الشعر والتصوير بين لقاء وافتراق

 الشعر والتصوير بين لقاء وافتراق

ترتبط الفنون فيما بينها بعلاقات أبرزتها الفلسفة الجمالية الغربية عبر تاريخها. ولعل العلاقة التي تربط بين الشعر والتصوير كانت من بين أهم القضايا الجمالية التي تناولتها الكتابات النقدية الغربية منذ العصر الكلاسيكي، فقد شاع في الفكر الإغريقي والروماني القول بوجود علاقة تشابه بين الشعر والتصوير، وهو مبدأ يعود إلى ما قبل عبارة الشاعر الروماني هوراس (65 - 8 ق. م.) الشهيرة «الشعر مثل التصوير» التي جاءت في قصيدته «الفن الشعري». والمتفق عليه بين الباحثين أن أوّل من صرّح بمبدأ التشابه هذا هو الشاعر الإغريقي سيمونيدس (556 468 ق. م.) بقوله إن «الشعر صورة ناطقة والتصوير شعر صامت».

عبارة «هوراس» هي التي وجدت الصدى الأكبر في تاريخ النقد الأدبي، حتى قيل إنها من أكثر العبارات النقدية الجمالية التي أثارت التعليقات والمناقشات على مدى قرون عدة. ويبدو أن المقصود بعقد صلة التشابه بين الشعر والتصوير هو إعلاء شأن الشعر الوصفي الذي يتناول موضوعاته، كما يتعامل الرسم معها: ينقلان ويمثلان مظاهر الوجود الخارجي.

ظلّ هذا المفهوم للتشابه بين الشعر والتصوير سائدًا في الفكر الغربي قرونًا عديدة، ولم يأت الردّ الأساسي عليه إلا في القرن الثامن عشر في الدراسة المهمة التي وضعها الفيلسوف الجمالي الألماني غوتهولد أفريم لسنغ بعنوان «لاوكون» (1766). ففي هذه الدراسة يعقد لسنغ مقارنة بين تمثال روماني يمثّل رجل الدين لاوكون وهو يصارع ثعابين ضخمة التفّت عليه ونفثت فيه سمومها، والوصف الذي نظمه فرجيل شعرا للحدث نفسه. ويستنتج لسنغ من ذلك نظرية في الفلسفة الجمالية تفرّق بين الشعر والفنون التشكيلية، معارضة لعبارة سيمونيدس، التي كانت، في رأيه، السبب الأساسي بل الأوحد في الفوضى التي عمّت الفنون في عصره. ويجمع الباحثون أن لسنغ سعى بنظريته هذه إلى مهاجمة الشعر الوصفي السائد حينذاك وتسفيهه.

إشارات التصوير

تتلخص نظرية لسنغ في قوله إنه إذا كان صحيحا أن التصوير يستخدم، في محاكاته، وسائل أو إشارات (signs) مختلفة تماما عن تلك التي يتعامل بها الشعر، هي الأشكال والألوان في المكان، بينما يتكوّن الشعر من أصوات تُنطق في الزمان، وإذا كان ثابتًا أن الإشارات تربطها بالضرورة صلة الملاءمة بما تدلّ عليه، فإن الإشارات التي تنتظم الواحدة إلى جانب الأخرى لا تعبّر إلاّ عن أشياء متتابعة أو ذات أجزاء متتابعة. ويعرّف لسنغ المكان بأنه تزامن الأشياء ضمن نظرة شاملة، هي الشكل المتجانس للرؤية. فالأشياء المكانية هي تلك التي تراها العين دفعة واحدة، إذ إن المكان هو وحدة الأشياء ضمن شريحة من الزمن وتعايشها في رؤية خاطفة. وهنا يؤكد لسنغ مبدأ الارتباط بين المكانية وحاسة البصر، وبسبب هذا المفهوم للمكان أمكنه الجمع بين النحت والتصوير، وكأنه ليس من فارق أساسي بينهما.

