جمال العربية: لغة وإبداع لغة درعٌ ودرعيات

جمال العربية: لغة وإبداع لغة درعٌ ودرعيات

كنت أسائل نفسي: ما الذي أغرى أبا العلاء المعرّي بالدرع والدروع حتى يصوغ قصائده المسماة بالدرعيات لتصبح ديوانًا مستقلاًّ بين سائر شعره كله في سقط الزند واللزوميات؟ ووجدت أن البداية بما تقوله اللغة في أمر «الدرع» ربما تكون الإجابة المرجوة من وراء التساؤل.

وفي المعاجم المتداولة بين الأيدي كالمنجد والوسيط وجدت كلمة درع مقرونة بجمعيها دروع وأدرع، وأنها قميص من زرد الحديد يلبس وقاية من سلاح العدو، وأنها كلمة مؤنثة وقد تذكر.

وحين لجأت إلى المعجم الكبير وجدت أصلين للكلمة في الحبشية والسريانية، ففي الحبشية der: (درعْ): درعٌ وفي السريانية darra (درَّعْ: قاد، وجَّه). ووجدت المعجم يضع للكلمة في بداية المدخل اللغوي ثلاثة معانٍ فهي: اللباس الواقي في الحرب، وهي: نوع من الثياب، وهي: اختلاط ألوان.

قال ابن فارس: «الدال والراء والعين أصل واحد، وهو شيء من اللباس، ثم يُحمل عليه تشبيهًا".

دَرَعَ فلان الشاة ونحوها درْعًا: سلخها من قِبَلِ عنقها. ودرع في عنق فلانٍ حبلاً: شدّه عليه فاختنق. ودُرِعَ الزرعُ: أُكلَ بعضُه فابيض موضعه. ودَرِعت الفرسُ والشاةُ ونحوهما درْعا ودُرْعةً: اسودّ رأسها وعنقُها وابيضّ سائرها، فهو أدرع وهي درعاء.

ويقال: ليل أدرع: تفجّر فيه الصبح فابيض بعضُه. قال مالك بن حريم الهمداني (الشاعر الجاهلي):

وقد وعدوهُ عُقبةً فمشى لها
فما نالها حتى رأى الليل أَدْرَعا

(العُقْبة: النَّوْبة في الركوب، أو الموضع الذي يُركبُ فيه).

ويقال أيضًا: هو أدرعُ منه، أي: أفقر، والجمع: دُرْعٌ، ودَرْعٌ، ودُرَعٌ.

والليالي الدُّرْع: هي التي صدورها بيض وأعجازُها سود أو التي صدورها سود وأعجازها بيض.

وأدرعَ الشهرُ: جاوز نصفه. واسودّ أوّلُه.

ودرَّع المرأةَ: ألبسها القميص.

يقول كثيِّر:

إن تلْق عمْرًا فقد لاقيت مُدَّرِعا
وليس مِنْ همِّه إبْلٌ ولا شاءُ

وادّرع: لبس درْعَ الحديد.

ويقال: ادّرع الدِّرْع وبها.

وادّرعت المرأة: لبست الدِّرْعَ، أي القميص.

وادَّرعَ اللَّيْلَ: دخل في ظلمته يسري.

والأصل فيه كأنه لبس ظلمة الليل فاستتر بها.

وفي المثل: شمِّرْ ذيلاً، وادَّرعْ ليلاً.

يضرب في الحث على التشمير والجدِّ في الطلب.

وادّرع الخوْفَ: جعله شعارَهُ. كأنه لبسه لشدة لزومه.

وفي التاج أنشد القطاميّ:

قطعْتُ بذات ألواحٍ ثراها
أمام الركب تندرعُ اندراعا

واندرع البطنُ: امتلأ.

واندرع العظم من اللحم: انخلع.

والدارع: لابسُ الدرع

قال السموأل (الجاهلي):

وأسيافنا في كلّ شرقٍ ومغربٍ
بها من قراع الدارعين فلُولُ

(القراع: المقارعة والمضاربة، الفلول: جمعُ فَلّ وهو الثَّلْمة في حدِّ السيف).

ولكلمة «فلول» الآن دلالة سياسية، إذ يقصد بهم البقايا المتخلفة من نظام سابق هوى، والساعون إلى استعادته.

