قصص على الهواء

قصص على الهواء

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص?
-------------------------------------------

لقد توصلت من مجلة العربي البهية بسبع عشرة قصة يمثل أصحابها خرائطية الإبداع القصصي الواعد من مختلف الأقطار العربية، يتفاوت مستواهم الإبداعي، من حيث المهارات اللغوية والنحوية والدراية بتقنيات الحكي القصصي، ومن حيث الموصوف والموضوعات المطروقة من طرف كتابها، فإن أغلب المضامين تعالج المعيش اليومي وعسر الحال، وشظف الحياة الذي يواجه الشبيبة العربية. وبعضها تمتد إلى سياق اشتعال اللحظة العربية الراهنة، مطالبة بالحرية والكرامة ومناهضتها للاستبداد، وإعلانها عن رغبتها التواقة في بناء مجتمع جديد. وفيما يلي القصص المختارة:

  • قصص قصيرة جدًا - (عمار محمود القاضي - اليمن)

(القصص القصيرة جدا) للكاتب عمار حمود القاضي من اليمن، تمتاز بقدرتها الفائقة على اللعب الحكائي الذي يشد القارئ إليه، وبالتكثيف القصصي الذي يُشغِّل اقتصاد الحكي المتوازن بين وحدة الموضوع وبلاغة اللغة التي تسع حلم الفكرة، ملتقطا عبر إشراقات استشرافية ما يجول بعالمنا العربي من حراك ديمقراطي.

  • «9» (عمر محمد عطا - مصر)

تقدم تجربة السارد الذي يعيش بين الحلم واليقظة، ينساق إلى مصير مجهول دون أن يعرف مهمته، سوى أنه ينتمي إلى عائلة تتكون من «تسع دول» لكن خلاصه وحريته «كان ثمن حياة إنسان» الذي تعرض لرصاصة «9 مللي» في ميدان التحرير، كناية عن أن انتفاضة الجماهير بالرغم من التضحيات الجسيمة، في غدها وتباشيرها مولد لحياة جديدة.

  • جوع الثعابين - (بلقيس ملحم - السعودية)

هذه القصة تحكي بطريقة تخيلية موضوعا حساسا. لكنها تتوسل إلى مقاربة هذا الموضوع عبر علاقة تناصية مع التراث الهندي الذي يتعامل مع النساء «كبهائم مريضة» تنتمي إلى طبقات دونية لا ترتقي إلى مصاف الآدمية، يدل على اطلاع الكاتبة على الآداب العالمية، وانفتاحها على التجارب الكونية.

  • دوي على إيقاع متزن - (راسم قاسم - العراق)

تحكي عن يوميات مواطن عراقي أحيل إلى التقاعد وعن حياته الرتيبة بين المقهى ومعاناته الموتورة مع زوجته في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق. صيغت لغة هذه القصة بأسلوب ينساب كالنهر الهادئ يدعوك إلى أن تسايره إلى مصبه الأخير ونهايته، ويحفزك عند قراءتها عنصر المفاجأة والانزياح غير المتوقع، والتضاد بين ماهو حميمي ودرامية عنف التسلط الاستعماري.

  • «موعد مع الوزير» (إكرام عجم أوغلي - سورية)

تحكي عن عطالة الدولة والمجتمع، حيث يرد الجميع أسباب الأزمة المجتمعية إلى تبريرات ذاتية، كل حسب وضعه الشخصي الخاص. كل الأجوبة التي تلقتها الساردة من أصدقائها وعائلتها لا تقترب من موضوع زيارتها للوزير، هل يتعلق الأمر بالسلطة التي تمثل الثالوث المحرم الذي لا يقترب منه المواطن العربي؟ جمالية هذه القصة تتمثل في كونها تشرك المتلقي في مشاغلها وقلقها المتوجس منذ بدايتها إلى نهايتها، وهذه حيلة فنية تحسب لمصلحتها.

----------------------------
عشر قصص قصيرة جداً
القاص - عمار حمود القاضي

القصة الأولى: تعبير

أراد أن يعبر عن آرائه وأفكاره بكل حرية

بحث عن مكان يجد فيه ذلك

أضناه البحث فلم يجد ما يصبو إليه

وحينما تم اعتقاله

أودع السجن

فأدرك أنه قد وجد ضالته اخيراً

القصة الثانية: صلاحيات

بعد مرور عشرين عاماً على تنصيبه

قرر ممارسة صلاحياته بكل قوة وحزم

لكنه فوجئ بأن صلاحياته قد

ا

ن

ت

هـ

ت

القصة الثالثة: حياة

حين أدخل إلى السجن لأول مرةً

...

