الإسلام والديمقراطية

الإسلام والديمقراطية

لعلهم يحسنون صنعًا أولئك الباحثون الهادئون، عندما يتلمسون ويلمسون الفارق بين الإسلام كدين يعتني بالعبادات والأخلاق العامة ومعاملات أهله فيما بينهم، وبينهم وبين الآخرين، وبين الديمقراطية باعتبارها شكلاً للحكم، أي لعلاقة الدولة باجتماعها، أو وصفًا لطريقة الحكم بالشراكة، مع ما يعني ذلك من أفكار وقيم حاكمة على علائق الأفراد فيما بينهم، وبينهم وبين الدولة، كجامع يجمعهم بإرادتهم ومن أجل مصلحتهم جميعًا.

هؤلاء إذن، يلاحظون اختلافًا لا يصلون به إلى حد اعتباره تضادًا أو تناقضًا بين الإسلام والديمقراطية، ولكنهم في الوقت نفسه يرفعونه إلى مستوى الاختلاف بين مشروعين حضاريين، هما المشروع الإسلامي الذي يأتي من مكان ونظام معرفي مغاير للمكان والنظام المعرفي الذي تأتي منه الديمقراطية، وينشغلون بالبحث عن مقام الاتفاق في مستوى التماثل بين الديمقراطية والإسلام، ملحين، تجنبًا للخلط والتعسف، على تظهير إطار ومقدار التنوع أو التمايز بينهما.

الإسلام لم يقدم نمطًا للدولة

هل بإمكاننا أن نبدأ كلامنا عن الإسلام والديمقراطية من نقطة أخرى، من السؤال عن رؤية الإسلام لمسألة الدولة: هل هي ضرورة أم لا؟ وإذا ما كانت ضرورة فهل وصفها الإسلام، أي هل اقترح لها شكلا معينا ليستوعب في تطوره المستجدات في المعرفة والاجتماع، مرتكزا على المسلمات الفقهية في ضرورة مراعاة الأزمان والأحوال، أي التوليف بين الثوابت والمتغيرات؟ ما يعني في النهاية أن هناك أطروحة نظرية إسلامية لها تمثلاتها ومثالاتها المختلفة في التاريخ، وأن هذه النظرية قابلة لاستيعاب المستجدات، من دون أن يكون ذلك مساسًا بأسسها ومسلماتها، بحيث إذا ما تواجهنا، من خلال هذا المنطق، مع عدم إمكان المسلمين، في تجاربهم الحديثة (إيران مثلا) على مستوى بناء الدولة، تجنب أو تفادي تطبيق الوصفات المعمول بها في التجارب الديمقراطية الحديثة (الاستفتاء، الانتخاب، حكم الأكثرية، فصل السلطات... إلخ)، ليكون علينا بالتالي أن نتدبر أسسًا نظرية لاعتبار الدولة، في شكلها الحديث، وآليات إنتاجها (الديمقراطية)، دولة مطابقة أو غير مناقضة للمفهوم الإسلامي للدولة، كأننا هنا قد عدنا إلى ما بدأنا به، أي السؤال عما إذا كان الإسلام قد اقترح شكلا للدولة.

في محاولة للإجابة الإجمالية عن هذه الكومة من الأسئلة، يمكننا الاستناد إلى قول إسلامي بالغ الوضوح، ومسلكية إسلامية تقتضي مزيدا من التدقيق، حتى نتجنب الوقوع في التعميم، فعندما أكد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه «لابد للناس من أمير بر أو فاجر» لم يتخل عن العدالة كهدف لعلاقة الدولة بالمجتمع، ولكنه وضع وجود الدولة، مجرد وجودها، في المقام الأول، على أساس أن عدمها جور مطلق، بينما جورها الفعلي، التطبيقي، نسبي، فإذا ما ارتفعت نسبة الجور فيها كان علاجها بالاعتراض والاحتجاج والانقلاب المشروط بالعدل أولاً.. إذن فقد تعامل الإمام علي - رضي الله عنه - مع الدولة كضرورة، أما منشأ ضرورتها فهو الانتظام والنظام العام، الأمن والفيء، أي الإنسان والعمران، بما يقتضي ذلك من إطلاق حرية التملك المضبوطة بالشريعة، حتى لا تتفاقم الفوارق الطبقية، ويستولي الجور على الأغلبية الساحقة من الناس، فتعم الفوضى، ويخرج الجياع شاهرين على الناس سيوفهم ونعود إلى المأثور «سلطان غشوم خير من فتنة تدوم».

