة أو السوق العالمية المفتوحة بمعنى أدق، فقرارات الحماية وفرض الجمارك سوف تصعد من هذه الحرب، وأظن أن الدول الصغيرة أو التي كان يطلق عليها خلال الحرب الباردة العالم الثالث سوف تدفع ثمنا غاليا في هذه الحرب.

 

سامي منصور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الحرب التجارية كانت أداة رئيسية في الصراع سواء في التجارة أو السوق





تحملت ألمانيا جزءا من تسليح القوات المنتصرة في الحرب العالمية الثانية