ملامح التحول من بلاغة السلطة إلى بلاغة الجمهور

ملامح التحول من بلاغة السلطة إلى بلاغة الجمهور

أحدث انتشار وسائل الاتصال الجماهيري منذ مطلع القرن العشرين تحولا كبيرًا في درجة مشاركة الأشخاص العاديين في الشأن العام في معظم دول العالم. فقد أدى الانتشار الطاغي للصحف المطبوعة والإنتاج الكثيف للراديو والتلفزيون إلى تغلغل الخطاب العام في حجرات معيشة الإنسان العادي في كل أطراف الأرض من أقصاها إلى أقصاها.

كان هذا التحول عاملاً حاسمًا في بزوغ ما أصبح يُعرف بـ «عصر الجماهير الغفيرة». وهو تعبير يحمل ضمنيًا دلالة أن ظاهرة الجماهير الغفيرة ملمح مميز للعصر الذي نعيشه، نظرًا لأن قدرة وسائل الإعلام الجماهيرية على مخاطبة أعداد لا حصر لها من البشر في الوقت نفسه، متجاوزة قيود المكان كان لها تأثير بالغ الخطورة على معظم الأنشطة البشرية في القرن العشرين. وعلى الرغم من أن التعبير قد يعكس - في أحد أبعاده - القوة النسبية التي تستحوذ عليها الجماهير في حقل التواصل العام، إلا أن التعبير ينطوي على دلالات أخرى نقيضة، ربما كانت الأكثر دلالة على جوهر القرن العشرين.

وسائل الإعلام الجماهيري وصناعة تعليب العقول

لقد أدرك بعض البشر القوة الهائلة والكامنة في وسائل الإعلام الجماهيري، من حيث قدرتها على التأثير في توجهات الجمهور وأفكاره ومعتقداته وتصوراته لنفسه وللعالم، ومن ثمَّ قدرتها على توجيه أفعاله والتحكم فيها. وتزامن ذلك مع تنامي الاتجاه نحو أشكال مختلفة من أنظمة الحكم الديمقراطي التي تعطي لهذه الجماهير نظريًا على الأقل- الدور الحاسم في صياغة شكل المجتمع والحياة التي يريدون معيشتها. وهكذا بدا بوضوح أن من يستطيع السيطرة على وسائل الإعلام الجماهيري يصبح الأكثر تأثيرًا في الجمهور، ومن ثمَّ الأكثر قدرة على صياغة شكل المجتمع والحياة. وبذلك غدا التحكم في الجمهور والسيطرة عليه وتوجيهه أبرز غايات الفئة المسيطرة على وسائل الإعلام. وهي فئة عادة ما ضمَّت الطبقات الحاكمة في بقاع العالم متحالفة مع كبار رجال المال والدين والنخب الفكرية. ونتيجة لذلك، شهد القرن العشرون أضخم مشروعات التلاعب بالجماهير وأكثرها تأثيرًا على مدار الإنسانية. وأصبحت «صناعة تعليب العقول» أبرز أنشطة وسائل الاتصال الجماهيري وأكثرها خطورة.

لم يكن يحلم أكثر السياسيين أو رجال الأعمال تفاؤلا أن يأتي ذلك اليوم الذي يسيطرون فيه مدعمين بمهارات جيش جرار من الخبراء، وعتاد هائل من البحوث - على عقول ملايين البشر، ليوجهوهم حيث يشاؤون ويرغبون. ونظرة سريعة إلى عشرات الملايين التي سيقت - بإرادتها- نحو أتون حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ومئات الملايين الأخرى التي أصبحت تعبد الموضة وكرة القدم كفيلة بأن تضع أيدينا على النجاح الهائل الذي حققه من تحكموا كلية في «عصر الجماهير الغفيرة».

مَنْ لا صوت لهم: مفارقات عصر الجماهير الغفيرة

في ظل سيطرة من يملكون وسائل الاتصال الجماهيري على بعض أهم أدوات صياغة العقول والنفوس في العالم المعاصر، تنامت ظاهرة «من لا صوت لهم voiceless»؛ أي الأفراد أو الجماعات أو الأفكار ممن لا يستطيعون أن يشقوا طريقا إلى الخطاب العام، نظرًا لعدم تمكنهم من النفاذ إلى وسائل الإعلام الجماهيري. ونتجت عن ذلك واحدة من مفارقات القرن العشرين، هي وصول السيطرة على حقل المعلومات إلى حدها الأقصى، على الرغم من وجود آلاف المنافذ المتاحة - نظريًا - لتوزيعها. وزاد من وطأة هذه المفارقة أن معظم منافذ الإعلام الجماهيري ظلت حتى أواخر القرن العشرين حاملة لخطابات ذات بعد واحد، غالبًا ما تخدم بشكل أساسي مصالح الأفراد أو المؤسسات التي تملكها وتديرها، أو الأنظمة والقوى التي تتحالف معها.

