بضاعة قديمة في ثوب جديد.. التاريخ المرئي

 بضاعة قديمة في ثوب جديد.. التاريخ المرئي

الرغبة في المعرفة التاريخية رغبة شبه غريزية لدى الإنسان منذ وجوده الاجتماعي في هذا الكون. وقد انعكست هذه الرغبة في مسارين مختلفين: تسجيل النشاط البشري بقصد حفظ الذاكرة الجماعية من ناحية، والبحث عن «الأصول» والبدايات من ناحية أخرى. وقد تنوعت التسجيلات «التاريخية» الأولى فيما بين رسوم الكهوف والنقوش الأولى باللغات التصويرية على الحجر أو الكتابة المسمارية على ألواح الطين، أو الكتابة على أوراق البردي، والبوص، والرق وغيرها، لتصير فيما بعد «مادة خام» أو مصادر تساعد في البحث التاريخي لمعرفة الأصول والبدايات التي تمثل الشق الثاني في عملية المعرفة التاريخية. وظلت المعرفة التاريخية تتقدم منذ ذلك الحين في خطى وئيدة تناسب تقدم الإنسانية في شتى جوانب حياتها المادية والفكرية.

مرت فى نهر الزمن مياه كثيرة حملت معها تطورات عديدة فى شتى نواحى المعرفة الإنسانية، وأثرت على الوسائل والأنماط المعرفية فى الحضارات القديمة شرقًا وغربًا، ومنها المعرفة التاريخية بطبيعة الحال، فقد أدى اكتشاف صناعة الورق فى الصين، ثم انتقاله إلى العالم الإسلامي- فى أوج ازدهار الحضارة العربية الإسلامية - ومنه إلى أوربا، إلى تسهيل عملية الكتابة والتدوين الذى استفادت منه المعرفة التاريخية فى شقيها: 1- تسجيل النشاط البشرى بقصد حفظ الذاكرة الجماعية، 2- البحث فى الماضى عن قصة الإنسان ونشاطه الاجتماعى فى الكون، وهو ما تشهد به تلك المجموعات الهائلة من المخطوطات - فى الكتابة التاريخية وغيرها - التى تمثل تراث الإنسانية بشكل عام والتى تسجل الجوانب المختلفة لحياة الإنسان على كوكب الأرض. وقد أدى اكتشاف صناعة الورق إلى ازدهار التدوين التاريخى واتساع نطاقه من ناحية، كما أدى من ناحية أخرى إلى تقدم البحث التاريخى فى الماضى الإنسانى. وعندما اخترعت المطبعة فى القرن الخامس عشر فى أوربا الغربية التى كانت تنفض عن نفسها غبار تخلف فترة العصور الوسطى، حدثت طفرة فى مجال المعرفة بشكل عام، وظهرت آلاف الكتب فى عناوين مختلفة فى أوربا الغربية التى ظلت تحتكر الطباعة عدة قرون قبل أن تلحق بها مناطق أخرى من العالم. وكان نصيب المعرفة التاريخية من هذه الطفرة كبيرًا حسبما تشهد قوائم معارض الكتب الأوربية الباكرة فى ألمانيا وفرنسا بشكل خاص، ومن خلال قراءة قوائم الناشرين الأوربيين والمكتبات الأوربية العامة والخاصة، حتى نهاية القرن التاسع عشر على أقل تقدير.

كانت كتب التاريخ تحظى بشعبية واسعة منذ بداية ظهور الطباعة فى أوربا، بل إن بعض الكتب التى ظهرت فى القرنين السابع عشر والثامن عشر لعبت دورا مهمًا فى الترويج لصورة ذهنية فى الغرب الأوربى عن العالم الإسلامى عامة وعن الأتراك العثمانيين بصفة خاصة نتيجة الصراع الممتد عبر القرون بين أوربا المسيحية الكاثوليكية والعالم الإسلامي، ومن هذه الكتب على سبيل المثال كتاب ميشو «تاريخ الحروب الصليبية» الذى روج لفكرة أن الحرب على الجزائر (فيما بعد فى ثلاثينيات القرن التاسع عشر) إحياء لمجد فرنسا ودورها فى الحملة الصليبية، وتجديد لمشروع لويس التاسع فى المغرب العربى بعد هزيمته وأسره فى مصر فى منتصف القرن الثالث عشر. بيد أن المطبعة أدت أيضا إلى ازدهار الفكر الأوربى فى شتى جوانبه ومجالاته العلمية والأدبية والدينية. وقد ازدهر الفكر التاريخى الأوربى منذ ذلك الحين بالشكل الذى جعل المدارس التاريخية الفكرية فى أوربا مصدر كل تقدم فى رحاب المعرفة التاريخية. وربما كان هذا التطور فى الطباعة أحد أسباب التقدم الفكرى بشكل عام فى أوربا، والغرب عمومًا وهو ما يتمثل فى المطبعة التى لم تعرفها بقية أنحاء العالم إلا بعد عدة قرون.

