وعي الرفض

وعي الرفض

كان أمل دنقل المنحاز إلى الطبقات الكادحة، من المهمشين المعذبين في الأرض، قد انفتح وعيه السياسى على الدولة الناصرية التى ما كاد يحلم معها بتحقيق الحرية والعدل والوحدة القومية حتى غابت الحرية التى أدت إلى غياب العدل، فانفتحت المعتقلات لمن أصبحوا أعداء للشعب، فى موازاة استئصال التعددية الحزبية أو قبول التنوع والاختلاف الذي تمت التضحية به على مذبح الإجماع، وتقديس الزعيم الواحد الأحد الذى لا ردّ لقضائه، ولا نقض لقوله، ولا مجال للاختلاف مع نظام حكمه، ولذلك كان لابد لابن قرية القلعة التى باعدت بينه وبينها مدينة قنا، وقامت الإسكندرية الكوزموبوليتانية ذات التباين الطبقى الحاد، بقطع الحبل السرى لوعى القرية فيه، فأدخلته إلى أتون التجربة الاجتماعية التى خرج منها متسربلا بفعل الرفض، وأداة النفى لا، وكانت النتيجة مفتتح قصيدة «كلمات سبارتكوس الأخيرة» المكتوبة في أبريل سنة 1962:

المجد للشيطان معبود الرياح
من قال «لا» فى وجه من قالوا نعم
من علم الإنسان تمزيق العدم
من قال «لا» فلم يمت
وظل روحا عبقرية الألم

وقد تحدثت عن هذه القصيدة في أكثر من موضع، لكن ما يعنينى، فى هذا السياق، هو أنها تكشف عن اللازمة الأولى لوعى المدينة المتمرد في شعر أمل دنقل، وهى صورة الشاعر الذى يرفض حتى من أجمعت عليه الملايين، وبايعته قائدا لها، وزعيما للأمة العربية كلها، فيجرؤ الوعى المدينى المتمرد على الرفض لكل ما رآه غيابا للحرية والعدل، فيقول «لا» لمن قال له الجميع «نعم» ولا يكتفى بذلك، بل يستدعى صورة الشيطان إبليس الذى كان أول من عصى الله سبحانه وتعالى، لأنه أمره بالسجود لآدم فأبى، رافضا طاعة خالقه وخالق الكون كله، كما نقرأ فى الآية {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين}***** (البقرة/ 34) والحقيقة لم يكن المقصود من استدعاء صورة إبليس التجديف الدينى، وإنما تأكيد فكرة الرفض نفسها، وصورة الشاعر الرافض القادر على قول «لا» حتى لمن أجمعت عليه الجماهير، وخلعت عليه أجهزة الدولة الإيديولوية صفات تكاد تجعله فوق البشر، فأراد الشاعر الذى يؤمن بوضع كل شىء موضع المساءلة الجذرية، بما فى ذلك الحاكم المطلق الذى كان عبد الناصر نموذجا له، رغم كل إنجازاته العظيمة وتجسيده للمعنى القومى الذى ظل أمل مؤمنا به وكان الهدف هو تأكيد ضرورة أن تقول «لا» لحكامنا دون أن تتهم بالكفر السياسى أو الخيانة الوطنية، فحق الاختلاف حق مقدس فى الدولة القومية القائمة على الحرية والعدل حقا وإذا كان إيمان أمل بالعدل الاجتماعى جعله منحازا للمهمشين من معذبى الأرض، فإن إيمانه بالحرية كان يدفعه إلى كراهة أى شكل من أشكال الاستبداد السياسى الذى هو الوجه الملازم للاستبداد الاجتماعى، ولا أدل على أن المدلول البشرى السياسى هو المقصود من دال «الشيطان معبود الرياح» وجود الإشارة إلى ما ينبغى أن يتحلى به الإنسان سبارتكوس من قدرة على الرفض، التى تدعو إلى تحرير العبيد من تعودوا قول «نعم» وتتصدى لحضور الدال الرمزى القيصر الذى هو مفرد بصيغة الجمع، ما ظل مدلوله جامعا لكل أشباه القيصر الذين يلتقون معه فى دلالة الحكم المطلق.