ويقول حاتم الطائي:

وما دارعٌ إلا كآخرَ حاسرٍ
وما مُقترٌ إلا كآخرَ ذي وفْرِ

ويقول معاوية بن أبي سفيان في أبيات بعث بها إلى عليّ بن أبي طالب:

سأبكي أبا عمرو بكلّ مُثقّفٍ
وبيضٍ لها في الدّارعين صليلُ

(أبو عمر: كنية عثمان بن عفان، المثقّف: الرمح).

وتقول ليلى الأخيلية في رثاء «توْبة»:

فلا يبعدنْكَ اللهُ يا توْبُ إنما
لقاءُ المنايا دارعًا مثْلُ حاسرِ

والدُّرَّاعة: جُبَّة مشقوقة المُقَدّم.

وقيل: ضرب من الثياب لا يكون إلا من صوف.

والدِّرْع: لبوسُ الحديد. وهي قميص من حلقات من الحديد متشابكة، يُلبس وقاية من السلاح، مؤنث وقد يُذكّر.

وفي الجمع القليل يقال: أدرع وأدراع.

وفي الكثير يقال: دروع.

ويقول السموأل:

وفيت بأدرع الكِنْديِّ إني
إذا ما خان أقوامٌ وفيْتُ

(يقصد بالكندي: امرأ القيس، وكان قد استودعه دروعه وجميع سلاحه قبل سفره إلى الشام للقاء قيصر الروم).

ونعود إلى المعرّي - صاحب الدّرعيات فنجده يقول:

إذا كان القضاءُ يجيءُ حتْمًا
فما هذي المغافرُ والدروعُ؟

ويقول شاعر النيل حافظ إبراهيم:

ونحن كما غنّى الأوائل، لم نزلْ
نُغنّي بأرماحٍ وبيضٍ وأدرعِ

وتصغيرها: دُرَيْع بغير هاء على غير قياس، لأن قياسها أن يقال: دُريْعة.

يقول الأعشى في وصف امرأة:

صِفْرُ الوشاحِ وملءُ الدرعِ بَهْكَنةٌ
إذا تأتى يكاد الخصْرُ ينخزلُ

(صفر الوشاح: كناية عن ضمور البطن ودقة الخصْر، البَهْكنة: الضخمة، تأتّى: تتهيأ للقيام، ينخزل: ينقطع.

والدُّرْعةُ: ما رُعيَ حول الماء.

ودُرَعُ النخل: ما اكتسى الليفَ من الجمّار.

والدِّرْعيُّ: المنسوب إلى الدِّرْع).

والدِّرعيات: مجموعة من قصائد أبي العلاء المعري في وصف الدروع، منها القصيدة التي مطلعُها:

رأتْني بالمطيرة لا رأتني
قريبًا، والمخيلةُ قد نأتنْي

(المخيلة: الكِبْر والخيلاء)

ومنها القصيدة التي مطلعها:

صُنْتُ دِرعيَّ إذا رمى الدَّهْرُ صَرْ
عيَّ بما يتركُ الغنيَّ فقيرا

(الصَّرْعان: الغداة والعشيُّ).

فهل كان الشغف باللغة وحده، والرغبة في إظهار ما لديه من ثروة لغوية هائلة حتى في هذا المجال الضيق من مجالات القول وراء اختيار المعرّي للدرعيات، ليسكب في ثناياها بعض تجليات عالمه الشعري واقتداره اللغويِّ فيه؟

ابن درّاج: متنبي الغرب:

إذا كان ابن زيدون الشاعر الأندلسي الذائع الصيت قد لقّب بالبحتري، تشبيهًا له بصناجة الشعر العربي في العصر العباسي، رقَّةَ لغةٍ وحلاوةَ صورةٍ وتدفّقَ إيقاعٍ وانسيابَ نَفَسٍ شعري، فإن ابن دراج القسطلي الشاعر الأندلسي الكبير قد أطلق عليه هو الآخر متنبي الغرب، لمشابهته للمتنبي في إحكام لغته الشعرية وجلال أفكاره ومعانيه ورصانة حكمته ونفاذ رأيه.

