اللغة حياة: قلّما يَصلح شرح الكلمة لاستنباط معناها الصرفيّ

اللغة حياة: قلّما يَصلح شرح الكلمة لاستنباط معناها الصرفيّ

كثير من المشتغلين باللغة يحاولون التفريع على ما قرّره القدماء من معان صرفيّة، فيفسرّون المزيدات تفسيرًا خاصًّا ومتكلّفًا، أو يعوّلون على تأويل معجميّ لايخلو من التكلّف، ثم يستنبطون من ذلك التفسير معنى صرفيًّا، قد يُنتقض لو اعتمدوا تفسيرًا مختلفًا، ولاسيّما إذا كان ذلك التفسير المختلف صادرًا عمّن هو أوثق منهم.

المثال على ذلك أنّهم يجعلون من معاني التضعيف الصرفيّة في وزن «فَعَّلَ» معنى السَّلْب، ويفسّرون السلب بإزالة الحال أو العملِ، ويضربون على ذلك مثلًا فعلَ مَرَّضَ، زاعمين أنّ التمريض هو القيام على المريض ومداواته ليزول مرضه، وبذلك قال لسان العرب مثلًا، أي أنّهم بنوا المعنى الصرفيّ على ما افترضوه غاية للعمل، ولو كان الافتراض بعيدًا. وذلك لا يستقيم: ففي الحديث النبويّ مثلًا أَنّ النبيّ [ لَمَّا اشتدّ مرضه، طلب أَنْ يُمَرَّضَ فِى بيت زوجته السيدة عائشة، فخَرج متّكئًا على رَجُلَيْنِ يجرّر قدميه، ولمّا دخَلَ بَيْتَه طلب أن يُفرغوا عليه الماء لعلّه يكتب للناس عهدًا. فالتمريض هنا هو العناية بالمريض المحتضر، ولا يمكن أن تكون الغاية منه إزالة المرض.

وممّا قاسه ابن سيده على «مَرَّضَ» فعل «فزَّعَ»، وذلك في توجيه الآية الكريمة {حَتّى إذا فُزِّعَ عَنْ قُلوبِهِمْ} سورة سبأ آيه رقم 23 ***** جاعلًا للتفزيع معنى إزالة الفَزَع؛ والحقيقة أنّ فِعْل فَزِع قد يُضمَّن معاني متعدّدة من خلال تعديته بحروف الجرّ، فيقال: فَزِعَ إليه، أي لجأ إليه، وفزع من نومه، أي هبّ منه، وفزع له، أي اهتمّ له أشدّ الاهتمام؛ واليوم تستعمل العامّة هذه العبارة بمعنى تعصّب له وهبّ لنصرته. ونعتقد أنّ عبارة «فَزِع عنه» ضُمِّنت معنى ذَهب عنه، فصار معناها: ذهب الفزعُ عنه، ثمّ جاء التضعيف ليدلّ على التعدية ويصبح معنى الفعل: أَذْهَبَ عنه الفزعَ، ويكون تفسير الآية: حتّى إذا أُذهِبَ عنكم الفزعُ. فمعنى الإذهاب القريب من معنى الإزالة، قد دلّ عليه التضمين بحرف الجرّ «عن»، وليس التضعيف الذي استعمل للتعدية فحسب.

وممّا تكلّفوا فيه وزنُ «أَفْعَلَ»، إذ جعلوا من معانيه الصيرورة، واستشهدوا على ذلك بالفعل أَفْلَسَ، زاعمين أنّه يعني: صار ذا فُلوس، وهو زعم غريب، فلا أحد يتصوّر هذا المعنى في هذا الفعل. والمعروف أنّ المُفْلِس هو الذي نفد ماله، فعجز عن أداء دينه؛ لكنّهم أرادوا ربط معنى الفعل بلفظه، فلم يجدوا إلا معنى امتلاك الفلوس؛ وكيلا يبدو الأمر غريبًا طوّعوه بصورة إنشائيّة فقال الجوهريّ مثلًا: «أَفْلَسَ: صار مُفلسًا، كأنّما صارت دراهمه فلوسًا»، فالصيرورة عنده هي الانتقال من حال الغنى إلى حال الفقر، وقد لجأ إلى التشبيه، للربط بين الفلوس والإفلاس، وهو أمر مقبول، لأنّ التشبيه يدلّ على الاحتمال والشكّ. لكنّ ابن سيده جعل الشكّ يقينًا حين قال :«أَفْلَسَ الرجلُ: صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دراهم»؛ وعنه أخذ ابن منظور بصورة شبه حرفيّة، زائدًا على ذلك عبارة الجوهريّ بحرفها. وبناء على زعم ابن سيده وأمثاله نسب بعض المشتغلين باللغة معنى الصيرورة إلى وزن «أَفْعَلَ». وقد قاس ابن منظور على «أَفلسَ» فعل «أَخْبَثَ» ومعناه عنده: صار أصحابُه خُبثاء، وأَقْطَفَ: صارت ناقته قَطوفًا (بطيئة). فالصيرورة في ذينك الفعلين تقع على الآخر أو على الأداة وليس على القائم بالعمل. لكنّ ابن منظور نفسه يفسّر فعل أخبثَ، في موضع آخر، بصارَ ذا خُبْثٍ، وبعَلَّمَ الناسَ الخُبثَ، وبِنَسَبَ الناسَ إلى الخُبثِ. وليس للمعنيين الأخيرين أيّ صلة بالصيرورة. والجوهريّ يفسّر فعل أَقْطَفَ بكانتْ دابّتُهُ قَطوفًا. وذلك وصف للحال وليس للصيرورة.