اعتادت هذه المنافذ أن ترسل رسائلها المرئية أو المقروءة أو المسموعة لجمهور لم يكن يملك إنتاج استجابة مقابلة تحظى بإمكانيات الانتشار نفسها والقوة الرمزية نفسها التي تحظى بها الرسالة الأصلية. فقراء الصحف الورقية أو مستمعو الإذاعات المحلية والدولية أو مشاهدو السينما والتلفزيون، لم يكن بوسعهم بأية حال أن ينتجوا خطابات تفنيدية أو مقاومة أو موازية لما يقرأونه أو يسمعونه أو يشاهدونه، توزع على نطاق واسع، بدرجة قد توازن تأثير الخطاب الأصلي. وهكذا تجمعت كل القوى التي تتيحها وسائل الاتصال الجماهيري في أيدي القلة التي تسيطر عليها سواء أخذت شكل أنظمة حاكمة أم مالكي أسهم أم ملكيات عائلية..إلخ.

حتى في بعض السياقات التي كانت تتطلب دمج جمهور فعلي في الأحداث التواصلية الجماهيرية التي تنقلها وسائل الإعلام، مثل تلقي الخطب السياسية أو برامج التوك شو، لم تكن تُترك للجمهور عادة- إمكانية إنتاج استجابات حرة، بل كان يتم تنظيم هذه الاستجابات والسيطرة عليها، إما بواسطة اختيار الجمهور بعناية ليقوم بالاستجابات المتوقعة منه، أو بفرض قيود صارمة على الاستجابات غير المحببة تزيد من صعوبة إنتاجها من ناحية، وتخضع من يقوم بذلك لأشكال عديدة من العقاب من ناحية أخرى. لكن العالم في مطلع القرن الحادي والعشرين كان على وشك أن يقفز قفزة جديدة، بدا أنها سوف تعيد بشكل جذري صياغة خريطة إنتاج الخطابات وتوزيعها.

عصر استجابات الجماهير

لقد كانت التكنولوجيا التي أتاحت لشرائح محدودة من البشر التسلط على عقل البشرية بأكمله هي ذاتها التي أتاحت في العقد الأخير نوافذ أمل للفكاك من هذا التسلط، فقد تزايدت المساحة التي يستطيع من خلالها الفرد العادي في أي مكان من العالم أن يستجيب بفاعلية لرسائل الإعلام الجماهيري، وأن يبث في المقابل رسائله الشخصية على نطاق واسع، ربما لا يقل مداه في بعض الأحيان عن مدى الرسالة الأصلية، بفضل انتشار وسائط الاتصال التفاعلية مثل الصحف الإلكترونية التي تتيح تعليقات الجمهور وبرامج التلفزيون التي تتيح التعليق الآني على بثها، إما على مواقعها الإلكترونية أو عبر الرسائل الإلكترونية التي تظهر في الأشرطة التفاعلية أسفل الشاشة، ومواقع البث الشخصي للمقاطع المرئية والمصورة مثل يوتيوب، والإذاعات الشخصية التي تبث مباشرة على الإنترنت، وصفحات الإنترنت الشخصية، سواء كانت في شكل مدونات أو مواقع شخصية، والحسابات الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي على «الفيس بوك» أو «التويتر». إن نظرة سريعة على حجم تدفق المعلومات وتداولها على النطاق العالمي تشي بما لا يدع مجالا للشك بأن دور الأفراد العاديين في تزايد وتنامٍ مستمر.