إذن فالدولة ضرورة اجتماع، يقتضيها الاجتماع ويبنيها لا تبنيه، وإن كانت بعد أن يبنيها تعود لتسهم في إعادة بنائه وتجديده، يجددها ويتجدد بها، وتجدده وتتجدد به.. والضرورة في قواعد السلوك إنما تقدر بظروفها ومقاديرها، فإذا كانت الظروف متغيرة، أي تغيّر وعي الاجتماع لذاته وعلائقه، وتغير وعي الفرد لموقعه في المجتمع ومسئولياته وحقوقه وواجباته، وتبعا لذلك تغيرت الأدوار، فلابد أن تتغير الدولة شكلا، وأداء، ودورا، ومصدر شرعية، وآليات تحقيق، طبقا للتغيرات الحاصلة في بنيان المجتمع.

وهذا يعني أنه من الصعب تنميط الدولة، أي اقتراح نمط واحد لها في كل الأمكنة والأزمنة، والإسلام في الأساس، لاحظ، حسب القرآن الكريم، مدى التعدد والتنوع البشري، فلم يطمح لإلغائه، بل دعا إلى احترام الخصوصيات، وجعلها مصادر حيوية في العالم يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا .

على هذا لا يعود الإسلام وصفاً جاهزًا معطلاً الفوارق بين المجتمعات أو داخلها، وهو يمر بالخصوصيات المجتمعة على أساس حفظ التعدد في الوحدة، وهذه من علامات عمقه التوحيدي.

هل أكون حتى الآن قد قدمت مسوغات لرأيي، بأنه لا داعي للمقارنة أو المفاضلة بين الإسلام والديمقراطية؟ لأن الديمقراطية هي حتى الآن الشكل الأقل إضرارًا بالمجتمع، نظرا للإشكالية الدائمة في علاقة الدولة بالمجتمع، ولأن الإسلام لم يقدم نمطا أو شكلا للدولة.

الاختلاف ليس مناطًا للقطيعة

تقديري، مع إلحاح على البحث والتدقيق، هو أننا لسنا مع الإسلام والديمقراطية، بين نظامين حضاريين، بل نحن مع نظام حضاري إسلامي تاريخي متحرك متجدد على أصوله، نازع بعمق الى استيعاب التعدد وتجاوزه، أي رفعه إلى مستوى أطروحة إنسانية على شرط الحرية. ومن هنا تصبح الديمقراطية، التي كانت ومازالت، تعبيرا عن شوق إنساني إلى الحضور في المشهد عطفًا على الحضور في المعتقد من خلال الانتماء الديني أو الثقافي، منجزًا تاريخيًا دائم الإنجاز، تنجزه لينجزك، تعيد به إنجاز الإسلام فروعا معروضة على أصولها، ويعيد الإسلام إنجازه طريقا تتسع وتضيق وتعتريها الالتواءات والمطبات من مكان لآخر، ومن زمن لآخر.