المطبعة هي البداية

لقد كانت المعرفة التاريخية موضوعًا قديمًا ربما يرجع تاريخه إلى تاريخ الوجود الإنسانى نفسه، ولكن المطبعة أتاحت تقديم هذه البضاعة القديمة فى ثوب جديد هو الكتاب الذى يمكن طباعته وتوزيعه فى آلاف النسخ بدلاً من المخطوط الذى لم يكن من الممكن إنتاجه سوى فى عدد قليل جدًا من النسخ. وكانت النتيجة الطبيعية لهذا التطور أن ازدهرت المعرفة التاريخية بشكل إيجابى.

وعلى الرغم من أن العالم العربى قد عرف الكتاب المطبوع فى القرن التاسع عشر، أى بعد حوالى أربعة قرون من معرفته فى أوربا، فإن نتائج هذه المعرفة لم تكن على القدر نفسه من الأهمية والفاعلية اللتين كانتا فى الغرب عمومًا. فقد كانت المطبعة مرتبطة منذ البداية بالحكم لا بالعلم والمعرفة؛ سواء عندما جاءت إلى مصر مع حملة نابليون بونابرت، أو بعد ذلك. إذ كانت «منشورات» الحملة الفرنسية بديلاً غير كامل للمناداة فى الأسواق والأماكن العامة التى عرفتها البلاد حتى ذلك الحين؛ بل إن كتاب «وصف مصر» الذى أعده علماء الحملة الفرنسية كان نتاجًا فرنسيا لأغراض فرنسية ولم تستفد منه الثقافة العربية بحال من الأحوال. وعندما صدرت «الوقائع المصرية» كانت جريدة رسمية، بل إن مطبوعات مطبعة بولاق الأولى كانت أشبه «بمخطوطات مطبوعة» إن جاز التعبير. ولم تقدم فكرًا جديدا سواء فى مجال المعرفة التاريخية أو غيرها. ثم بدأت حركة نشر الكتب على استحياء فى العالم العربى، ثم زادت إيجابيات المطبعة فى الحياة الثقافية والفكرية بشكل عام بحيث ازدهرت الدراسات التاريخية فى النصف الثانى من القرن العشرين لأسباب كثيرة: منها التوسع فى عدد الجامعات بالعالم العربي، وانتشار الجمعيات المهتمة بالدراسات التاريخية، والزيادة الكبيرة فى أعداد المؤتمرات والندوات حول موضوعات تاريخية متنوعة، فضلاً عن زيادة أعداد المشتغلين بالدراسة التاريخية من الأكاديميين وغيرهم.

فجر التاريخ المرئي

وعلى الرغم من ازدهار الكتابة التاريخية فى العالم كله وصدور آلاف الكتب عن مئات الموضوعات التاريخية فى أوربا وأمريكا والعالم العربى فى القرنين العشرين والحادى والعشرين، فإن اختراع السينما ثم التلفزيون فشبكة الإنترنت، أدى إلى تغيرات مهمة فى استعدادات جماهير الناس من المتعلمين وعامة المثقفين، بل والنخبة أيضا، وفى أذواقهم المعرفية. ويجب هنا أن نشير إلى أن الرغبة فى المعرفة التاريخية لم تتضاءل وإنما ازدادت توهجًا بسبب هذه الاختراعات الجديدة التى قدمت نمطًا من المعلومات التاريخية، التى يمكن أن نسميها التاريخ المرئي. صحيح أن هذا «التاريخ المرئي» موجود منذ البداية فى التماثيل والمعابد واللوحات التى سجلت جوانب تاريخية على مر العصور، ولكن هذا التاريخ المرئى قبل السينما والتلفزيون والإنترنت كان «تاريخًا مرئيًا جامدًا» عكس التاريخ المرئى الذى قدمته هذه الوسائل الحديثة فى الأفلام التاريخية والتسجيلية وعلى شاشات التلفزيون وبالشكل الذى اجتذب جماهير الناس إلى قاعات السينما وشاشات التلفزيون بدلاً من قاعات الدرس والمكتبات.

