أحمد الدوسري في روايته «ابن زريق البغدادي»: الاحتفاء بالحب والشعر

أحمد الدوسري في روايته «ابن زريق البغدادي»: الاحتفاء بالحب والشعر

لطالما اعتقدت ومازلت أعتقد إلى حد بعيد، بأن الكاتب أو الفنان لا يستطيع أن يبدع في غير ضرب واحد من ضروب الكتابة أو الفنون، وهو أمر يعود إلى قناعة راسخة لدي بدور الموهبة الأساسي في تحديد هوية المبدع ووجهته من جهة، وبقصر الحياة النسبي بما لا يفسح مجالاً للاهتمام بأكثر من فن واحد والذهاب به حتى نهاية الشوط من جهة أخرى.

لا ينفي ذلك بالطبع حق المشتغلين بالكتابة والفن في أن يفعلوا ما يشاءون وبخاصة في زمن النصوص المفتوحة والتشابك المطرد بين الفنون الذي واكب ظهور الحداثة قبل قرنين من الزمن، واتخذ منذ ذلك الوقت أشكالاً ووجوهًا مختلفة. فثمة شعراء رسامون، ورسامون نحاتون، وشعراء روائيون ومسرحيون، وكذلك الأمر بالنسبة للسينما والموسيقى والتصوير والغناء وغيرها.

إلا أن تفحصًا عميقًا لمجريات الأمور يقودنا إلى الاستنتاج بأن الإنسان في العمق لا يستطيع أن يقسم نفسه بالتساوي بين فنين مختلفين، وأن إنجازه الإبداعي الجوهري لابد أن يتجلى في نوع واحد من الفنون، في حين سيظل الآخر أكثر عرضية وأقل شأنًا. وقد تكون الاستثناءات الأبرز في هذاالمجال متعلقة بالبحث الفكري والنقد الأدبي والفني، حيث الأمر هنا يتصل بالاجتهاد والدأب والتراكم المعرفي أكثر من اتصاله بالموهبة المجردة والمنفصلة. وهو ما يفسر ظهور شعراء وكتّاب وفنانين أسهموا بقوة في رفد الحركات النقدية بأسباب الجدة والمغايرة والتنوع، أو بوجود شعراء عرب وأجانب قدموا على المستوى النثري نصوصًا كثيرة لاتقل أهمية في بعض الأحيان عن نصوصهم الشعرية. لكنني بحدود ما أعلم، لم أعرف أحدا أستطاع، أن يقدم إضافة جوهرية إلى نوعين اثنين من الآداب والفنون، وعلى الرغم من أننا شهدنا في الآونة الأخيرة تزايدًا لافتًا لعدد الشعراء الذين شرعوا في كتابة الرواية وخصُّوها بالكثير من جهدهم ووقتهم وعنايتهم، فإن القيمة الشعرية لهؤلاء ظلت هي الراجحة، دون أن أقلل من جودة بعض الروايات التي كتبها شعراء متمرسون ووضعوا فيها نفحة عالية من موهبتهم وتضلعهم باللغة. وقد يكون أدب المذكرات والسيرة الذاتية هو المحل الأكثر ملاءمة لتجوال الشعراء وبراعتهم، نظرًا لما يمتلكونه من نرجسية عالية ومن تمحور لا ينقطع حول الذات وشجونها المختلفة.

مهنية الروائي الشاعر

على أن هذه التوطئة التي تحتاج إلى المزيد من المعالجة والتقصي ليست القاعدة الثابتة التي تخلو من الاستثناءات. فإذاعرف الشعراء كيف يتخففون من جنوح لغتهم الزائد إلى الكلام الشعري، أو كيف يخضعون مخيلاتهم الهائجة لمقتضيات السرد، فإنهم يستطيعون في تلك الحالة أن يقدموا نماذج روائية وسردية متميزة، كما هو حال الشاعر البحريني أحمد الدوسري الذي أعترف بأنني شرعت في قراءة روايته اللافتة «ابن زريق البغدادي/ عابر سنين» بداعي الفضول في البداية، ثم تحول الأمر إلى امتنان حقيقي بالعمل ظل ملازمًا لي حتى صفحته الأخيرة. لا بل إنني قدَّرت بداية أن الكتاب قد يكون بحثًا نقديًا في عينية ابن زريق الشهيرة، أو دراسة تاريخية عن أحد أهم شعراء القصيدة الواحدة في التراث العربي، إلى جانب مالك بن الريب ودوقلة المبنجي وقلة آخرين. لكن «مهنية» الروائي الشاعر سرعان ما تكشف عن نفسها منذ السطورالأولى للرواية، حيث نقرأ المقطع التالي على لسان بطلها أبي العباس محمد بن يحيى الكاتب الجرجاني: «نحن في سنة 471 للهجرة. وقد مر على وفاة ابن زريق البغدادي أكثر من خمسين عامًا. وأنا لست سوى كاتب صغير في ديوان وزير الدولة أعزه الله. ومنذ أن كلف الخليفة - أدام الله ظله على الأرض - مولاي الوزير بهذه المهمة وأنا مرتحل في بلاد الله أبحث عن طلب الخليفة. ذرعت العراق والشام ومصر وإفريقيا كلها حتى بلغت الأندلس نفسها طلبًا للحقيقة، وأي حقيقة؟».