ما يعنينا هنا بالأساس هو التغير الجذري الحادث في قدرة الجماهير على الاستجابة الفعالة للخطابات التي تتلقاها، ومدى قدرة الاستجابات التي تقوم بها على النفاذ إلى ساحة الخطاب العام. فلم تعد الجماهير الغفيرة مجرد مستقبل سلبي لوسائل الإعلام الجبارة، لم يعد مستمع الإذاعة أو قارئ الجريدة أو مشاهد التلفزيون أو متصفح الإنترنت يتلقى ما يُلقى إلى سمعه أو يمر أمام عينيه فيُعمِل فيه فكره، ويستخرج معناه فحسب، بل أصبح هذا المتلقي يستطيع ترجمة رأيه وموقفه مما قرأه أو سمعه أو شاهده إلى استجابات مباشرة آنية، قد تكون مواجهة لما تلقاه فتؤيده أو تفنده، تستحسنه أو تستهجنه، تؤكد مصداقيته أو تنزعها عنه، أو تكون موازية له فتضيف إليه أو تستبدله، أو تكون على هامشه فتقدم خطابها الخاص الذي قد لا يمت للخطاب الأصلي بصلة. وهكذا ظهر إلى الوجود ما أسميه «عصر استجابات الجماهير». فبفضل التكنولوجيا التفاعلية أصبح للجمهور العادي للمرة الأولى في تاريخ البشرية القدرة على إنتاج استجابات للرسائل التي يتلقاها لها نفس انتشار الرسائل الأصلية التي يستجيب لها، ودرجة لا تقل كثيرًا من قوتها الرمزية.

خصائص استجابات الجماهير في الفضاء الافتراضي

بالإضافة إلى المدى الهائل للانتشار، تتسم هذه الاستجابات الجديدة بعدة خصائص تميزها عن أشكال الاستجابات الأخرى التي كانت متاحة للجمهور فيما مضى. أولى هذه الخصائص: الآنية. لقد كان باستطاعة الجماهير فيما مضى إنتاج استجابات للرسائل التي يتلقونها عبر وسائل الإعلام، لكن هذه الاستجابات عادة ما كان يتم توزيعها في زمن لاحق على زمن إنتاج الرسالة الأصلية. فبريد القراء في الصحف الورقية كان يتيح نشر بعض استجابات القراء لكن في زمن لاحق للرسالة الأصلية. أما استجابات الجمهور في الوقت الراهن فإنها توزع وتستهلك في زمن توزيع واستهلاك الرسالة الأصلية نفسه تقريبًا، وذلك لأن الوسائط التي تنشر فيها هذه الاستجابات مثل صفحات الإنترنت - غير محدودة بقيود مشابهة لتلك التي تقيد الوسائط القديمة مثل الصحف الورقية أو البث الإذاعي.

الخاصية الثانية: ضعف الخضوع للرقابة وإعادة المعالجة. فقد كانت استجابات الجمهور عادة ما تخضع لأشكال عديدة من الرقابة، يتم أثناءها استبعاد الاستجابات غير المرغوب فيها وإعادة تحرير ومعالجة استجابات أخرى. أما الاستجابات الراهنة فإنها تتمتع بمساحة أكبر بكثير من الحرية والاستقلالية. بالطبع لاتزال هناك بعض محددات الاستجابة في بعض الفضاءات تخص كم الكلمات المكتوبة أو طبيعة الكلام المكتوب وأسلوبه، غير أن هذه المحددات لا تكاد تذكر بالقياس للقيود القديمة على استجابات الجماهير. وهذه المحددات عادة ما يتم القفز عليها نظرا لتعدد منافذ توزيع استجابات الجماهير، ووجود فضاءات شخصية لا تخضع لأي قيود خارجية.

الخاصية الثالثة: ضخامة حجم الاستجابات وتعدد أنواعها، إذ عادة ما كانت استجابات الجماهير في وسائل الإعلام غير التفاعلية محدودة في حجمها مقارنة بالرسائل الأصلية، كما أنها عادة ما كانت تصاغ في شكل رسائل لغوية فحسب. على خلاف ذلك فإن استجابات الجماهير في الوقت الراهن لا تواجه أي قيود في الحجم، وكثيرا ما يتجاوز حجم بعض الاستجابات حجم الرسالة الأصلية. وعلى النحو ذاته تتعدد في الوقت الراهن أنواع استجابات الجماهير، فقد تأخذ شكل رسائل لغوية أو شكل تسجيلات مسموعة أو مسموعة مرئية أو شكل رسائل بصرية مثل اللوحات أو الحركات الإشارية.

الخاصية الرابعة: قابلية تجهيل المصدر وصعوبة التتبع، فقد أتاحت وسائل الاتصال الإلكترونية إمكانيات لا حصر لها لتجهيل مصدر استجابات الجمهور، فالأسماء المستعارة أو الرموز واستخدام الحواسيب العامة أو الهواتف النقالة كلها وسائل تتيح تجهيل مصدر الاستجابة، ومن ثمَّ يمكن معرفة القليل للغاية عن هوية منتج الاستجابة سواء من ناحية العمر أو النوع أو الجنسية..إلخ. وفي الواقع فإن القليل من المواقع الإلكترونية هي التي تطلب معلومات شخصية عن مصدر منتج الاستجابة، ويندر أن تطلب هذه المواقع أن تكون المعلومات دقيقة أو صادقة.