لكن لسنغ وإن وضع حدودا فاصلة بين الشعر والتصوير، إلا أنه يجمع بينهما في توجههما إلى هدف مشترك هو المحاكاة، وفي مطابقة وسائل كل منهما أو إشاراته لطبيعة الموضوع المحاكى. وهذه المطابقة هي التي تؤدي إلى كون الدال (signifier) ممثلاً للمدلول (signified) حتى يمكن إدراكه إدراكًا حدسيًا مباشرًا يأتي متزامنًا مع إدراك الإشارة. ويرى لسنغ أن التمثيل (representation) هو المبدأ الأساسي في الفنون، بل إن عماد مذهبه هو القول بأن الفنّ تمثيل. ومن هذا المنطلق فرّق لسنغ بين نوعين من الإشارات، الطبيعية والاعتباطية، فالإشارات الطبيعية تعبّر عن الكمال والنظام في العالم الطبيعي وتجعل ذلك العالم شفافًا ومعروفًا للإنسان بالإدراك الحسّي المباشر، أما الإشارات الاعتباطية فتوجِد فجوة بين الدال والمدلول فتدفع المتلقّي إلى الاهتمام بالدال فيضعف وعيه للمحتوى المدلول، وتكون معرفته الغامضة به معرفة رمزية، أي أنها لا تُدرك إدراكًا حدسيًا.

يرى لسنغ أن إشارات الأشكال والألوان التي يستخدمها التصوير طبيعية وإشارات الأصوات التي يتألف منها الشعر اعتباطية، لأن الكلمات والعبارات المفردة في اللغة لا ترتبط ارتباطًا حتميًا بالمدلول، وهنا يبرز المبدأ الأساسي الذي سعى لسنغ إلى تأكيده في «لاوكون» وهو أن الشعر أسلوب خاص في استخدام اللغة تصل فيه الإشارات الاعتباطية إلى مرتبة الإشارات الطبيعية. ويتحقق للشعر ذلك باستخدام اللغة المجازية، لاسيما الاستعارة والتشبيه. وحيث إن قوة الإشارات الطبيعية تكمن فيما تحمله من شبه بالأشياء التي تحاكى، فإن الشعر يؤدي مكان ما لا يملك من شبه، شبهًا من نوع مغاير يوجد بين الشيء المدلول وشيء آخر يمكن أن يتجدد تمثيله الذهني بسهولة أكبر وبأسلوب أكثر حيوية، غير أن أهم ما يقرّب الشعر من الإشارة الطبيعية هو الأسلوب السردي، وتلك هي الدعوة المحورية في لاوكون، ففي القصة يدخل تسلسل الإشارات في علاقة تشابه مع تسلسل الفعل، فلا يعود القارئ يرى الإشارات بوصفها إشارات، بل يجد نفسه في مواجهة الحدث المتحقق. ومن هنا جاء تفضيل لسنغ لشعر هوميروس، ووضعه موضع التعارض مع الشعر الوصفي، مؤكدا بذلك أن الوصف مناقض لطبيعة الشعر، فالوصف يحاكي الأجسام، بينما الشعر يحاكي الأفعال، والفعل يتحقق متسلسلاً في الزمان. ومن هنا يستنتج أن الفعل من طبيعة اللغة المؤلفة من أصوات تنطق متتابعة في الزمان، بينما الأجسام- أي المادة الثابتة- تُدرك بالبصر في لحظة مستقلة من الزمان هي تعريف لسنغ للمكان.

كان لدراسة لسنغ «لاوكون» موقع متميّز في تاريخ الفلسفة الجمالية؛ بل إن لسنغ مازال له حضوره الفكري والفني حتى يومنا هذا بالرغم من أن آراءه ليست معاصرة، غير أن أهميته تنبع من الدقّة والمنهجية اللتين بهما وضع نموذج النظام الثقافي لعصره. لقد تميّز لسنغ بأنه استطاع الاستفادة من نظريات أسلافه المباشرين ومعاصريه ومن آرائهم في النقد الجمالي، وتمكّن من تحويلها إلى نظرية منهجية متماسكة ومتكاملة ومنظّمة حسب نموذج شامل للإشارات الجمالية.

نقد التذوق

يرى الفيلسوف الإيطالي غلفانو ديللا فولبي في الجزء المعنون «لاوكون 1960» من كتابه «نقد التذوّق»، أننا ندين للسنغ بطرحه مبدأ اختلاف الأشكال الفنية بعضها عن بعض لما عانته قبله من تداخل وفوضى وما ظلت تعانيه بسبب المفهوم المثالي الغيبي للفن بما هو خيال خلاّق أو حدْس كوني، أو الخلط الذي أحدثه كل من شيللر وشلنغ بين الفن والطبيعة، وهذا ما جعل «لاوكون» كتابًا مثيرًا للمناقشة حتى اليوم، يعود إليه كل باحث عند دراسة الفنون وإن كان لا يوافق على فحواه. وهذا هو مغزى قول أندريه جيد إن «لاوكون» لسنغ هو واحد من تلك الكتب التي يحسن العودة إليها كل ثلاثين سنة لتكرار ما فيها أو لمعارضته.