يضعنا الكاتب تدريجيًا بعد ذلك في مناخ الرواية وعوالمها الغريبة، حيث يذهب أبو العباس الجرجاني بتكليف من مولاه وزير الدولة للبحث عن حقيقة ابن زريق واستجلاء الألغاز الكثيرة التي أحاطت بذلك الشاعر، الذي قضى بعيدًا عن الفتاة التي شغف بها، وعن مدينته بغداد التي لم يتح له حظه العاثر أن يدفن في ترابها.

على أن الجرجاني لم يعد من رحلته إلى الأندلس بما يشفي غليل الوزير ولا الخليفة العباسي، ولم يعرف من حقيقة صاحب «العينية» الشهيرة إلا ما تناهى إلى أهل بغداد من معلومات شحيحة لا تشفي غليل الباحث عن حقيقة الشاعر أو الملمين بأخباره. على أن الطريف في الأمر هو أن الجرجاني لا يكتفي بالشك بحقيقة وجود ابن زريق البغدادي من الأصل، وبالتفكير بأن أحدًا من الشعراء العرب قد انتحل اسمه، ونسب القصيدة إليه لأسباب غامضة، بل يذهب إلى الشك بوجوده هو الآخر، وبخاصة بعد أن عاد إلى بغداد بعد سنوات ثلاث من الغربة ليجد منزله مسكونًا من قبل أناس آخرين ينكرون عليه ملكيته للمنزل، وليفقد الصلة بزوجته وأولاده الثلاثة في الوقت نفسه.

لم يكن أبو العباس الجرجاني ليتجرأ على مقابلة الوزير أو الخليفة وهو خالي الوفاض، لذلك، يقرر الاستمرار في بحثه عن حقيقة الشاعر الذي يحفظ الناس قصيدته الشهيرة «لا تعذليه فإن العذل يولعه/ قد قلت حقًا ولكن ليس يسمعه» عن ظهر قلب. ثم تقوده المصادفات من مكان إلى مكان ومن شخص إلى آخر، حتى يحط به المطاف أخيرًا في المدائن القريبة من بغداد حيث يلتقي بشيخ طاعن في السن اسمه صائد الكوفي ما يلبث أن يعترف له بأنه رافق ابن زريق في رحلته إلى قرطبة وفي معاناته المريرة التي قادته عبر مصر وصقلية إلى تجشّم المخاطر لكي يجد المال اللازم للاقتران بابنة عمه هند، التي رفضت أمها تزويجها له بسبب فقره المدقع. هكذا يسلمنا المؤلف إلى راوية آخر هو صائد الكوفي الذي ينصت الجرجاني مذهولاً إلى حكايته مع ابن زريق الذي ربطته به صداقة عميقة الوشائج دفعته إلى ترك أمه وحيدة في بغداد، ومرافقة الشاعر الذي عانى اليتم والفاقة، كما لم يحدث لشاعر آخر إلى الأندلس لكسب المال اللازم لزواجه المأمول.