ظن أن حياته انتهت

...

وحين دخله للمرة الثانية

...

أدرك أن حياته بدأت.

القصة الرابعة: تربية

صفع طفله الصغير لأنه شاهده يشرب السجائر

شرح له أضرار التدخين وأن إدمان هذه العادة يقود إلى الموت

أقسم له بأنه يحبه ولا يريد مفارقته

استوعب الطفل النصيحة، وقد غطت المكان سحابة دخان تنبعث من سيجارة والده الذي ظل يواصل حديثه.

القصة الخامسة: عقوبة

عندما اقتيدت إلى ساحة الإعدام

شاهدت رجلاً من بين جموع الناس يسبها ويلعنها

وقبل أن تموت أدركت أن ذلك الرجل

كان أول من ضاجعها.

القصة السادسة: شطب

قرر شطب صفحة الماضي

...

...

...

فشطب الماضي حياته.

القصة السابعة: عودة

شعر بأنه الوحيد في العائلة غير مرغوب فيه

...

زاد شعوره أكثر فأكثر

...

قرر أن يبيع نفسه للشيطان

...

عاد إلى أهله بعد أن رفض الشيطان شراءه!

القصة الثامنة: إسكافي

تسكع في شوارع المدينة الفاضلة بحثاً عن عمل يقتات منه

احدودب ظهره , خارت قواه منذ شهرين لم يجده البحث

فهذه المدينة لا يسكنها إلا «الطبقة البرجوازية» كما أحب أن يسميها

قرر أن يعمل إسكافياً فيها

أخذ يلمع حذاء أحد الأثرياء فشاهد صورته تنعكس على الحذاء

منذ ذلك اليوم صار يتخذ الحذاء مرآة له.

القصة التاسعة: انتحار

بسبب الوضع المأساوي الذي يعيشه........ أحرق نفسه

...

...

فأحرق أمه

...

...

وأحيا أمه.

القصة العاشرة: سؤال

سأله المعلم: أين يقع وطنك؟

أشار بيده الصغيرة نحو صدره

سأله المعلم: وأين يقع قلبك؟

أشار بيده إلى خريطة الوطن.

----------------------------
«9»
عمر محمد عطا - مصر

أشعر بالغليان يهز كيانى ويتلذذ كل من حولى بهذا العذاب وأرى النشوة والفرحة فى أعينهم فمايحدث لى يجلب لهم السرور ، فلماذا يحبون الألم لى بهذه الدرجه؟؟؟!!!

وبزياده العذاب لم يعد لدى القدره على التحمل ففقدت الوعى وحين استيقظت وجدت من حولى كلهم يشبهوننى وكأنهم أخوتى لا بل اكثر من ذلك فكلهم توأم لى ، فتعجبت!!!هل أنا أحلم ؟؟؟؟؟

لكنى لم أستطع الاجابه وفهم مايحدث حتى جاء فجأه رجل غليظ فاقترب منى وحملنى انا واخوتى وسلمنى لرجل آخر قائلا ( دول تسعه) فلم أفهم ماذا تعنى هذه الكلمه الا عندما ظل الاشخاص حولنا يتحدثون علينا بأننا نسمى تسعه !!! هل انا وكل اخوتى لا نساوى شيئا حتى يكون اسمنا رقم ؟؟؟ ومن قام بتسميتنا؟؟؟؟ ولماذا هذا الاسم بالذات؟؟؟؟ لماذا تسعه؟؟؟؟

وبينما أفكر فى كل هذا اذا برجل ينتزعنى بشده من وسط أخوتى ويضعنى فى مكان مظلم لا أعلم ما هو وأظل أصرخ فلا مجيب فلماذا يعذبنى هذا الرجل ايضا بهذه الظلمه؟؟؟ وانا لم افعل له شيئا!!!