والحق أن صورة الشاعر الرافض الذى يؤثر أن يقول «لا» لكل ما يراه خطأ وانحرافا عن تحقيق الحرية والعدل هى التى تؤكد حضور «لا» فى مواجهة كل من تخلى عن العدل، ولذلك تجمع دلالة دال النفى «لا» ما يتحول إلى دال للنهى والتحذير، ومن ثم الحث على اتخاذ موقف، وذلك فى مدى روح «عبقرية الألم» تبدأ من أداة النفى التى تستهل قصيدة «كلمات سبارتكوس» سنة 62، فى مواجهة ديكتاتورية عبد الناصر، إلى الأداة نفسها التى تلازم فعل التحذير فى قصيدة «لا تصالح» المكتوبة لإثناء السادات، الذى كان ديكتاتورًا آخر لكن على طريقته عن المضى فى الطريق الذى انتهى بتوقيع معاهدة الصلح مع إسرائيل فى السادس والعشرين من مارس 1979. وما بين «لا» الأولى و«لا» الأخيرة، جاءت الأداة نفسها لتفتتح «لا وقت للبكاء» المكتوبة سنة 1970، بعد وفاة عبدالناصر فى الثامن والعشرين من سبتمبر، وبالفعل لم يكن هناك وقت للبكاء فالعلم الذى تنكسينه على سرادق العزاء منكس فى الشاطئ الآخر والأبناء يستشهدون كى يقيموه على تبة وفى الحقل الدلالى نفسه تتكرر الأداة فى فعل النفى «لا أبكيه» التى كتبت فى أكتوبر 1973، عندما مات طه حسين، وألقى أمل قصيدة عمودية فى رثائه، مؤكدا أن طه حسين واحد من الذين أضاءوا مصر معرفة وعلما واستنارة، وهو الذى أحبه الفقراء منذ أعلن أن التعليم كالماء والهواء حق لكل مواطن، وقام بتنفيذ ما أعلنه عندما أصبح وزيرا للمعارف فى حكومة الوفد الأخيرة قبل ثورة يوليو 1952. ولذلك تؤكد القصيدة أن طه حسين أحد الذين مضوا «شهداء الغد فى نبل وطيبة»

سيعودون، فلا تبكى
فمايرتضى المحبوب أن تبكى الحبيبة
أترى تبكين من مات لكى
تستعيدى راية الفكر السليبة
والذى مات لكى ينقش فى كل
قلب ناشئ حرف العروبة
ولكى يحتضن الطفل حقيبة
ولكى تقتات بالعلم الشبيبة
ولكى يهوى حجاب الخوف عن
روح ربات الجمال المستريبة
ولكى يرفع سيف العدل فى
وجه أبناء المماليك الغريبة

...

أترى تبكين يا مصر؟ أنا
لست أبكيه وإن كنت ربيبة
شرف الأبناء أن يمضى أب
بعد أن قدّم للمجد نصيبه
شرف للأب أن يمضى فلا
تعترى أبناءه الروح الزغيبه

هذا الإباء الذى تنطوى عليه القصيدة السابقة، هو نفسه الذى يمتزج بحب الوطن الذى يرعانا جميعا، والذى طعمنا خبزه فى الزمان الحسن، فلا يليق أن نتركه ونتخلى عنه، أو ندير له ظهرنا، هاربين منه، ومن مقاومة غياب العدل أو الحرية فى زمن المحن، فواجب الوطن علينا أن نبقى فيه ونصارع كل ما يناقض حريته، التى هى حريتنا، وما يحرمه من أن يعدل بيننا، خصوصا حين يقع الظلم عليه، فواجبنا فى أزمنة المحن ألا نهرب منه، بل أن نبقى فيه، متصدين لأعدائه الذين هم أعداؤنا، فنكون مثل ابن نوح الذى أبى النزوح.

بعد أن قال «لا» للسفينة
وأحب الوطن.

هكذا، يصبح موقف الرفض هو موقف النفى، والأداة «لا» هى اللازمة التى تستهل التمرد على شروط الضرورة من أجل قيم الحرية والعدل، وهما الزاويتان الأساسيتان فى مثلث الوعى القومى الذى تكتمل قيم وعيه المدينى بمبدأ الوحدة القومية التى رفعت القاهرة الناصرية شعاراتها الثلاثة: الحرية، الاشتراكية، الوحدة، ولذلك ظلت قاهرة أمل قاهرة قومية، تحتضن قضايا العرب العادلة، خصوصا القضية الفلسطينية التى لم تفارق شعره قط، ويكفى أن نتذكر «خولة البدوية الشموس بالقرب من أريحا» فى قصيدة «مذكرات المتنبى فى مصر» يونيو 1968و«مازن أبو الغزالة» الذى رحل مع المقاومة فى الفجر و«تعليق على ما حدث فى مخيم الوحدات» سبتمبر 1970 و«سرحان لا يتسلم مفاتيح القدس» تلك التى أقف منها على الإصحاح السادس:

أشترى فى المساء
قهوة وشطيرة
وأشترى شمعتين وغدارة، وذخيرة
وزجاجة ماء

... ... ...