روح السرد العربي

ثمة بالطبع تفاصيل وجزئيات كثيرة تحفل بها رواية أحمد الدوسري المشوقة والمؤثرة في آن واحد. واللافت هنا أن المؤلف يترك للمصادفة المحضة أن تدفع تراجيديا ابن زريق إلى نهاياتهاالمؤلمة. فالأمير أبوعبدالرحمن الأندلسي الذي مدحه الشاعر البغدادي بغية الحصول على خمسة آلاف دينار، هي قيمة المهر الذي طلبته أم هند الجشعة والقاسية من عاشق ابنتها المولّه، لم يكن يهدف حين قصرعطاءه لابن زريق على ثلاثين دينارًا سوى امتحان الشاعر في تعففه وإحساسه بالكرامة حتى إذا آنس منه هذا التعفُّف نقده بقية المبلغ المالي بعد أيام. لكن ابن زريق الذي شعر بجرح بالغ في كرامته لم يستطع تحمل الموقف، فقضى نحبه من الألم والغم، تاركًا تحت وسادة غربته إحدى أشهر القصائد العاطفية والوجدانية في التاريخ العربي. ثمة في هذا المصير الفاجع الذي واجهه ابن زريق ما يتصل بما يمكن تسميته بسخرية الأقدار التي تقلب الطرافة إلى مأساة، والموقف العابث إلى مأزق كابوسي، وهو ما نجد نظائر له في التراجيديا الشكسبيرية وبخاصة في مسرحية روميو وجولييت التي كان يمكن لها أن تشهد نهاية مغايرة لو تمكن حامل الرسالة من إيصالها في الوقت المناسب وإلى الشخص المناسب. ولو لم يخطر للأمير الأندلسي أن يمتحن ابن زريق بعد مدحه له ليرى ردة فعله إزاء المبلغ الشحيح الذي منحه إياه لتغيّر مصير الشاعر وعاد إلى حبيبته وهو يحمل لها المهر وخاتم الزفاف والسعادة المنتظرة، إلا أن نهاية سعيدة كهذه لم تكن لتمكّنه من كتابة رائعته الشعريةالتي ظلت تتلألأ كالماسة في معاصم الزمن. وهذاالمأزق الإشكالي لا ينحصر بابن زريق وحده، بل ينسحب على مجمل الشعراء العذريين الذين كان عليهم أن يخسروا الحياة لكي يربحوا القصيدة.

لا بد من الإشارة أخيرًا إلى بعض الملاحظات التي تستوقف قارئ رواية أحمد الدوسري «ابن زريق البغدادي». أولى هذه الملاحظات تتمثل في البنية السردية للعمل حيث يستلهم المؤلف روح السرد العربي المتصل بألف ليلة وليلة وكتب السيرة العربية أكثر مما يستلهم تقنيات الرواية الغربية وسياقاتها السردية. وهذاالتمثل نلمحه بوضوح على مستوى اللغة التي تعتمد الجمل الخبرية المتلاحقة والنسق الحكائي الواقعي الذي يدفعناإلى تصديق ما نقرؤه، كما لو أنه يمر للتو على شاشة العين والذاكرة. صحيح أن عناصر سحرية عديدة تشيع في ثنايا الرواية ومفاصلها كالتأرجح بين حدوث الواقعة أو نفيها، أو بين وجود الأشخاص وانعدامهم، ولكن كل ذلك يمر بسلاسة فائقة وقدرة عالية على الإقناع. أما الملاحظة الثانية فتتعلق بتخلص الكاتب، القادم من الشعر، من الزوائد الشعرية والإنشائية التي يقع فيها الشعراء الروائيون في الأعم الأغلب، لكن الدوسري بالمقابل يركز على جماليات النثر وليونته التعبيرية المتواءمة مع مقتضيات السرد وتبدلات المواقف الإنسانية. وعلى الرغم من ذلك فإن الرواية برمتها هي احتفاء بالشعر وإعلاء لشأنه من خلال شاعر عربي استطاع بقصيدة يتيمة واحدة أن يقهرالزمن، وأن يكتسب إلى حد بعيد ملامح الأسطورة. ومع أن الرواية تنفرد في تضمنها للعديد من القصائد التي تدور حول الحب والفراق وعشق المدن، فإن هذا التضمين لم يكن متعسفًا أو مفتعلاً، ولم يؤثر بشكل سلبي على مسار الرواية.

والملاحظة الثالثة والأخيرة تتصل بالمواءمة الضمنية بين المرأة والمدينة، حيث لم تكن هند سوى الوجه الأنثوي لبغداد، ولم تكن خسارتها من قبل عاشقها ابن زريق سوى الوجه الآخر لخسارة المدينة التي لم يعد لها ألق الأزمنة الفردوسية الغابرة، زمن المنصور والرشيد والمأمون. هكذا يبدو فساد الحب صدى لفساد الأمكنة، ويبدو موت الشاعر في حالات كهذه وكأنه فعل احتجاج على خراب العالم وتداعي الحضارات.
-----------------------------
* شاعر وكاتب لبناني.

 

 

 

شوقي بزيع