الخاصية الخامسة: سهولة القابلية للحصر والقياس، فكل شيء قابل للحصر والقياس على الفضاء الافتراضي، ولا تشذ عن ذلك استجابات الجماهير، فتعليقات الجمهور على الخطاب الأصلي، وإعادة إرساله، ووضعه أو حذفه من دائرة التفضيلات وغيرها من الأفعال يمكن قياسها وحصرها وتفسير العلاقة بينها وبين الخطاب الأصلي.

وتكشف الخصائص السابقة عن الإمكانيات الهائلة لاستجابات الجماهير، والقوة العظيمة التي تنطوي عليها. ولكي توظف هذه الإمكانيات على أفضل نحو ممكن، لابد من إعادة النظر في العلوم التي ساهمت في تشكيل خطابات السلطة القديمة، لكي تنجز أهدافًا جديدة ربما كانت أكثر نبلا وأخلاقية، ويأتي على رأس هذه العلوم علم البلاغة.

من بلاغة السلطة إلى بلاغة الجمهور

على مدار قرون عديدة كانت البلاغة أداة يستطيع من يتقن استخدامها أن يسيطر- إلى درجة ما- على الآخرين. وفي مواجهة هذه الهيمنة التي تمارسها بلاغة السلطة، وللإفادة المثلى من عصر استجابات الجماهير، لا مفر من تأسيس «بلاغة للجمهور» تحاول تخليص علم البلاغة من جزء من تاريخه السلبي الطويل في خدمة السلطة على حساب المستمع أو الجمهور. هذه البلاغة الجديدة تكون غايتها إمداد الإنسان العادي، الذي يشكل اللبنة الأساسية للجمهور، بمعرفة تمكنه في حال تعرضه لخطاب بلاغي ما، من الكشف عن تحيزات هذا الخطاب ومبالغاته ومغالطاته ومفارقاته للواقع وتناقضاته الداخلية والأغراض التي يسعى لإنجازها حتى يتمكن من التمييز بين خطاب سلطوي يسعى للسيطرة عليه، وخطاب يسعى لتحريره. لكن الغاية الأهم لهذه البلاغة هي تدريب الإنسان العادي على إنتاج استجابات بلاغية فعالة تجاه كل ما يتلقاه، تمكنه من مقاومة الخطابات المتلاعبة التي تستهدف تضليله والسيطرة عليه، وفضحها، وإنتاج خطاب بديل يخلو من أشكال التلاعب والتضليل، بالإفادة من الإمكانيات الهائلة للاستجابة التي يتيحها عصر استجابات الجماهير.

لقد آمن أفلاطون بأن غاية بلاغة السلطة هي التلاعب بالمستمعين من قِبَل أناس غيرِ مخلصينَ في دوافعهم بشكل جذري. وما يمكن أن تقوم به «بلاغة الجمهور» هو إيجاد غاية جديدة للبلاغة تتمثل في تقويض إمكانيات استخدام اللغة للتلاعب بالجماهير من قِبَل هؤلاء «غير المخلصين»، وتمكين الأفراد العاديين من التوظيف الأمثل لاستجاباتهم. وهي تجعل بذلك علم البلاغة في خدمة الطرف الأضعف في عملية الاتصال الجماهيري، أعني الجمهور، مستهدفة زعزعة هيمنة سلطة الخطاب وخطاب السلطة بحيث يصبح الجمهور ممتلكا بشكل فعلي لحرية الإرادة والفعل من دون التعرض لخداع أو تضليل. إنها بلاغة تعمل على تخليص البشر من كل ما يعمل على تشويه الفهم والاتصال، وهو ما قد يؤدي إلى خلق اتصالٍ حرٍ، لا تشوهه أشكال عدم التكافؤ الاجتماعي، أو القمع الخارجي، أو القهر الداخلي، وتعزز من قدرة الجمهور على إنتاج خطابات مقاوِمة وتحررية، لتجعل من العصر الذي نعيشه بالفعل عصر استجابات الجماهير الرشيدة.
----------------------------
* أكاديمي من مصر.

 

 

 

عماد عبداللطيف*