عندما أطلق النار كانت يد القدس فوق الزناد
ويد الله تخلع عن جسد القدس ثوب الحداد
ليس من أجل أن ينفجر نفط الجزيرة
ليس من أجل أن يتفاوض من يتفاوض
من حول مائدة مستديرة

والأبيات تصل انحياز أمل القومى للقضية الفلسطينية بالنزعة الحدية التى انطوى عليها شعره، وهى النزعة التى ترفض المهادنة أو اللين فى طلب الحق، فالحق عدل، وطلب العدل واجب فى الأعناق، لابد من بذل الأرواح فى سبيله، وفلسطين السليبة أول الطريق إلى استردادها يد الزناد، وليس الجلوس إلى مائدة مفاوضات، فطالب الحق لن يحصل عليه إلا إذا انتزعه بالقوة، وهذا بعد دلالى يعيدنا إلى فضاء أداة النهى والنفى فى «لا تصالح»، خصوصا فى المقطع الذى يرفض حتى المتاح أو التأجيل إلى وقت يتاح فيه كل من يوقد النار شاملة، وهو ما ترفضه «الحدية» التى تؤكد أنه الثأر

تبهت شعلته فى الضلوع
إذا ما توالت عليها الفصول
ثم تبقى يد العار مرسومة بأصابعها الخمس
فوق الجباه الذليلة

ولذلك كانت رصاصات سرحان التى أودت بحياة روبرت كيندى هى الوجه الآخر من هذه الحرية التى سبق أن تحدثت عنها، سواء من منظور الوعى القومى لأمل دنقل الذى كان شعره خير تعبير عن سقوط المشروع القومى، ورفضا حديا للعوامل المؤدية إليه ابتداء من رفض المصالحة أو المهادنة فى القضية الفلسطينية، إلى رفض الهوان العربى الذى اقترن بالاستبداد، ومن ثم غياب الحرية والعدل، ونضوب ينابيع الوحدة القومية التى قضى عليها الهوان العربى، فغطى غبار النسيان على مجد «الحمراء» فى الأندلس الغرناطية، حيث تراكمت على جدران ما بقى من قصور الأندلس طبقات الصمت والغبار، وقس على ذلك المسجد الأقصى الذى احترق منه الرواق، فلم يفعل أحد شيئا، وظلت اللوحة الأخيرة من «رسوم فى بهو عربى»، كما هى

خريطة مبتورة الأجزاء
كان اسمها «سيناء»
ولطخة سوداء
تملأ كل الصورة
ولم يعد سوى نقش مكتوب فيه
الناس سواسية فى الذل كأسنان المشط

وقد ظل أمل دنقل يقرن بين انكسار المشروع القومى وصعود أموال النفط، ولذلك كان يتكلم عن «الأرض والجرح الذى لا ينفتح» أما الأرض فهى الأرض العربية كلها والجرح الذى لا ينفتح هو الجرح الذى ينغلق على قيحه فيظل غير قابل للبرء، ويتسبب فى تسميم البدن كله، والبدن هو الأرض العربية التى سمم المغول الجدد كالمغول القدامى نهرها، فجدبت الأرض، وعيونها خبت من الإعياء تنتظر المصير المر، بعد أن هيمن عليها الطغاة من كل صوب وحدب.