وربما كان هذا هو السبب فى أن الإنتاج السينمائى للأفلام التاريخية فى الغرب الأوربى استخدم كل الوسائل الحديثة لتحقيق الإبهار فى التاريخ المرئى بالشكل الذى يساعد على جذب المتفرج من ناحية، ولتحقيق الغرض وتوصيل الرسالة التى يراد توصيلها من وراء الفيلم، من ناحية أخرى، وبينما يقدم الكتاب رؤية شخص واحد للحقائق التاريخية من خلال صفحات الكتاب التى يكتبها المؤلف، يقدم الفيلم التاريخى رؤية فريق متكامل من العاملين والفنانين - بداية من كاتب القصة والسيناريو والحوار، مرورا بالممثلين وفنانى الإضاءة والتصوير حتى المخرج - تجمع بين الحقائق التاريخية والرؤى الفنية الإبداعية. ويصدق هذا أيضا على الأفلام التسجيلية التى تخضع بالضرورة لعمليات تنسيق وانتقاء تعكس وجهات نظر الفريق الذى ينتج العمل. أما المسلسلات التاريخية التلفزيونية فقد نجحت تمامًا فى اجتذاب عدد ضخم من المشاهدين وربطهم أمام الشاشة الصغيرة من ناحية، وإثارة الرغبة فى المعرفة التاريخية بحيث يمكننا القول من دون مجازفة إن هناك حالة من «الجوع إلى التاريخ» فى أوساط المجتمعات التى تعرض مسلسلات وأعمالاً درامية ذات موضوع تاريخى من ناحية أخرى.

المعرفة التاريخية كسلعة

وهناك قنوات عالمية متخصصة فى التاريخ فقط، أظن أنها نتجت عن الرغبة فى تلبية حاجات اجتماعية ثقافية للناس فى المجتمع الذى تخاطبه، كما أن هناك أمثلة واضحة فى بعض القنوات التى تخصص للأفلام التسجيلية والوثائقية يمكن أن تعزز ما ذهبنا إليه من أهمية «التاريخ المرئي» على شاشات التلفزيون. وأذكر أن جدلاً كبيرًا ثار فى المجتمع المصرى منذ زمن قريب حول بعض الأعمال الدرامية ذات الطابع التاريخي، كما أعرف أن ما تقدمه بعض القنوات من أفلام وثائقية تاريخية يجتذب أعدادًا كبيرة من المشاهدين. وتكشف أعداد الذين يشاهدون «اليوتيوب» عن رغبة جامحة فى معرفة التاريخ من خلال مشاهد مرئية. صحيح أن معظم ما يعرضه اليوتيوب يتناول ما يمكن أن نسميه «التاريخ المعاصر» والأحداث القريبة من هذا التاريخ المعاصر، ولكن هذه إشارة إلى تقدم التاريخ المرئى على حساب التاريخ المكتوب والتاريخ المسموع بفارق كبير.

وإذا اعتبرنا أن المعرفة التاريخية سلعة؛ فإن هذه السلعة التى كان لها باستمرار «منفذ» توزيع محدود فى الماضي، صارت تتطلب الآن المزيد من هذه المنافذ، وتغييرا فى أسلوب التوزيع. لقد حلت قاعة السينما محل قاعة المكتبة لدى كثير من الناس، وحلت شاشة التلفزيون محل قاعة الدرس، وقاعة الندوات فى زمن تسارعت فيه وتيرة الحياة وإيقاعها.

المعرفة التاريخية هى المعرفة التاريخية فى جوهرها منذ أقدم العصور حتى الآن، ولكن هذه البضاعة القديمة العريقة بضاعة متجددة دائما من خلال وسائل عرضها، بيد أننا يجب أن نلاحظ على الدوام أن الأنماط العديدة والمختلفة من وسائل عرض هذه البضاعة القديمة موجودة كلها، ولم تختفِ بأى حال من الأحوال من الحكاية الشفاهية، إلى الدرس فى المدارس والجامعات، إلى الكتاب، ولكن التاريخ المرئى يتقدم إلى الصدارة على حساب هذه الوسائل جميعا، ولكنه ليس بديلاً عنها.
---------------------
* أكاديمي من مصر

-----------------------------------
لَهَفي عَلى دَعدٍ وَما حفَلت
إِلّا بحرِّ تلَهُّفي دَعدُ
بَيضاءُ قَد لَبِسَ الأَديمُ أديم
الحُسنِ فهو لِجِلدِها جِلدُ
وَيَزينُ فَودَيها إِذا حَسَرَت
ضافي الغَدائِرِ فاحِمٌ جَعدُ
فَالوَجهُ مثل الصُبحِ مبيضٌ
والشعر مِثل اللَّيلِ مُسوَدُّ

دوقلة المنبجي

 

 

قاسم عبده قاسم*