لعل أبرز من أعاد لسنغ إلى واجهة النقد الأدبي الحديث هو جوزف فرانك في مقالته المهمة والممتعة «الشكل المكاني في الأدب الحديث» (1945)، التي حدد فيها مفهوم مكانية الشكل الأدبي بوصفها خاصية من خصائص الأدب الحديث معتمدًا على تحليل لسنغ لبُعدي المكان والزمان في تفريقه بين الفنون التشكيلية والشعر. وقد أصبحت «مكانية الشكل الأدبي» مصطلحًا شاع استخدامه في النقد الأدبي الغربي الحديث.

ينطلق فرانك من نظرية لسنغ في التفريق بين التصوير والشعر بالعودة إلى مفهومي المكان والزمان من حيث هما الحدّان المتقابلان لرسم التخوم الفاصلة بين الفنون التشكيلية والأدب في علاقتهما بالإدراك الحسّي. ويرى أن أهمية «لاوكون» في تاريخ النظرية الجمالية تكمن فيما يطرحه لسنغ من نظرات ثاقبة يمكن الاستفادة منها كأدوات للتحليل. وقد تميّزت نظريته بتحديده الشكل الجمالي بما هو علاقة بين الطبيعة الحسّية للوسيلة الفنية وشروط الإدراك الإنساني، وبذلك لا يعود الشكل الفني تنظيمًا خارجيًا تحدده مجموعة من القواعد التقليدية. ويستنتج فرانك أن النهضة التي حققها النقد التشكيلي الألماني في القرن العشرين تمّت اهتداء بالخطوط التي حددها لسنغ، وتمثلت في قيام العلماء الألمان بمتابعة التحوّلات في إدراك مفهوم المكان، وقد عدّوها أساس التعبير في الأشكال الفنية، مشيرًا بذلك إلى ويلهلم ورنغر الذي استفاد منه بصورة خاصة في مقالته.

يقول فرانك إن الهدف من دراسته هو تطبيق منهج لسنغ على الأدب لدراسة تطوّر الشكل في الأدب الحديث، في الشعر وفي الرواية خصوصًا. ويحاول أن يبيّن أن الأدب الحديث ممثلاً بإليوت وعزرا باوند ومارسيل بروست وجيمس جويس يتجه إلى الشكل المكاني فيلتزم القارئ بإدراك العمل الأدبي مكانيًا، في لحظة من الزمن، لا زمانيًا بما هو متتابع ومتسلسل. ويربط فرانك بين تحوّلات الشكل الفني والتحوّل في الوعي والحساسية في فترة حضارية معيّنة ليحدد الاتجاهات الروحية التي أدّت إلى غلبة الشكل المكاني.

الصورة الشعرية

ويستند فرانك إلى تعريف عزرا باوند للصورة الشعرية بأنها هي تلك التي «تمثّل مركّبا فكريًا وعاطفيًا في لحظة من الزمن»، وعدّ هذا التعريف أكثر ملاحظات باوند ذكاء ونفاذًا وأكد أهميته في مناقشة مسألة الشكل الأدبي الحديث. فالصورة الشعرية لا تحدد هنا بصفتها إعادة إنتاج تصويري، بل من حيث كونها عنصر توحيد لأفكار وعواطف متباينة تتجسّد مكانيًا في لحظة من الزمن، فينتفي تتابعها حسب قواعد اللغة. ويستنتج فرانك أن الشعر الحديث قدّم مفهومًا للشكل الشعري مناقضًا للطريقة التي تُدرك بها اللغة كما حددها لسنغ، فزالت سيادة الأسلوب السردي وغدت القصيدة سلسلة من المقاطع المستقلة. ويرى فرانك أن ما يتسم به الشعر الحديث من صعوبة لا يتغلب عليها أي تفسير لنصوصه، يكمن في الصراع الداخلي بين المنطق الزماني للغة وما ينطوي عليه المفهوم الحديث لطبيعة الشعر من منطق مكاني.

وقد سعى فرانك في مقالته إلى ربط التحوّل في الأشكال الفنية بالتحولات الحضارية والفكرية وأفاد من دراسات العالم التشكيلي ويلهلم ورنغر، كما استند إلى قول لسنغ إن الأدب فن زماني. يقول فرانك إن اختفاء العمق (المنظور)، أي البعد الثالث، في الفنون التشكيلية يقابله اختزال البعد الزماني في الأدب. فتمثيل الأشياء في بعدها العمقي يضفي عليها قيمة زمانية لأنه يربطها بالعالم الواقعي حيث تجري الأحداث. والزمن ليس سوى التقلّب والتحوّل اللذين يسعى الإنسان إلى الهرب منهما حين يفقد انسجامه مع الطبيعة، فيهمل الأديب أو الشاعر التسلسل الزمني. وهكذا يتحوّل العمل الأدبي إلى الشكل المكاني، وتكون الفنون التشكيلية أكثر ما تكون مكانية بإلغاء البعد الثالث، المرتبط، في رأي فرانك، في الأدب والفن، بالقيمة الزمانية.