ينفصل الصوت القومى فى شعر أمل، عن صوت الشاهد الذى يجاوز المراقبة إلى التعليق، غير متردد فى تقمص دور ضمير الجماعة اليقظ، الذى لا يكف عن تنبيهها ولا بأس لو استخدم شعر أمل صيغة «أقول لكم» التى نقلها صلاح عبدالصبور من الكتاب المقدس «العهد الجديد» إلى الشعر، مضفيا على صوته هالة تميل بالمستمعين إلى القبول، وهو الأمر الذى يفعله أمل دنقل فى ديوانه «تعليق على ما حدث» خصوصا القصيدة التى يحمل الديوان اسمها، والتى كانت لاتزال تنطوى على كراهة «العسكر» الذين قادوا مصر إلى الهزيمة التى لم تبرأ منها بسبب آليات حكمهم التى تختزل الوطن كله فى شخص قائد واحد، لا حكم لأحد إلا له، والطاعة له مطلقة فى كل الأحوال، وعلى نحو تتدرج معه طاعة القائد الأوحد من الأعلى إلى الأدنى، فى تراتبية هابطة، هى التجسيد الأمثل للحكم الاستبدادى، فى بنية هيراركية بطريركية، لاتخلف إلا التخلف والفساد والظلم وغياب العدل ومن المؤكد أنها بنية ترفض الاختلاف، وتعادى التنوع، ولا تكف عن استئصال المغاير، فلا يبقى سوى الصوت الوحيد الرجع، فتكون الكارثة هى النهاية ولذلك تبدأ قصيدة «تعليق على ما حدث فى مخيم الوحدات» على النحو التالى:

.. قلت لكم مرارا
إن الطوابير التى تمر
فى استعراض عيد الفطر والجلاء
فتهتف النساء فى النوافذ انبهارا
- لا تصنع انتصارا
إن المدافع التى تصطف على الحدود، فى الصحارى
لا تطلق النيران.. إلا حين تستدير للوراء
إن الرصاصة التى ندفع فيها.. ثمن الكسرة والدواء
لا تقاتل الأعداء
لكنها تقتلنا.. إذا رفعنا صوتنا جهارا
تقتلنا، وتقتل الصغارا!

والمقطع موجع فى تصويره طبيعة الحكومات العسكرية التى تنبنى على الاستبداد، وتشيع طبائعه حولها، لكنها تعادى شعبها فى كل أحوالها، وتطلق النار على أبناء الوطن، إذا جاوزوا حدود الطاعة. ومخطئ كل الخطأ من يتوهم أن مثل هذه الحكومات تحقق انتصارا، أو تستعيد أرضا سليبة، فجيشها مظهرى، واحتفالى أكثر منه قتالى، ما ظل سلاحه مشرعا للدفاع عن حكومات استبدادية، وليس لاسترداد ما سلب من أرض الوطن ولافت للانتباه دور علامات الترقيم فى تأكيد الدلالة المقصودة، ففعل القول «قلت» يأتى بعد نقطتين مرسومتين على الصفحة، كى تدلاّ على ما يبدو كأنه استئناف للكلام، والقوس يفتح ليقطع الاسترسال بتعليق لا يخلو من السخرية، حتى فى إضافته إلى الدلالة والتقابل بين الأمام والوراء يبرز معنى هذه السخرية، تماما كالمجاورة بين الرصاصة وثمنها المقتطع من ثمن الخبز والدواء للشعب، حيث تنطلق الرصاصة التى تتجه إلى نقيض المقصود منها، أى من ليسوا أعداء للوطن بل إلى أهل الوطن ومرة أخرى يلعب التنقيط دوره فى علامات الكتابة، فيوقف اندفاع القراءة بعد «لكنها تقتلنا» ليصمت القارئ هونا، كى يستوعب السامع أو القارئ الذى يسمع بأذن الخيال المعنى الذى تؤكده القافية عن العقاب على إنطاق المسكوت عنه، قمعا، دون تمييز بين «جهارا» من الكبار و«صغارا» من الأبرياء.

وتتكرر صيغة «قلت لكم» أربع مرات كأن الرقم يختم دورة فصول، أو تحولات أمة، كى تؤكد أمثولة «زرقاء اليمامة» التى لم يسمع أهلها تحذيرها فكانت كارثة 1967التى أنتجت «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة» وكارثة مخيم الوحدات التى كانت نتيجة التحذير الذى لم يسمعه أحد وهى عادة عربية أصبحت علامة بارزة من علامات زمن سقوط المشروع القومى الذى لم ينهض من هزيمته إلى اليوم.

