دروس من سكان الفضاء: د. أحمد أبوزيد

دروس من سكان الفضاء: د. أحمد أبوزيد

كانت الستينيات من القرن الماضى بداية عصر تمرد في الغرب وثورة على كثير من الأوضاع الاجتماعية والثقافية المتوارثة والتى كانت تتسم بالسلطة المرتبطة بالسن أو الجنس فكانت ثورة الشباب على سلطة الآباء التقليدية وسلطة أساتذة الجامعات التى بلغت ذروتها سنة 1968 وكانت ثورة النساء وظهور الحركات النسوية وما بعد النسوية وظهرت أعمال أدبية ودراسات سسيولوجية وأنثروبولوجية عديدة ذات طابع مستقبلي على أساس أن هذه الحركات التمردية تبشر بظهور مجتمع وثقافة جديدين تسودهما نظم وأيديولوجيات جديدة لدرجة أن أحد كبار علماء الأنثروبولوجيا في بريطانيا وهو إدموند ليتش كتب يقول «إن نظام العائلة ليس نظاما طبيعيا، إنه يرتكز على علاقات مصطنعة فرضتها ظروف المجتمع» كما يستدل على ذلك من دراسة تطور الزواج وأنماط العائلة خلال تاريخ الإنسانية، ولذا يمكن أن تقوم علاقات جنسية ذات طابع مختلف عما هو مألوف في الغرب وتكون لها الدرجة نفسها من الاستمرار والواجبات والحقوق وتحظى باحترام المجتمع.

إذا كانت ثقافة الغرب تفرض أحادية العلاقة الجنسية بالنسبة للرجل والمرأة فى الزواج فإن الثقافة الإسلامية تبيح تعدد الزوجات بينما هناك جماعات وثقافات آسيوية تبيح تعدد الأزواج بالنسبة للمرأة فى الوقت ذاته وهكذا. فهذه كلها أنماط معترف بها خلال تاريخ الإنسانية الطويل وكلها تحقق غايات الإنسان بشكل أو آخر رغم القيود التى قد يفرضها المجتمع وتحد من مطالب الفرد فى تحقيق ذاته وقد آن الأوان للتخلص من تلك القيود. وقد بدأ ذلك يتحقق بالفعل فى المجتمع الأمريكى وسوف ينتشر تدريجيا فى بقية المجتمعات فى المستقبل القريب. فلا بد للإنسان ان يحقق ذاته كفرد ولذا قامت الثورات الاجتماعية والجنسية وكانت حركات 1968. ويرى بعض المفكرين فى الغرب أنه بحلول عام 2020 سوف يكون من الصعب الحديث عن نمط زواجى نموذجى يسود معظم أنحاء العالم وسوف يشهد المستقبل القريب أشكالا كثيرة من الزيجات والعائلات التى سوف تكتسب كلها صبغة الشرعية لأن مجتمع ما بعد الحداثة لايحكم على شيء بالخطأ أو التعارض مع القيم المتوارثة والتقاليد الراسخة، إنه عصر اللايقين.

غريب في أرض غريبة

وقد انعكست هذه التيارات فى كتابات الخيال العلمى فى أمريكا خاصة على ما هو واضح بشكل خاص فى أعمال روبرت هينلين وهو أحد الثلاثة الكبار فى هذا النوع من الأدب مع آرثر كلارك وأيزاك آسيموف وإن كانت كتاباته تتميز عنهما بالتمرد على الأوضاع السياسية القائمة وأكثر تحررا فى معالجة العلاقات الاجتماعية والمشكلات الدينية وتتفق مع روح التمرد التى سادت فى ستينيات القرن الماضى بحيث إن جماعات الهيبز الشبابية اتخذت من بعضها مانيفستو أو ميثاقا لحركتهم مثلما اتخذت من بعض عباراته شعارا لها ودخلت ضمن قاموسهم الخاص فى حياتهم اليومية. فروايته الشهيرة «غريب فى أرض غريبة» التى نشرت فى بداية الستينيات تعكس بعض الأفكار المتطرفة الجريئة التى صدمت بعض الأوساط الثقافية الملتزمة بآداب المجتمع فى ذلك الحين ولكنها لاتزال تتداول حتى وقتنا الحالى وفيها يمتزج الخيال العلمى بالدين والفلسفة والجنس وتعطى صورة واضحة عما أصبح يعرف باسم «الثورة الجنسية» كما أنها تعتبر من أوائل الأعمال التى تعكس صورة المجتمع حين يتصل فى كتابات الخيال العلمى- كوكب الأرض بكوكب غريب أو حين يغزو شعب غريب وافد من أحد الأجرام السماوية كوكبنا الأرضى.. وقد تطور عنوان الكتاب بشكل يعكس فكر هينلين ونظرته للمشكلة، ففى البداية كان عنوان الرواية «رجل من المريخ اسمه لويس» ولكنه انصرف عنه قبل أن تتم الرواية وترك العمل فيها لمدة طويلة ثم عاد إليها تحت عنوان «رجل من المريخ» لكى يغير العنوان مرة أخرى إلى «غريب فى أرض غريبة».