وتمر مده لا أعلم مقدارها وأنا أتعذب فى هذه الظلمه الى ان جاءت لحظه حريتى فانطلقت بأقصى سرعه من أجل الحريه فأنا لا أريد هذه الظلمه مره أخرى ، ولكن أنا لم أحرر نفسى فمن حررنى اذا؟؟؟؟

ولم يمهلنى القدر لحظات حتى أفكر فظهرت الأجابه على سؤالى ومعها الحقيقه التى لم أستطع تحملها فثمن حريتى كان غاليا ،فلحظه حريتى كان ثمنها حياه انسان فلطخت دمائه جسدى وأفسدت سعادتى بيوم الحريه الذى أنتظرته فما أنا الا رصاصه 9 مللى كما يسموننى انا واخوتى، وضعت فى مسدس من أجل ان تقتل ما يريد صاحبها.

ومن اطلق سراحى هو من عذبنى فى الظلمه واشترانى.

----------------------------
جوع الثعابين*
بلقيس ملحم - السعودية

"أنتـم بهـائم مريـضة"

تطارده هذه الجملة كلما تقرفص وحيدا داخل القفص. أي غرائز الحياة تلك الممتلئة بالقيء الفاسد؟ لا أحد يجيبه..

الدودة التي كانت تبادله سخرية الابتسامة قالت بصوت خفيض" كلانا من أكلة الكلاب" هي نفسها التي اقتسمت معه بقايا بطاطا نبتت سهوا جانب مستنقع تتجمع فيه فضلات الحيوانات.

رفعها في كفه: أشتهي أن أطبخك على النار, لكن ذلك محرَّم علينا أيضا!

قهقهت وقالت: وكيف تحصل على الماء وهم لا يسمحون إلا بما يطفئ لهيب ظمئك!

هنا تذكَّر مولودته "مهيما" لكن دونه الوقوف الذي لم يستطعه, كل ما استطاعه هو أن يصرخ في عمق روحه:

ألبِسوها أطمار الأكفان, ودعوها تهيم دون انقطاع, أنا أبوها ابن جدها ابن جدها يا كلاب!

لقد بتروا شفرتها بعد أن ألقوا عليها اللعنات: ثمرة الزنا مهيما, ثمرة زنا المحارم مهيما. غسلوا أيديهم بحليب الجاموس, وأشعلوا موقدا كبيرا يصحبه صخب الحناجر بعد أن ألقوها على أمها التي أجبروها أن تقيم قُدَّاسا للأرواح الشريرة.

وهناك, في أحراش القرية النائية صرخت: أميشاااااا**.. أميشااااااا أنت أميشاااا.. قبل أن تقضم رأس ثعبان كبير كان يأكل من سلة الفواكه التي سرقها الساحر"روهانا" من معبد القرية.
---------------------
* قصة مستوحاة من طبقة الشاندالا المنبوذة إنسانيا
** معناه:شريفة باللغة الهندية

----------------------------
دوي على إيقاع متزن
راسم قاسم - العراق

الشارع يمتد على مدى زواياه المتداخلة ويتراقص امام عينيه مثل سراب عائم,

انفاس المدينة المكتومة تهمس في أذنه تعاويذ سحرية.

خطواته مثقلة بعدم الرغبة في الاستمرار وهو يعلم أن هذه العادة التي لازمته منذ اكثر من اربعين عاما اوشكت على الموت فكل شيء يتغير او يموت ،، ولم يبق من رواسخ العادات شيئا,.

طفل عار يعدو خلف سرب فراشات , او يعتلي قصبة ويطلق اصواتا حادة تشبه نباح الكلاب ,,

التقليد الاول الذي لازمه منذ ان اصبح بمقدوره ولوج المقهى, ومجالسة الاصدقاء ومنذ أن احسّ بدفق رجولته وتنسم عبيرها الذي يدأ ينفث اريجا محببا , واستمرت تلازمه حتى بعد ان اصبح محملا بمسؤوليات اثقلت كاهله . كان وما زال يواظب على مزاولته مثل طقس دينيّ ,, عندما يغادر عمله اليومي لا يتوجه مثل الاخرين لبيته , انما يتوجه الى المقهى , ويجلس في ركنه المعتاد , يرتشف قدح شاي ويلقي باعباء العمل ومنغصاته , تعاوده رغبة خفيّة في حب النزق والطيش والميل للمرح والتمرد الشبابي الذي غادره واصبح تاريخا ..