عهد جديد

وتعدّ دراسة فرانك «الشكل المكاني في الأدب الحديث» فاتحة عهد جديد من الدراسات المقارنة بين الأدب والتصوير. وقد تميّزت الدراسة بطرحها مبدأ جديدًا وصوغها مصطلحًا جديدًا في النقد الأدبي هو مكانية الشكل الأدبي. وامتاز المصطلح بما ينطوي عليه من مضامين تضيء جوانب مهمة من الشكل الجمالي للأدب وتعقد الصلة بينه وبين الاتجاهات الثقافية للحضارة المعاصرة، فكرية ونفسية وروحية. ويستدل على أهمية الدراسة، التي تعدّ كلاسيكية في النقد الغربي الحديث، بما أثارته من مناقشات عديدة بين النقاد وعلماء الأدب والفن، فاستطاع فرانك، بطرحه المبدع والجريء أن يحوّل هذا الموضوع إلى مسألة نقدية جمالية بارزة.

غير أن فرانك لم يدرك من الحقيقة سوى جانب واحد. من الملاحظ أن المنهج الذي اعتمده فرانك يحتاج إلى مناقشة، وكذلك بعض النتائج التي توصّل إليها، وإن كان ذلك لا يقلل من أهمية دراسته. لعل الخطأ المنهجي الذي وقع فيه فرانك هو اعتماده نظرية لسنغ القائمة أساسًا على مبدأ التمثيل والمحاكاة، ومحاولة تطبيقها على الأدب الحديث المغاير في طبيعته ومبادئه لفلسفة الفن في القرن الثامن عشر. ويبدو أن السبب في ذلك أن فرانك، لانشغاله ببعدي المكان والزمان، لم ينتبه إلى نظرية لسنغ في الإشارات، وهي عماد فلسفته، فأخذ بالظاهرة الخارجية لتلك الفلسفة ولم يصلها بالتوجهات الفكرية والفلسفية لعصره، وذلك يستغرب من فرانك المتميز بدعوته إلى تأكيد تلك الصلة أساسًا لكل دراسة. ومن هنا وصل إلى نتيجة مغلوطة وهي اعتقاده أن فلسفة ورنغر تهتدي بنظرية لسنغ، بينما الحقيقة عكس ذلك تمامًا، إذ كان هدف ورنغر هو الردّ على الاتجاه الذي يمثّله لسنغ ومعارضته.

إن أية دراسة جدّية للسنغ تبدأ بوضع نظريته في الإطار الفلسفي والفكري للقرن الثامن عشر في أوربا الذي حدد المحاكاة أساسًا للشعر، والتمثيل أسلوبًا في الفنون التشكيلية، لكن الأدب والفنون التشكيلية في العصر الحديث مغايران في أسلوب كل منهما وأشكالهما الفنية لما كانا عليه في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وهذا التغيّر هو ما سعى فرانك إلى إقراره وفلسفته، فوصفه في الأدب بالتحوّل إلى الشكل المكاني. غير أن السؤال المنهجي الذي يطرح في هذا المجال: إذا كانت الفنون مترابطة في توجّهاتها، وهي جميعًا، تشكيلية وكلامية، تعكس الاتجاهات الحضارية السائدة، فكيف يتحوّل الأدب من الشكل الزماني إلى الشكل المكاني، ولا تخضع الفنون التشكيلية لأي تحوّل، فتظلّ مكانية، بل يؤكد فرانك أنها ازدادت مكانية في العصر الحديث؟ إن الخطأ الذي وقع فيه فرانك هو أنه بالرغم من اعتماده نظرية لسنغ لكنه يعارضها من دون أن يدري حين يخلط بين الأدب والفنون التشكيلية، فيظن أن ابتعادهما عن محاكاة ظواهر الطبيعة واختزال البعد العمقي في كل منهما يسير بهما معًا نحو المكانية، متجاهلاً بذلك التفريق الأساسي الصحيح الذي حدده لسنغ بينهما.