أي أن الديمقراطية تقع نظريًا في نظام الأفكار الإسلامي العام، المقاصدي، ولا تتعارض مع قيمه، أما أنها محكومة منشأ بسياق حضاري مختلف، فهذا ظلم للإسلام الذي كان «شورويا» في الواقع، بصرف النظر عن الخلاف في فهم آيات الشورى في القرآن، إلى ذلك فإن الاختلاف الحضاري لم يكن يوما حجة للمسلمين للقطيعة مع الآخر، وإلا فكيف انتشر الإسلام واخترق الحضارات لو لم يكن متفهما لها، وموسعا لشراكة معرفية وتاريخية مع منجزاتها؟! والإنسان عموما، والمسلم ليس استثناء، هو في الحصيلة مجموع تراكمات ثقافية تبادلية، والإسلام كدين لا يهدف إلى قطيعة بين المسلمين وغيرهم، والاختلاف ليس مناطا للقطيعة، بل مناط للتواصل والتعارف والتثاقف، أي التكامل. والقرآن يعتبر أن الأمة التي يجب الحرص على وحدتها، أو إعادتها إلى الوحدة كمعادل موضوعي للتوحيد، وعلى موجب الإيمان واللقاء في الواحد، هي الإنسانية جمعاء، وهذا ليس مشروع دولة كونية، تقوم على الإلغاء والمصادرة الشمولية، بل مشروع ديمقراطيات تتعدد بتعدد المجتمعات، ولكنها تشترك في فضاء الحرية وتلتقي فيه.

إن التعدد والمتعدد، المتحقق دائما، والضروري والحضاري والديناميكي دائما، لا يمكن أن يتناغم ويتجنب الإلغاء المتبادل، بالعنف المباشر وغير المباشر، إلا من خلال وعيه للحركة كشرط وجود وحضور وفعل وإيمان.

صيانة الثابت من تعقيدات المتغير

هل هذه دعوة إلى فصل الدين عن الدولة؟ لا يجوز هنا خاصة أن نساوي بين العارض والذاتي في محدداتنا، أي بين ما هو مكتسب، وما هو جزء من التكوين، وكل ما يأتي من قبل الآخر باعتبار أنه آخر له مكوناته، من دون أن يتماهى مع الذات ليدخل في تعريفها، لا يجوز أو لا يمكن أن تتخطى علاقتنا به ووعينا لـه حدود عدم إمكان إزالة الذاتي بالعرضي، لأن الذاتي الذي لا يعلّل فلسفيا لا يزول، من هنا فإن فصل الدين عن الدولة، الذي كان ممكنًا وإشكالياً في معناه الكامل في الغرب، غير ممكن في معناه الكامل في حالتنا، على الأقل فإن المسيحية في الغرب وافدة، بينما الإسلام والمسيحية في حالنا نابعان، أي نبعا منا ونبعنا منهما، وهذا تعقيد إضافي ونوعي لابد من مراعاته، وبناء عليه، وسواء كان الدين لدينا إسلاما أو مسيحية، فإن غاية ما هو متاح من دون كسر، هو التمييز بين الدولة والدين، إلى الحد الذي يمكن أن تترتب عليه أفكار وسلوكيات تقترب من نحو من أنحاء الفصل النسبي، أي من دون بلوغ التحام قسري، بمعنى أننا قد نكون مدعوين إلى حماية الدين وصيانته من الدولة، ومن آليات إنتاجها ومترتبات أدائها، أي صيانة الثابت من تعقيدات المتغير، حماية للمتغير بالضرورة، أي الدولة، من الثابت كذلك، باعتبار أنهما حقلان من الضروري والمفيد أن يتناغما في النتائج، من دون خلط عشوائي أو تعسفي أو غير منهجي بينهما، آخذين في اعتبارنا أن عملية التمييز التي تجوهرت فصلاً في الغرب، لم تفصل تماما، ومازال الحراك السياسي والاجتماعي، بنسبة أو بأخرى في الغرب محكومًا بشائبة من الدين، ولكنها، أي عملية الدين الواسعة نسبيا، أدت فيما أدت إلى حفظ الدين في سياقه ومساره الإنساني الفاعل، بعدما كان الخلط قد عرضه إلى الارتهان لسياق المتغير، أي الاندحار بفقدان المصداقية، باعتباره ملاذا لا منصة انطلاق ضد الآخر، أي ضد الذات في المحصلة.