رواية «غريب فى أرض غريبة» تدور حول قصة شاب آدمى من كوكب الأرض كان قد صعد وهو طفل صغيرمع أول رحلة فى الفضاء إلى كوكب المريخ ولكن حدث ما أدى إلى وفاة كل أعضاء الرحلة وبقى الطفل وحيدًا فتولى سكان المريخ أمر تنشئته وتربيته لمدة عشرين سنة إلى أن جاءت بعثة ثانية أعادته إلى موطنه الأصلى كوكب الأرض بعد أن كان اكتسب وتفاعل مع ثقافة وعادات وقيم وأساليب تفكير سكان المريخ وانفصل إلى حد كبير عن ثقافة أهل كوكب الأرض واكتسب بالتالى طبيعة مزدوجة فيها جانب أرضى وجانب سماوى. ولم يكن عليه أن يتأقلم مع عادات الآدميين وإنما أراد أن يعلمهم الثقافة السماوية أو الفضائية التى نشأ فيها وأن يتفاعل معهم على هذا الأساس ويلاحظ فى الوقت ذاته التطورات والتعديلات التى تطرأ على ثقافتهم الأرضية. فكأنه كان يعتبر نفسه رسولا من السماء لإنقاذ أهل الأرض من أفكارهم ومعتقداتهم المتخلفة والمتمثلة فى الثقافة الأمريكية فى القرن العشرين بكل مافيها من نقائص ويبشر بدين جديد يؤمن بالحرية المطلقة فى كل شيء. وقد وجدت الدعوة أو الفلسفة تجاوبا لدى جماعات الهيبز كما نشأت إثر ذلك مايعرف باسم «كنيسة كل الدنيا» التى تجمع فى تعاليمها عناصر وثنية وإحيائية وتمارس تجارب سيكولوجية شاذة على أتباعها.

بؤس الواقع بداية الخيال

حياة هينلين كانت حياة غريبة بالنسبة لرجل يعتبر أحد الثلاثة الكبار فى الأدب العلمى الخيالى، فلم يكن فيها ما ينبئ بذلك النجاح أوحتى بهذا الاتجاه ولكنه نظام التعليم الحر المتنوع الذى يسمح للفرد بأن يبرز مواهبه الكامنة من دون أن يضع حدودا وشروطا تقيد حرية الانطلاق بالإضافة إلى طبيعة المجتمع المفتوح الذى يسمح للفرد بأن ينتقل من عمل لآخر فى سهولة ويسر مادام لديه من القدرات ما يؤهله لذلك. فلم يحصل هينلين على تعليم جامعى بالمعنى الدقيق للكلمة من أية جامعة وإنما كان قد التحق بالبحرية الأمريكية وخدم فترة طويلة على ظهر أول حاملة طائرات أمريكية مما كان مصدر فخر له، ولكن حالته الصحية فى ذلك الحين أجبرت رؤساءه على أن ينقلوه للعمل على إحدى المدمرات الصغيرة نسبيا مما دفعه إلى الاستقالة عام 1934 وتحمل متاعب الحياة فى مجتمع رأسمالي شديد التمسك بالعمل كوسيلة وحيدة للعيش فبدأ يجرب الكتابة وكان هذا هو الطريق الذى وصل به فى آخر الأمر إلى أن يصبح أحد الثلاثة الكبار فى أدب الخيال العلمى فى أمريكا.

ولكن هينلين ينفرد فى كتاباته عن زميليه باهتمامه بمشكلات الفرد والمجتمع أكثر من الاهتمام بالتغيرات فى مجال العلم والتكنولوجيا. وكانت المشكلة الأساسية التى تشغل باله طيلة الوقت هى لماذا يتصرف الإنسان بما هوعليه وليس تبعا لما يجب أن يكون عليه وبما يتفق مع طبيعته الإنسانية التى تحقق له إنسانيته بأكمل وجه ممكن ولماذا يفرض القيود على نفسه باسم مراعاة القواعد والقيم والتقاليد الاجتماعية التى وضعها هو نفسه لكى يصبح عبدًا لها فى النهاية؟. وواضح أن هذه هى أنواع التساؤلات التى كانت توجه شباب 1968 فى ثورتهم كما أنها تعبر عن روح الحركات النسوية وما بعد النسوية. ولذا نجد رواية «غريب فى أرض غريبة» التى كان بطلها آدميا قادما من المريخ تتعرض لبعض المسائل الاجتماعية مثل أهمية الحرية أو بالأحرى التحرر الفردى من تقاليد المجتمع وأهمية الاعتماد على الذات فى ممارسة هذه الحرية ونوع الالتزامات التى يفرضها الفرد على نفسه إزاء المجتمع أو التى يفرضها المجتمع على أعضائه وتأثير الدين (النظامي) حسب تعبيره - على الثقافة والحكومة والاتجاهات نحو قمع التفكير غير التقليدى الذى لايتماشى مع التيارات الفكرية السائدة فى المجتمع وهكذا. ولكنه كان يرى أن هذه كلها مظاهر مؤقتة لاتلبث أن تزول وتختفى من العالم بحكم التطور والشعور المتزايد بالحرية الفردية وبحكم الأوضاع المتغيرة فى أمريكا التى تقود حركة التغيير فى العالم.