يتبادل الاحاديث مع النادل وبعض الجالسين , ثم يغادر المقهى متوجها الى منزله ,,كل حياته سارت بهذه الرتابة تقريبا , بنفس الايقاع اليومي مثل رتابة الكون , او مثل ايقاعات قصيدة عمودية ..

ويعاود عصرا الكرّة ثانية ,, يعود الى المقهى بعد ان يأخذ قسطا من الراحة والطعام ليهرب هذه المرة من البيت ومتاعبه , ليلقي من راسه صداع الحيرة وثقل الايام والليالي ويتجشأ السأم العالق في كيانه ,,يطول به الوقت هذه المرة , ينتظر وجوها اصبحت من لوازم ديمومته ومكملّة لكيانه .. توافد الاصدقاء وامتداد المساء والبحث عن دفء العواطف والحنان مثل معطف شتوي ,, تحتضنه العيون وتتشابك الاصوات , ينفثون في وجهه دخان السكائر , يتلقى كلامهم القاسي وضحكاتهم المؤلمة . يلقي كل زعانفه العالقة وقشوره الصلبة , يتحرر من وعث النهار ومن هواجس ثقيلة مرعبة.

الشارع العريق نفسه والانحناءات نفسها ، لمح ولأول مرّة ان الشارع بدا يشيخ , ظهرت عليه معالم القدم , بعد ان كان يبرز مفاتنه مثل أمراة جميلة تفتخر بشبابها.

رفع نظره الى الاعلى تتبع الشبابيك المغلقة الكابية اللون وأسيجة الشرفات المتآكلة التي فقدت الكثير من عزّها القديم ,, وياتت تحكي لنا من زوايا وبقع مازالت تحتفظ ببعض من رونق الماضي حكاية شبابها الذي ولّى ، وتريد من خلال سكونها المطبق أن تذكرنا بأيام مجدها , يوم كانت تعج بالساكنين وحركتهم النابضة بالشباب والحيوية وجموع الحسان اللواتي طالما أتكأّن على حافّاتها ليبرزن صدورهن ونحورهن للمارّة .

لم يكن يفكر يوما بالنظر الى الاعلى , كان يكفيه النظر الى الامام والجوانب اما اعالي البنايات فكانت لاتهمه منذ ان غادرتها الحسان واصبحت مرتعا لرجال يأمونها من المحافظات ,,

باب المقهى بدأ بلوح من بعيد يكشف عن وجه نصفيّ لهيكلته ,,قدماه تسمرتا في الارض لم يكن بمقدوره الاستمرار , ولم يكن بمقدوره العودة ,, فلقد قطع مشوارا بعيدا اصبح من المستحيل الغاءه والعودة من حيث اتى ,

,, لم تكن ريادة المقهى هي الهدف مثل كل المرّات أنما هناك شيء اكبر .. بل شيئان ,, اولهما ..هو تحديه لذلك الشخص الذي حاول قبل ايام تكذيبه واستصغاره بعد أن كان يتحدث مزهوا وهو يشاهد علامات الدهشة مرتسمة على وجوه مجالسيه وهويحدثهم عن حفظه لكل الاوامر الادارية الرسمية التي صدرت بحقه منذ تعيينه ولحد أحالته على التقاعد في ملف خاص مازال يحتفظ به حتى بعد احالته على التقاعد منذ اكثر من عشر سنين.. وهو اليوم جاء يحمل ذلك الملف الثمين بنظره ,, والذي لم يغادرالمنزل ابدا ,, ذلك الملف الذي يحمل كل مفردات حياته الوظيفية لم يكن يفكر يوما بحمله خارج الدار لولا ذلك المتعجرف الذي انبرى بصفاقة يتكذيبه متهما اياه بالمبالغة والتهويل متحديا أياه باستحالة الايقاء على اوراق بالية كل هذه السنين ..

وثانيهما هو شعوره بالاهمال والتهميش من قبل زوجته واولاده , ومحاولته اثبات ذاته التي أصابها العطب جراء تغير كل شيء نحو الاسوا .. المدينة المزروعة بالخوف والضجر والاسرة التي اصابها التصدع والتفكك ، والعوز الذي بات يحاصر كل شيء ,,

الفوضى حالت دون استمراره على ايقاع حياته المعتاد ، أضافت معاناة اخرى لمجمل معاناته فهو مجبر ان يقضي جلّ وقته في البيت ويتعرض لمناكدات زوجته المتعمدة وعقوق اولاده الذين يعانون الحرمان والبطالة ، فلم يجدوا سواه متنفسا لهم ليفرغوا اسقاطاتهم وخيبتهم عليه ...