والطريف أنّ ابن منظور يستدرك على شرحه لفعل أَفْلَسَ، فيرى أنّ معناه هو : «لم يبق له مال؛ يراد أنّه صار إلى حال يقال فيها: ليس معه فَلْسٌ»، ويشبِّه ذلك بعبارة: أَقْهَرَ الرجلُ، ومعناها عنده :«صار إلى حال يُقهر عليها»؛ وبعبارة: أَذَلَّ الرجلُ، ومعناها عنده: «صار إلى حال يَذِلّ فيها». وذلك يعني أنّ صاحبنا لا يبني المعنى الصرفيّ على التفسير فحسب، بل على تفسير التفسير، وهذا إيغال في الافتراض. وتعويله على تفسير التفسير ناشئ عن إصراره على معنى الصيرورة، إذ إنّه لو اكتفى بالتفسير البسيط لخرج عنده أنّ وزن «أَفْعَلَ» في أَفْلَسَ يدلّ على عدم البقاء أو على النفاد. ولعلّ ذلك ما حمل أحد أصدقائنا اللغويّين على ردّ وزن «أَفْعَلَ» في أَفْلَسَ إلى معنى السلب الذي تحدّثنا عنه منذ قليل عند تناوُلنا للتمريض، أي افترض أنّ فَعَّلَ وأَفْعَلَ كلاهما يؤدّي ذلك المعنى الصرفيّ، وقد أيّد رأيَه بفعل أَعْتَبَ، وهو عنده بمعنى أزال العَتْب. والحقيقة أنّه لا وجود لمعنى الإزالة لا في أَفلسَ ولا في أَعتبَ. نعم ربّما كان في أفلس معنى زوال المال، وهو قريب من السلب، لكنّ أعتبَ يُفسَّر بطرق متعدّدة، وهي: أعطاه العُتْبى أي الرضا، رَجَعَ إلى ما يُرضيه، رجع إلى مسرّته برجوعه عمّا ساءه منه، أرضاه بعد إسخاطه، استدرك ما يثير موجدته، أصلح ما كان سببًا للموجدة، ،الخ. وليس في كلّ ذلك شيء يدلّ على الإزالة التي أشارت إليها بعض المعاجم الحديثة.

والحقيقة أنّنا قلّما نستطيع أن نعرف كيف نشأ معنى العبارة الأول، وكيف ارتجله العربيّ أو اقتبسه. ومعروف أنّ العرب أخذوا الدرهم عن الكلمة اليونانيّة: دراخما وإن ردّتها بعض المعاجم القديمة إلى الفارسيّة - ولا يُستبعد أن يكونوا قد أخذوا عن اليونانيّة كلمة الفَلس أيضًا، فالفَلس في اليونانيّة هوأُبُلُس؛ وكما حرّفوا لفظ دراخما عند تعريبه فجعلوه بلفظ دِرهم، فيمكن أن يكونوا قد حرفوا لفظ أُبُلُس إلى أُفُلُس أو أُفُلوس، فمخرج الباء والفاء واحد، ثمّ صارت الكلمة عندهم أَفْلُس وفُلوس، وعُدَّت جَمْعًا استخرجوا له مفردًا هو فَلْس. وهذا الاحتمال، إذا صحّ بصورة أو بأخرى، يقبل احتمالًا آخر هو أن يكون العرب قد اقتبسوا فعلًا يونانيًّا على صلة بما عرّبوه ويدلّ على نفاد المال، وجعلوه بلفظ أَفْلَسَ، من غير أن يفكّروا لا بالصيرورة ولا بالسلب.

المهمّ أنّه لا ينبغي التعويل في دراسة المعنى الصرفيّ للّفظ على طريقتنا في شرح معناه، ولا الاكتفاء ببضعة شواهد لنسبة معنى صرفيّ خاصّ إلى وزن معيّن، بل يجب اعتماد طرق أكثر دقّة وشمولًا تتّصل بجوهر التركيب، وتعوّل على مدوَّنة شواهد واسعة، دالة على المعنى الصرفيّ المستنبط، وإلاّ تعدّدت المعاني الصرفيّة واختلفت بتعدّد الشروح واختلافها، وبدا ترك الأمر حينئذ أولى، وأرحم للمستعمل والدارس معًا.
-------------------------------
* أكاديمي من لبنان.

 

مصطفى علي الجوزو*