الدولة في الغرب تحتوي الكنيسة

لقد كان رد الفعل الأوربي ضد الخلط بين الدين والدولة، بحجم الفعل الذي تبلور في مجمع نيقية (325م)، حيث ظنت الكنيسة تحت إغراءات الجاه والسلطة، أنها احتوت الدولة، والواقع أن الدولة هي التي احتوت الكنيسة في سياق الاستبداد الامبراطوري الروماني، الذي عاد ليكتشف في المسيحية غطاءه الإيديولوجي السهل وغير المكلف، حتى كان عصر الأنوار تخليصا للمسيحية من هذا المنزلق أو المهوى، فترتب عليه لون من التراجع المسيحي (للمسيحية)، ثم ما لبث البعد الديني فيها أن أخذ يستعيد حيويته وعافيته على أيدي الذين اشتغلوا على أنسنته، وتحديث معارفه، والمعرفة به، وتمثله في السلوك اليومي والعلائقي.. وصولاً إلى تيار دي شار دان ومدرسته المعاصرة.

لا يكدح إلى الله إلا الأحرار

إننا مضطرون للتمييز، حتى لا نقع ثانية في ذرائعية مكشوفة، وقد كان الإسلاميون الجزائريون قساة في ذرائعيتهم، أي جعلهم الإسلام ذريعة، عندما توسلوا الديمقراطية إلى الاستبداد المكنون أو المنوي، والذي تجلت النية المبيتة فيه من خلال العنف العشوائي «الاستبدادي المنشأ» الذي مارسوه ويمارسونه من أجل ديمقراطية شكلانية، أي استبداد آخر، مقدمين بذلك ذريعة للدولة لأن تجسد استبدادها عنفا، بدا وكأنه مضاد في حين أنه كان تأسيسيًا، تأسست عليه الدولة وتأسس عليها.

وإذا ما كانت الغائية «القصد» والله تعالى هو مقصد المقاصد «الله الصمد» هي الشرط الإلهي، والحرية هي الشرط الإنساني، الإلهي جوهرا، فإننا نبطل الغائية بإبطال الحرية، وكذلك نبطل الحرية بإبطال الغائية، ومن دون غائية تصبح الحرية على خطر تحولها إلى فوضى عارمة ومدمرة، ومن دون حرية تصبح الغائية إعاقة، وإحالة الدنيا على الآخرة، وللشهود على الغيب، أي تتعطل الحياة، ويصبح الخلاص الأخروي فرضية مفرغة من المعنى أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون.

ومن هنا فإن الديمقراطية بما أنها نظام ملائم للحرية، ضابط لها، مشروط بالخصوصيات، هي التي تضمن أن يبقى الشرط الغائي على إلهيته وإنسانيته، وعلى ذلك نكف عن جعل ثنائية الإلهي والإنساني ثنائية متقابلة، ويصبح كل منهما مجالا أو فضاء لتحقق الآخر يأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه «كنت كنزًا مخفيا فأردت أن أعرف فخلقت الخلق لكي أعرف،الخلق كلهم عيال الله». وهل يكدح إلى الله إلا الأحرار، الذين تحرروا بالمعرفة، بمعرفة الحق، عرفوا فلزموا. إذن فالحرية مآلها إلى الحق والحقيقة، ومنتهى الحق إلى الحرية، لأن الحرية هي الحقيقة الثابتة، والتي نجدها على الطريق من المعلوم إلى المجهول، أي طريق كشف الجهالات بالمعارف، وإبعاد الجور بالعدل، والعنف بالاعتدال، والتطرف بالتوسط، والغلبة بالتسوية، والتسوية بمزيد من التسوية.