الناس الذين يتقاطعون بسيرهم معه يجد في وجوههم وقسماتهم بعض العزاء , ينظره أحدهم ثم يتخطاه ليغرز نظره بغيره قد يعرف بعضهم أو لا , لكنه يجد فيهم احتواء اسريا يغمره ..

خطواته المتعبة والشارع الذي بدأ غريبا ,, المقهى وصور من الماضي البعيد وحالة البؤس التي باتت تخيم على كل شي

كان يساءل نفسه دائما ..هل هو الذي ابتعد ؟ ام أن الحياة هي التي بدات تتنكر له ؟.. أم أنها سنّة الطبيعة تسري عليه وعلى غيره ..

الرؤى تتداخل .. مظاهرات غاضبة تملأ الشارع هذا ,, تعلو وتهبط وعيون غاضبة واشداق تطلق أصواتا عالية ,, رجال بكل عنفوانهم يطلقون هتافات معادية للحكومة ..

أحتفالات صباحية رجال يرفعون أذرعهم ويطلقون صيحات تملا افواههم . وجوه مشرّبة بالفرح والسرور تهتف منتصرة للحكومة ..

رصاص قتلى .. اكداس قمامة تتراكم في مداخل الشارع ,دخان الحرائق , خوف لم يشهده الشارع من قبل ,

أمرأة تخرج من أحد الازقة مذعورة تمرق عابرة الشارع وهي تلّف جسدها بعباءة سوداء , تدلف مختفية في الزقاق المقابل ...

ينبهه احد الواقفين بجانب عمود من اعمدة الشارع ان يتوقف !!

لم يفهم قصده اول الامر لكنه بعد أن اشار برأسه نحو الجانب الآخر .. التفت وتوقف ,

اشار له الجندي الذي يقف خلف المدفع الرشاش في المدرعّة الامريكية الهمر أن يتقدم نحوه.

تسمرّت عيناه بوجه الجندي الذي تغطي القبعة نصف وجهه وتختفي عيناه خلف نظارة سوداء . لم يكن ابيضا ولم يكن طويلا كما هو المعهود , بل كان اسمرا ميالا للصفرة , أدرك انه من عروق آسيوية أو امريكية لاتينية.. اشار اليه بيد يغطيها قفاز اسود ايضا .. أن يتقدم نحوّه , لم يدرك أول وهلة أنه يقصده بالاشارة , التفت الى جانبيه وعندما لم يشاهد احدا سواه حتى الرجل الذي نبهه اختفى ,,

راوده هاجس من أن الجندي الامريكي قد ساوره شك من الكيس الاسود الذي يحمله . .

ملف عمره , حركته فوق هذه البقعة التي لم يغادرها طيلة حياته , فهو لا يعرف ولا يهضم ترك الانسان موطنه ومفارقته حتى لمحافظة اخرى ,, لذا فهو استمرّ بالحركة في نطاق هذه المدينة التي يعشقها كل ّالعشق.. وكان الملف هو توثيق لمجمل حركته على مدى عقود طويلة ..

كان يحمله بحرص شديد ,, وكل الأخرين بنظره الذين لم يوثقوا مسيرتهم كما فعل هو , قد اضاعوا اعمارهم سدى!!

أشار الجندي الامريكي اليه بحركة من راسه أن يتقدم أكثر,, وجّه المدفع الرشاش نحوه ومن خلف المدفع لوّح له بالتوقف ,

احتار بأمره .. ماذا يريد منه هذا الغريب ؟ توقف بعد أن خطا عدّة خطوات , تملكه رعب شديد وهو يرى فوهة المدفع الرشاش مصوبة نحوه ,, هذا يعني أن اطلاقة حتى وان كانت بطريق الخطأ كفيلة بأنهائه دون ان يثير أي ردة فعل ,, فهؤلاء لديهم كلّ الحق بقتل من يريدون قتله دون أي مساءلة !

حدق مليا في زجاج المدرعة المضلل لمح خيال جنود في الداخل ..

أمره الجندي أن يضع الكيس الذي يحمله على الارض .. لم يفهم ما اراد الجندي , اصابته الحيرة من صياح الجندي وهو يرطن بلغة لم يفهمها .. اشار الجندي بعصبية الى الكيس آمرا أياه أن يضعه على الارض..