يقول عنه ابن حيان مؤرخ الأندلس: «سبّاق حلبة الشعراء العامريين، وخاتمة محسني أهل الأندلس أجمعين، بعد أن طرحت به تلك الفتنة الشنعاء واضطرته إلى النجعة، فاستقرى ملوكهم أجمعين ما بين الجزيرة الخضراء فسرقسطة من الثغر الأعلى». على حين يقول أستاذ الأدب الأندلسي والمغربي ومحقق ديوانه وكاتب تعليقاته الدكتور محمود علي مكي: «خلّف لنا في ديوان شعره ما يصوِّر حياة الأندلس في يومي نعيمها وبؤسها، في أوج عزتها وعظمتها على أيدي العامريين ثم عند انهيارها وإلواء المحن بها منذ أن ساقت نوازع البطر وتفرق الكلمة أهل الأندلس إلى تحطيم أركان الدولة العامرية».

ويشترك بحتري الغرب ومتنبي الغرب، ابن زيدون وابن دراج في أنهما عاشا حياة متقلبة مضطربة، اضطرتهما إلى الفرار من مكان واللجوء إلى آخر، ومحاولة النجاة بالنفس من الفتن الهائلة التي صبغت كثيرًا من أيام الأندلس، وكانت بسبب صراعات لا تهدأ ومطامع لا تنتهي. وكان لهذه الحياة في شعر كل منهما أثره الفني الذي جعل من شعرهما مرآتين لزمنين من أزمنة الأندلس، وشهادتين على اقتراب هذا الوجود العربي الإسلامي في الأندلس من نهايته المحتومة بسبب هذه الفتن والقلاقل والحروب.

من أجمل الآثار الشعرية لابن دراج القسطلي قصيدته في خيران العامريّ، يقول شارح ديوانه: «كان من جِلّة فتيان المنْصور بن أبي عامر، فلما نشبت الفتنة كان من بين من أيدوا محمد بن هشام المهدي حتى بدا لهم في أمره فغدروا به، ولما دخل سليمان المستعين قرطبة فرَّ منها، ثم كان ممن أعانوا على ابن حمود في ثورته على سليمان، إلا أنه حين دخل قرطبة معه كان يطمع في أن يجد هشامًا المؤيَّد حيًّا، فلما لم يجده استراب من ابن حمود وفرّ من قرطبة واشترك مع منذر بن يحيى في تدبير الأمر لعبد الرحمن المرتضى، ولكنه عاد فغدر به ودبر قتله بعد هزيمته أمام أسوار غرناطة سنة 409هـ. وكان خيران قد استقل بألمرية في سنة 405هـ واستولى كذلك على أريولة ومرسية وبقي على ألمرية حتى توفي سنة 419هـ».

وفي القصيدة لوحة شعرية تصور سفن المسافرين في البحر وقد هبت العاصفة وماج الموج ولم يعد أمامهم من قبر سوى البحر ومن أكفان سوى الماء. الصورة فريدة في ديوان الشعر العربي كله، واللغة الشعرية سامقة وباذخة، والنَّفَس الشعري الذي يتردد في القصيدة نفسُ شاعر عبقريّ الإبداع.

يقول ابن دراج:

لك الخيرُ، قد أوْفى بعهدك خِيرانُ
وبُشراك، قد آواك عزٌّ وسلطانُ
هو النُّجْحُ، لا يُدعى إلى الصبح شاهدٌ
هو الفوز، لا يُبْغى على الشمس برهانُ
إليك شحنَّا الفُلْكَ تهوي كأنها
- وقد ذُعرت عن مغرب الشمسِ غربانُ
على لُججٍ خضرٍِ إذا هبّت الصَّبا
ترامى بنا فيها ثبيرٌ وثهلانُ
موائل نرعى في ذراها مواثلا
كما عُبدت في الجاهلية أوثانُ
وفي طيِّ أسمال الغريب غرائبٌ
سكنَّ شغاف القلب شيبٌ وولدانُ
يُردِّدْنَ في الأحشاءِ حزَّ مصائبٍ
تزيد ظلامًا ليْلها وهي نيرانُ
إذا غيض ماءُ البحر منها مدَدْنَهُ
بدمع عيونٍ يمتريهنَّ أشجانُ
وإن سكنت عنا الرياحُ جرى بنا
زفيرٌ إلى ذكر الأحبة حنّانُ
يقلنَ: وموج البحر والهمّ والدجى
تموج بنا فيها عيونٌ وآذانُ -
ألا هل إلى الدنيا معادٌ، وهل لنا
سوى البحر قبرٌ أو سوى الماء أكفانُ؟
وهَبْنا رأينا معلم الأرض، هل لنا
من الأرض مأوى أو من الإنس عرفانُ؟
وصرف الرّدى من دون أدنى منازلٍ
تباهى إلينا بالسرور وتزدانُ
تقسّمهن السيفُ والحيْفُ والبِلى
وشطّت بنا عنها عصورٌ وأزمانُ
كما اقتسمت أخدانَهنّ يدُ النَّوى
فهم للردى والبِرِّ والبحر أَخْدانُ
ظعائنُ عُمرانُ المعاهد مقفرٌ
بهنَّ، وقفْرُ الأرض منهن عُمرانُ
هوت أمهم ماذا هوت برحالهم
إلى نازح الآفاق سُفْنٌ وأظعانُ
كواكبُ إلا أنَّ أفلاك سيْرها
زمامٌ ورحْلٌ أو شراعٌ وسكَّانُ
فإن غرَّبت أرض المغارب موئلي
وأذكرني فيها خليطٌ وخِلاَّنُ
فكم رحُبتْ أرضُ العراق بمقدمي
وأجزلت البشرى عليَّ خُراسانُ
وإنّ بلادًا أخرجتْني لعُطَّلٌ
وإنّ زمانًا خان عهدي لَخوَّانُ
سلامٌ على الإخوانِ تسليم آيسٍ
وسقْيًا لدهرٍ كان لي فيه إخوانُ
ولا عرَّفت بي خَلَّةٌ دار خُلّةٍ
عفا رسْمُها منها جفاءٌ ونسيانُ
وغرَّت بِبرْقِ المزْنِ من ذكر صَعْقهِ
ومن ذكر ربِّ كلَّ يوم له شانُ
ويا ربَّ يومٍ بان صُدْعُ سلامه
بصدع النوى أفلاذَ قلبيَ إذ بانوا
نُودّعهم شجوًا بشجوٍ كمثلما
أجابت حفيفَ السهم عوجاءُ مرنانُ
ويصدعُ ما صمَّ الوداعُ تفرُّقٌ
كما انشعبت تحت العواصف أغصانُ
إذا شرّق الحادي بهم غرَّبت بنا
نوًى يومُها يومانِ والحِينُ أحيانُ
فلا مؤنسٌ إلا شهيق وزفرةٌ
ولا مسعدٌ إلا دموعٌ وأجفانُ
وما كان ذاك البيْنُ بَيْنَ أحبَّةٍ
ولكنْ قلوبٌ فارقتهنَّ أبدانُ
فيا عجبا للصبر منا، كأننا
لهم غيرُ من كُنّا، وهم غيرُ من كانوا
قضى عيشهم بَعْدي، وعيشيَ بعدهم
بأني قد خُنتُ الوفاءَ وقد خانوا
وافجعْ بمن آوى صفيحٌ وجلمدٌ
ووارت رمالٌ بالفلاةِ وكثبانُ
وجوهٌ تناءت في البلاد قبورُها
وإنهمو في القلب مني لسُكَّانُ
وما بَلِيتْ في التُرْبِ إلا تجدَّدتْ
عليها من القلب المفْجِع أحزانُ
همو استخلفوا الأحباب أمواجَ لُجّةٍ
هي الموت أو في الموت عنهنّ سُلوان
بقايا نفوسٍ من بقية أنفسٍ
يُميتون أحزاني، فَدِينوا بما دانوا
أقول له صبرًا لكم أو عليكم
عسى العيش محمودٌ أو الموتُ عجلانُ
ولا قَنطٌ واليُسْرُ للعُسرِ غالبٌ
وفي العرش ربٌّ بالخلائقِ رحمانُ
ولا بأْسَ من روْحٍ وفي الله مطمحٌ
ولا بُعْدَ من خيرٍْ وفي الأرض «خِيرانُ»
ستنسوْنَ أهوال العذاب ومالكًا
إذا ضمَّكُمْ في جنَّة الفوز رضوان
متى تلحظوا قَصْرَ «المريَّة» تظفروا
ببحرِ حصًى يُمناهُ دُرٌّ ومَرْجانُ
وتستبدلوا من موج بحرٍ شجاكمو
ببحرٍ لكم منه لُجيْنٌ وعِقْيانُ
فتًى سيفهُ للدين أمنٌ وإيمانُ
ويمناهُ للآمال روْحٌ وريحانُ.

 

 

فاروق شوشة