مصطلح «المستبد العادل» تلفيق بين مفهومين متناقضين

مادام أن شكل الدولة وطريقة تشكيلها ليسا شأن الدين، لا الإسلام ولا غيره، وحيث لا وصفة دينية ملزمة للدولة، مادام أن شأن الدين، بما هو معرفة وسلوك وثقافة وقيم وعلائق وتقوى، هو أداء الدولة، أي عدالتها، مادامت العدالة من دون حرية هي جور آخر، فالمستبد العادل تلفيق بين مفهومين متناقضين لا يجتمعان أبدا ولا يرتفعان، أي إما مستبد وإما عادل، مادامت الحرية من دون عدالة ليست حرية، بل فوضى حاضنة لتوائم أو ضرائر من الاستبدادات المدمرة، فإن الديمقراطية لا بمعناها السياسي الصرف وحده، بل بمدلولها الواسع أيضًا، الذي يمتد إلى الشأن الاجتماعي والرعائي والتنموي الشامل، هي التي تجمع الحرية إلى العدالة في بنية مدنية، كمفهومين متشارطين تعريفا وتحقيقا، إلى حد دخول كل منهما في تعريف الآخر.

وبناء على ذلك لا يعود من شأن الفقه أو الفقيه أن يصف شكل الدولة أو يقترح طريقة تشكيلها، إلا في حدود كونه شريكا متكافئا مع الآخرين من أهل المعرفة بهذا الشأن وأهل الخبرة. ويصبح الفقه ثقافة معيارية، معيارها الحرية والعدالة، الحق والقانون، أي ديمقراطية تحث على العدل، وتحرض ضد الجور، وتتعاطى مع مضمون الدولة ومعناها لا شكلها ومبناها، ومن موقع إرشادي حاضن، لا مولوي قابض، لأن المولى هو الله في المطلق وفي التاريخ، أما الولاية على الأمة فهي للأمة.

معرفة الدين لا تتم إلا بشرط الحرية

مبكرا استرعى انتباهي منذ ربع قرن تقريبا، المرحوم د.علي شريعتي، عندما بادر، بتأثير من هواجسه الوحدوية والنهضوية، إلى اقتراح حل معرفي لا سياسي فقط، لمسألة الإمامة والسياسة، أو الإمامة والخلافة، منطلقا من همّ إسلامي يمر بالخلافات المذهبية ويتعداها، إلى التوفيق بين المختلفين في قراءة التاريخ الإسلامي على موجب السياسة، واستحضاره كرافعة حضارية، يضعفها الخلط أو المزج بين مفاهيم متمايزة، فاقترح شريعتي وقتها في كتابه «أمت وإمامت» أي «الأمة والإمامة» التفريق بين الإمامة كشأن ديني ثقافي واعتقادي جامع يرعى شئون الإنسان المسلم كما هو مستخلف ومكرم، والخلافة التي ترعى شأن الإنسان الطبيعي أيا كان انتماؤه أو إيمانه العام أو التفصيلي، وهذا يدخل أساسا في الدين بلحاظ تدرجه في نظام المقاصد الشرعية، ما يعني أن اختلاف الطبائع يسهم في تفسير الخلاف في الخلافة أو عليها، من دون أن يمس بالدور الحضاري للإنسان (الاستخلاف) وكرامته الأثيرة عند الله. وهذا يتيح أن نستكمل الدورة المعرفية التي لم يخترعها شريعتي ولكنه استأنفها، بالتمييز عموديا وأفقيا بين الدين والسياسة، وبين الدين والدولة، بحيث تتحصل لدينا لائحتان من المعارف والسلوكيات، معارف وسلوكيات الاجتماع في الدين، ومعارف وسلوكيات الاختلاف في الدولة، ونبحث لهاتين اللائحتين عن مناطق وفضاءات ومفاتيح ومنهجيات وأبواب للتكامل، وعلى أساس أن الاختلاف شرط للتكامل، وأن التكامل مآل حضاري وتوحيدي للاختلاف، حتى لا يعم الخراب الدنيا، ولا يعود الواحد منا أو الجماعة في طمأنينة لمآله في الآخرة.