توزعت نظراته بين الكيس الذي يحوي ملف عمره وبين الجندي الغاضب .. قدح فكره وذهب الى هناك وسط الشلة التي تصور انها تنتظره في المقهى , وان صديقه المتحذلق الذي يجلس الان متوثبا كالقط بانتظاره .. كيف له ان يثأر منه وهو بهذا الموقف وامراته التي ضاقت ذرعا بهذا الملف , كيف له بعد اليوم ان يغيضها باعتنائه به وحفظه بعناية .. !!

وهو الذي لم يجازف يوما باخراجه من الدار لاي سبب كان ..

ظل ّ مشتت التفكير بين الخوف الذي شلّ حركته وبين هاجس ضياع كنزه الذي يحمله ..

وضع الكيس على الارض ,, ورفع يديه كمن يتبرأ من ذنب اقترفه وتراجع الى الخلف ..ظلت عيناه مسمرتين على الكيس الملقى وسط الشارع ..تقدمت المدرعة الهمر مثل عنكبوت حذر .. اطلقت اجهزة استشعارها اقتربت من الكيس حتى اصبح تحت عجلاتها الثقيلة تناثرت الاوراق البيضاء المصفرة وتمزقت مع دوي هائل مرعب !!!

----------------------------
«موعد مع الوزير»
إكرام عجم أوغلي - سورية

- الساعة العاشرة تماما ، صباح الأربعاء القادم ، نرجو الإلتزام.

وأغلقت سماعة الهاتف بنفس الصرامة التي أعلمتني فيها بتاريخ الموعد، صمت لثواني قبل أن أسترجع كلمات مديرة مكتب الوزير في ذهني

.... وتأكدت أنها حددت الموعد المنشود ، الذي كان الحصول عليه أمرا شاقا ،

فالوزير إما مسافر أو مشغول والمشكلة التي أنا بصددها لم تكن لتحتمل التأجيل ،والآن تم الأمر ........فلأكثف جهودي!!!

تزايدت سرعة دقات قلبي ، وبدأت الأفكار تتزاحم في رأسي ، كيف سأصل في الوقت المحدد ،وأنا أبعد عن دمشق أربعة ساعات بالسيارة؟

هل أسافر قبل الموعد بيوم ؟ جدول المواعيد لدي لم يترك لي مجالا لأتنفس....هل أذهب بالقطار أوالباص ؟ شركات النقل في بلدنا وإن كانت ملتزمة نسبيا ، إلا أنه لايزال هنالك احتمال كبير لحدوث مفاجآت أوتأخير...

لم يعد هناك إلا حل وحيد : سيارتي .....فهي حديثة الصنع وتعودت السفرفيها ،وسيكون أضمن وأسلم للإلتزام بموعد الوزير...

الرابعة صباحا ، في اليوم الموعود انطلقت الى دمشق ، بعد أن تفقدت جاهزية السيارة في اليوم السابق ،وبحساب بسيط قدرت أني سأعود الى حلب لأتناول الغداء مع أسرتي ...

الطقس صيفي جميل واالفجر بدأ يغمر بأنواره السهول المحيطة بحلب ، المدينة التي لاتنام ،والطرقات لم تزدحم بالسيارات بعد ،وكلي أمل بانتهاء هذه المشكلة التي تعسرت واستعصت على الحل ، ومع أني حاولت في كل الإتجاهات ، لكن الدروب كلها كانت تعبربي الى طريق واحد ، ينتهي في مكتب الوزير .

استرجعت في ذاكرتي كل التفاصيل الدقيقة للمشكلة ،ورتبت في عقلي كل ألأفكار التي سأقولها للوزير ،واختصرت كثيرا من التفاصيل التي قد تستنفذ وقتا أثناء المقابلة ،ثم استرجعت االنقاط المهمة بسرعة ، ورتبتها حسب الأولوية ، واحسست بالإرتياح .. وبدأت أبحث عن فيروز( التي تسكن في خلايانا أصلا ) في الإذاعات المحلية.....

-(يسعد صباحك ياحلو )....جميل .....تك..تك..تك..ماهذا ؟( يسعد صباحك ياحلو)..