والنتيجة هى صورة اللامنتمى الرافض الذى يمكن أن يتخذ هيئة كائن متمرد، عدوانى مستفِّز (بكسر الفاء) ومستفَّز (بفتحها)، لا يتردد فى أن يعكر الصفاء الأبله المموه فى عوالم الآخرين التى يرقبها فى حياد، غير شاعر بالانتماء إلى أى شىء، وغير حريص على شىء إلا سلامته الشخصية، بعيدا عن التورط فى شيء، وذلك على نحو تتضافر فيه الفردية التى لا تراعى سوى حضورها بمعنى بالغ الضيق والأنانية مع عدم الاهتمام بأى قضية عامة، أو حتى المبادرة إلى الحضور الفاعل لشاهد يهتم بما يرى، ويتخذ موقفا فاعلا لمصلحة الحق، كما لو كان المنطق الأنانى يقول: ما دمنا نحيا فى زمن الحق الضائع فلأحمى نفسى بالبعد عن كل ورطة، فنقرأ:

.. طار سيارته ملوّث بالدم
سار.. ولم يهتم
كنت المشاهد الوحيد
لكننى.. فرشت فوق الجسد الملقى جريدتى اليومية
وحين أقبل الرجال من بعيد
مزّقت هذا الرقم المكتوب فى وريقة مطوية
وسرت عنهم.. ما فتحت الفم!!

والأبيات مصاغة لكى تكون موازاة عصرية لموقف «أبى موسى الأشعرى» الذى لم يكن يسعى إلا إلى مصلحته الشخصية، دون انتماء حقيقى لموقف أو قضية، فالدافع الوحيد إلى حركته هو المنفعة الشخصية التى لا تتردد فى إظهار سلبيتها كما فى هذا المشهد المدينى الذى يسكت فيه شاهد الجريمة عن الشهادة، ولا يتردد فى تمزيق الوريقة التى كتب فيها رقم سيارة القاتل، فضولا شخصيا، وليس بحثا عن عدل أو حق مهدر. هكذا يصمت عندما يتكاثر الحضور، ويمضى غير آبه بشىء.. وهكذا إلى أن يصل إلى المقهى الذى اعتاد الجلوس عليه وسط المدينة التى بلا قلب، فنرى هذا المشهد

حين دلفت داخل المقهى
جردنى النادل من ثيابى
جردته بنظرة ارتياب
بادلته الكرها 
لكننى منحته القرش فزين الوجها
ببسمة.. كلبية.. بلها
ثم رسمت وجهه الجديد.. فوق علبة الثقاب

والحق أن مفتاح المشهد فى هذه الأبيات هو النظرة العدوانية التى تنطوى على التشاؤم وإساءة الظن بكل شىء فى العالم، كأننا إزاء شخصية معادية للبشر من كثرة ما رأته من شرور البشر، فاختلط فيها كره البشر بالارتياب فيهم، على نحو يحول دون أى تواصل إنسانى.

وليس بغريب، والأمر كذلك، أن نقرأ فى شعر أمل فى تجليات هذه النزعة:

أرشق فى الحائط حد المطواة
والموت يهب من الصحف الملقاة
يصفعنى وجهى المتخفى بقناع الذل
أصفعه.. أصفع هذا الظل

وهي صورة تتجانس فى نزعتها العدائية مع الصورة السابقة، فالجامع بينهما واحد، وهذا ما تؤكده الصورة الثانية من قصيدة «العراف الأعمى» (المكتوبة سنة 1974). وأهميتها أنها تبرر النزعة العدائية التى ينطوى عليها الشاعر فى حالات تشبه حالات اليأس من إمكان الخلاص، يأس لا يعرفه إلا من يدرك معنى أن يمشى الإنسان ويمشى، بحثا عن إنسان آخر، حتى تتآكل فى قدميه الأرض، ويذوى من شفتيه القول، فيغيص الحلم، ويتحشرج الصوت كحرف يحتضر بأرض الخوف، دون أى حب، أو معنى الحرية، فلم يعد المتوحد العدوانى يملك سوى الحرف السيف، ولكن السيف أصبح مثلَّم الحد، كالحضور الذى ضاع بين الأحياء الموتى.. والموتى الأحياء، لكن دون أن يرتد النبض إلى القلب الساكن، فلا يبقى سوى الكره، سوء الظن، فقدان الثقة فى البشر الذين أدمنوا الانحناء لكل قيصر، فخلف كل قيصر يموت قيصر جديد:

وخلف كل ثائر يموت: أحزان بلا جدوى
ودمعة سدى

لكن لحظة اليأس هذه عابرة وسط لحظات الرفض التى يتوهج بها الوعى المدينى الذى ينطوى عليه شعر أمل فى مواجهة سقوط الوعى القومى الذى ظل شعره رفضا له واحتجاجا عليه.

 

 

 

جابر عصفور