وإلا فإن الاستبداد هو في انتظار أي حراك إسلامي مسيّس، والاستبداد الديني أقسى، وإذا كان الاستبداد الديني مسوغًا للاستبداد العلماني أو (الجهلاني) فإن الاستبداد العلماني الجهلاني إياه، من شاه إيران إلى صدام، ربما كان أقل فتكا بالدين وأهله من استبداد أهل الدين بالدين وأهله.

والاستبداد الذي يمتد من تفاصيل الحياة إلى المعرفة بالدين والحياة، هو مصادرة واجتثاث للدين وللمعرفة به.

إن معرفة الدين لا تتم إلا بشرط الحرية، ولعل الحرية هي النصاب الأعلى لهذه المعرفة، تحققها وتتحقق بها.

في النهاية لسنا ملزمين بوضع الله خيارًا إلهيًا أو إنسانيًا في مقابل الإنسان، إن في ذلك عدوانًا معرفيًا على الألوهية، بلحاظ الإطلاق الكامل في تعريفها ذاتًا وصفات... والأنسنة، أي أنسنة المفاهيم الإلهية تعني عدم موضعتها، لأنها تصبح خلافية مفرقة، بــــدلاً من أن تكون مقامات وفاق جامعة للمختلف تحت سقفها ومعناها، كما أنه اعتداء على الإنسان بوضعه في موضوع مصدره ومقصده «الله» أي تحويل الغاية إلى وسيلة، وتحول الوسيلة إلى غاية، بمعنى أن تأليه الإنسان هو إلغاء لإنسانيته. إن التوحيد يقتضي اعتدالا في الرؤيةّ يتيح معرفة أسباب وشروط التأله والأنسنة، وإذا ما نقلنا هذه المعادلة إلى التاريخ، إلى السياسة والاجتماع، فإن دولة مدنية جامعة لمكونات مختلفة على نصاب التوحيد الحافظ للوحدة، ونصاب الوحدة كمعادل موضوعي للتوحيد، هي التي من شأنها أن تحفظ لنا الدين والإنسان تحت ظل السماء، المفصولة مفهومًا عن الأرض، الموصولة مضمونا بهذه الأرض ومن عليها. بالدولة المدنية التي تأبى أن تحقق ذاتها في المس بمكونات الفرد والجماعة، والدين أولها، تحفظ للجماعات الدينية حقها في التعبير عن نفسها كمتحدات لا تنقض الدولة عليها أو تصادرها، وهنا يتاح لنا التوفيق بين الفرد والجماعة، ونعيد إنتاج ديمقراطيتنا بعيدا عن إملاءات الشمولية الدينية أو المادية... وبعيدا عن العقل الذي يريد إنتاج الرأسمالية على موجب الإمبراطورية، وحقها في التعامل الإذعاني لها، من قبل الآخرين، بعدما أنتجها سابقًا على موجب الإمبريالية والحرب الباردة.

الديمقراطية هي المناخ الملائم للمحبة والعدل

المواطنة بما أنها تكييف وتكيف للأفراد الذين تتكون منهم المجتمعات والجماعات في الوطن الواحد وظل الدولة الجامعة، هي النصاب الضامن لنظام العلائق الإنسانية الذي يدخل في مقاصد الشريعة، بل ربما كان محورها أو عمودها الفقري، حسب أصولنا المؤسسة وحراكنا التاريخي والحضاري المعياري، الذي تشكل المسألة الأخلاقية حجر الزاوية في عمارته «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، و«لا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فهم صنفان، إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق». وإذا ما كانت المحبة شرطًا للدين والعدل «وهل الدين إلا الحب؟»، كما يقول الإمام الصادق (ع)، فإن العدل لا يمكن أن يكون إلا ثمرة للمحبة، والمحبة في الله تتسع لجميع عيال الله... وإلا فلن تكون ولن يكون هناك عدل، والديمقراطية هي المناخ الملائم للمحبة والعدل كذلك.