تك تك تك.....أطفأت المذياع وانصت بتركيز : أصبح الصوت أوضح : ياإلهي إنه المحرك !

لم يكن ليخطر في بالي أن المحرك سيخذلني! ..... فسيارتي حديثة الصنع، وأنا أسافر فيها دائما بدون أي خوف ....فما الذي يجري الأن؟؟

أوقفت السيارة وألقيت نظرة على المحرك .....لم أحظى بأي شيء ، عاودت القيادة لدقائق :ازداد وضوح الصوت وتباطئت حركة السيارة ، فقررت أن أطلب المساعدة.

اتصلت بصديق ذوخبرة و شغف بالسيارات ولما شرحت له ماحدث أجاب بسرعة وبأمر :لاتدعي أحدا يقترب من الموتور فقد يخربه، أوقفي السيارة في مكانك وانتظري سأتصل بشاحنة تنقل السيارة الى الوكالة.

أحسست بغيظ شديد ،لم يكن يعي المهم في الموضوع ، وهو وجودي في هذه القفار الخالية ...والأهم من ذلك كله ،موعدي مع الوزير ....

اتصلت بصديق أخر عسى أن أحصل على حل ، فأجاب :انتبهي فقد يتحرش بك أحدهم .

أحسست برغبة للضحك ، فقد كان في الماضي زير نساء ........ هكذا إذن فكل يغني على ليلاه وكل يعمل على شاكلته .....يجب أن أتصرف فالوقت يمر بسرعة...

أوقفت إحدى السيارات العابرة وانتقيتها من سيارات الدولة ، فلحسن الحظ كان الوقت قد اقترب من وقت الدوام الرسمي والطريق بدا يزدحم بالسيارات،وشرحت للسائق اهمية الموعد المرتقب فأكد لي أنه سيبذل قصارى جهده لأكون هناك في الوقت المناسب.

ركنت سيارتي بجانب الطريق ،وركبت الى جانب السائق الذي تبنى قضيتي وانطلق بسرعة فائقة ليستدرك (موعده ) مع الوزير !

وسرحت بأفكاري ،أعجبتني فكرة كل يغني على ليلاه ! ......لماذا لاأتأكد من فاعلية

هذا المثل أكثر !!!.....سأتصل بمن أعرف وأرى ردة الفعل...وكانت النتائج رائعة:

- لماذا تسافرين على حسابك الخاص ؟ يفترض أن تسافري بسيارة الجمعية الخيرية التي تعملين لأجلها ؟(اقتصاد! ) هذا رأي ابني المغترب الذي درس الإقتصاد واختص بالتحليل المالي !!!...

- هذه عبرة لك حتى تمتنعي عن السفر بمفردك مرة ثانية فهو حرام !!! (وعظ وإرشاد ) هذا رأي رئيسة الجمعية الخيرية التي أعمل لأجلها ،وهي سيدة مشهود لها بالتقوى والصلاح !!....

- لماذا لم تتصلي بي من دمشق لأرسل لك حوالة هاتفية فورية من أجل تصليح السيارة!!!...(دعم مادي ) صديقة غالية تعودت أن تقرضني في أوقات الشدة.

- لقد كنت قريبة من حمص لماذا لم تزورينا كنا سنجد حلا للمشكلة!!!....(صلة رحم)شقيقتي تسكن بعيدة عني في حمص !

أرايتم ؟ كل يغني على ليلاه ! وأنا أغني على وزيراه (لضرورة القافية) ولكن ..... لماذا لم يسألني أحد عن ...... موعدي مع الوزير!
--------------------------
* ناقدة من المغرب

---------------------------
وَامتَدَّ مِن أَعضادِها قَصَبٌ
فَعمٌ زهتهُ مَرافِقٌ دُردُ
وَلَها بَنانٌ لَو أَرَدتَ لَهُ
عَقداً بِكَفِّكَ أَمكَنُ العَقدُ
وَالمِعصمان فَما يُرى لَهُما
مِن نَعمَةٍ وَبَضاضَةٍ زَندُ
وَالبَطنُ مَطوِيٌّ كَما طُوِيَت
بيضُ الرِياطِ يَصونُها المَلدُ
وَبِخَصرِها هَيَفٌ يُزَيِّنُهُ
فَإِذا تَنوءُ يَكادُ يَنقَدّ

دوقلة المنبجي

 

 

إعداد: رشيدة بنمسعود*