والحق أنه عندما ينتفي مبدأ التمثيل الذي بنى لسنغ عليه نظريته، ويبتعد التصوير عن الاتجاه الطبيعي كما في الفن الغربي الحديث، تفقد الإشارات في الفنون التشكيلية صفتها الطبيعية حسب نظرية لسنغ، وتصبح إشارات اعتباطية يحتاج إدراكها إلى تأويل، فتُدرك إدراكًا رمزيًا وبالتالي تتجه إلى الزمانية. وقد أقرّ لسنغ نفسه بذلك وإن كان قد وقف موقف المعارضة الشديدة من الفنون التشكيلية التي تسير في هذا الاتجاه الذي عُدّ خطأً فادحًا لابتعاده عن الاتجاه الطبيعي.

يقول لسنغ: «إن الشكل الإنساني الذي يكون بحجم الكف أو بحجم البوصة هو حقًا صورة إنسان، لكن هذه الصورة مع ذلك إلى حدّ ما، صورة رمزية، فأنا أكثر وعيًا للإشارات حين أنظر إليها مما أنا حين أنظر إلى الشيء المدلول فعليّ أولاً أن أمدد الشكل المصغّر في خيالي إلى حجمه الحقيقي، وهذه العملية، مهما كانت سريعة وسهلة، تمنع أن يكون حدْس المدلول متزامنًا مع حدس الإشارة».

وأما في الشعر، فعندما ينتفي مبدأ محاكاة الأفعال، فإن الإشارة أيضا تفقد صفتها الطبيعية ويبتعد الشعر عن الزمانية، لأن محاكاة الأفعال المتكررة في الزمان هي التي تكسبه تلك الصفة، ويقترب أكثر وأكثر من المكانية. وهنا يلتقي الشعر مع الفن التشكيلي الحديث لا في كونهما فنّين مكانيين، بل في البعد الرمزي الذي يكتسبانه بسبب وجود فاصل يحتاج إلى تأويل بين الإشارة والمدلول في كل منهما. ومن هنا تتحدد لكل من الفن التشكيلي والأدب خصائصه المميّزة في العصر الحديث، ويتحوّلان عن الطبيعة التي حددتها لكل منهما نظرية المحاكاة والتمثيل. فاتجاه التصوير نحو الزمانية هو ما يفرّق بينه وبين المظاهر الخارجية للوجود ويجعل منه فنًا، واتجاه الشعر نحو المكانية يفصل بينه وبين الكلام العادي ويكسبه بنيته الفنية المتميّزة.

من هذا المنطلق تنتفي الأسس التي قام عليها النقاش الحادّ بين فرانك ومعارضيه، الذين رأوا في تأكيده الصفة المكانية للأدب نفيًا لزمانيّته، أي لتاريخيّته. ويغدو الشكل المكاني الذي تتصف به بعض الأعمال الأدبية التي يغلب أن تظهر في فترة تاريخية محددة من عمر حضارة ما، هو ابتعاد ذلك الشكل الفني عن المسار العادي للغة، ويكون تحقيقًا للرمزية المعادلة بهذا المفهوم لفنية الشكل الأدبي. ويدعم هذا التفسير كون الفنون التشكيلية تتجه إلى الزمانية في العصور التي يسير فيها الأدب باتجاه المكانية، ويكون الرابط بينهما تحقيق البعد الرمزي بابتعادهما معًا عن التمثيل والمحاكاة. وقد أسقط روبرت ميتشل البعد الحضاري لهذا الموضوع حين قال إن الشكل المكاني هو وجه أساسي للتجربة الأدبية ولتأويلها في كل العصور وكل الثقافات. هذا الموقف كان نتيجة تعريفه للمكانية بوصفها أساس إدراكنا لمفهوم الزمن، أي أننا لا يمكن أن ندرك معنى الزمان من دون واسطة المكان، فيغدو التسلسل صورة مكانية، وتنتفي الفوارق بين الأشكال الأدبية المختلفة. لذا نرى أن استبدال ميتشل مصطلح «المكاني» بمصطلح «الشكل المعماري» (tectonic) لا يبتعد بالموضوع عن الإشكالية التي طرحها فرانك فحسب، بل يخرج به كليًا عن الإطار الذي رسمه وقصد إبرازه.
------------------------------
* كاتبة من فلسطين

-------------------------------------
فَالسَّيفُ يَقطَعُ وَهُوَ ذو صَدَأٍ
وَالنَصلُ يَفري الهامَ لا الغِمدُ
هَل تَنفَعَنَّ السَيفَ حِليَتُهُ
يَومَ الجِلادِ إِذا نَبا الحَدُّ؟!
وَلَقَد عَلِمتِ بِأَنَّني رَجُلٌ
في الصالِحاتِ أَروحُ أَو أَغدو

دوقلة المنبجي

 

 

ريتا عوض*