وهذه البنية الفوقية، المواطنة، تتنزل، أي تتجوهر أو تتجلى، أو تتجسد في الديمقراطية، كشكل شبه حصري ومفتوح على التعديل والتطوير، إذن تمضي الديمقراطية آلية للارتقاء الفردي والجمعي إلى المواطنة، وفي إطار المواطنة على مقتضى الديمقراطية يتراجع الخوف على الجماعات المكونة بلحاظ تمايزاتها الثقافية، أي يكف الآخر عن أن يكون استفزازا للهوية المحفوظة بالحرية. هل هذا استبعاد للبعد الإلهي من التشكل السياسي؟ إن الاستخلاف لا يمكن أن يقوم على المطابقة بين المستخلِف والمستخلَف (بالكسر ثم الفتح) فكيف إذا ما كان المستخلِف «بالكسر» خالقا منزها، وكان المستخلَف (بالفتح) مخلوقا عجولا جزوعا هلوعا؟ أي أنه مزود بصمامات أمان ضد الطغيان، إذا ما استقامت الأمور بينه وبين الله على التقوى والقيام بالأمانة... ولعل الديمقراطية هي الإطار والفضاء الذي يوفر للمستخلَف أن يكدح إلى المستخلِف ليلاقيه على موجب الحرية.. وموجب أن ابن آدم الخطاء مكلف شرعا بالعدالة، أي الحرية، وقادر على إنجازها بنسبة مجزية ومفتوحة على المزيد.

الدولة تنتج الدين على منطقها لا منطقه

هل نريد ثقافة ودينا تنتجهما الدولة، أو تعيد إنتاجهما على موجبات مزاجها وحاجاتها التي قد تكون مشروعة وغير مشروعة؟ الدولة الدينية تنتج الدين قطعا، ولكن على أساس أنها دولة وليس على أساس أنها دين، ولا تختلف الدولة العلمانية عن الدولة الدينية في ذلك، وإن كانت العلمانية في الدولة تنتج الدين سلبيا، أي ضد الدين، فإن ذلك يربي النزوع الى إعادة إنتاج المضادات الحيوية وبشكل عصبي وإيديولوجي مغلق مشدود إلى العنف، والدين الذي ينتج الدولة تعود الدولة لتنتجه على منطقها لا منطقه، لأنهما اثنان، ولا عيب في هذه الثنائية، بل العيب في توهم الواحدية، التي تؤدي عمليا إلى إلغاء الدولة بالدين، وإلغاء الدين بالدولة.

إن الثقافة والدين (بمعناه المعرفي المتجدد والحياتي لا بمعناه التأسيسي) من إنتاج المجتمع، والدولة الديمقراطية، بما هي ضامن للحريات تحت سقف القانون، يمكنها أن تحمي عملية إنتاج الدين والثقافة، من أي عدوان عليهما، أو تشويههما، أو الخلط العشوائي المتعسف بينهما، والحرية هي ضمانة عدم العدوان أو التشويه، لأنهما يأتيان من جهة الجماعات العصبية العصابية التي تريد إنتاج الدين على مقاسها «المتبدل» لتعطل الحرية في داخلها وحولها، أي أن الديمقراطية تحمي الناس والمواطنين المؤمنين من عملية إعادة إنتاج الدين على حسابها لا لحسابهم، بشرط الحرية، أو شرط الحريات التي ينحصر نظامها الضامن في استمرارها وحيويتها بالديمقراطية، في مقابل أي كم من الحريات لا ناظم لـه، فيتحول إلى فوضى تمهد لتأسيس استبداد مركزي أو استبدادات طرفية يلغي بعضها بعضا بالعنف الدوري، المباشر، أي المادي، وغير المباشر، المعنوي، أي التهميش أو التكفير.
--------------------------------
* كاتب وباحث من لبنان

 

 

 

هاني فحص*