التحرر من القيود

كان مولد هينلين عام 1907 ولكنه لم يتلق تعليما عاديا كما سبق أن ذكرنا وإنما التحق بالأكاديمية البحرية فى أنابوليس وتخرج عام 1929 وتعرض لسلسلة طويلة ومتواصلة من الأمراض المختلفة التى أقعدته عن الحركة ولكنها لم تؤثر فى قدرته على التفكير الإبداعى فيما عدا سنتين توقف فيهما تماما عن الكتابة. وكان معظم إنتاجه فى الستينيات حقق معظم إنتاجه الوفير ولكن ليس فيه ما وصل إلى مستوى روايته «غريب فى أرض غريبة» مع أن الموضوع المشترك فى معظمها كان يدور حول العلاقة بين كوكب الأرض الذى يسكنه البشر والأجرام السماوية الأخرى كما هو الحال مثلا فى روايته التى وجدت انتشارا واسعا وهى The Moon is a Harsh Mistress وهو عنوان يكشف عن اتجاهه فى معالجة الروابط بين البشر وسكان الأجرام السماوية الأخرى مع التركيز على حرية العلاقات الجنسية والتحرر من القيود التى يفرضها المجتمع على علاقة طبيعية يجب القيام بوظيفتها مما يحقق للإنسان سعادته ووظيفته فى الحياة. وعلى العكس تماما من «غريب فى أرض غريبة» تذهب القصة إلى أنه فى عام 2075 تنتشر بعض المستعمرات فى القمر تسكنها مجموعات من البشر المجرمين والناشطين السياسيين الذين حكم عليهم بالنفى من مجتمعهم البشرى أى من كوكب الأرض ككل فحدثت لهم تغيرات فسيولوجية بحكم طول الإقامة بحيث لم يعودوا يصلحون للحياة مرة أخرى على كوكب الأرض لاختلاف طبيعة نوع الجاذبية التى أفلحت أجسامهم فى التكيف معها. وبلغ عدد السكان فى تلك المستعمرات ثلاثة ملايين نسمة ولكن هناك اختلالا فى التوازن السكانى إذ إن عدد الذكور ضعف عدد الإناث مما يضطر السكان معه إلى اتباع نظام الزواج الجماعى المتمثل فى إمكان مشاركة عدد من الذكور فى الأنثى الواحدة وهو النظام المعروف فى الكتابات الأنثربولوجية باسم البولياندرية وكان سائدا فى مرحلة من مراحل تطور تاريخ الإنسانية على مايقول بعض الأنثروبولوجيين التطوريين، وهاهو ذا يتحقق على أرض القمر فى عام 2075 على أيدى فئة من البشر المتمردين على نظم المجتمع البشرى السياسية والاجتماعية ويرون فيه علاقة طبيعية سليمة تماما لأنها تستجيب للطبيعة البشرية وتتيح فرصة للاختيار وعدم الالتزام بقيود المجتمع البشرى القائم على فرض السلطة على الأفراد كما أنه يحقق للمرأة حرية التصرف فى جسمها وهوما تنادى به حركات التحرر النسوى ويتفق تماما مع اتجاهات مابعد النسوية، والأكثر أهمية من ذلك أنه يحقق للمرأة درجة من استقلال الشخصية بعيدا عن شخصية الرجل فى المجتمع الذكوري ويوفر لها الأمان بل وفرص التحكم فى الرجل الذي سيصبح مخلوقا ثانويا يمكن الاستغناء عنه تماما نظرا لوفرته فى الحياة.

سقوط الحقيقة المطلقة

وكانت المحصلة الأخيرة من أعمال هينلين أن القراء باتوا يعتقدون أن هناك عالمين من الحقيقة أو على الأصح أنه ليس ثمة حقيقة واحدة مطلقة فى هذا العالم وليس ثمة قانون أخلاقى واحد يمكن الاعتماد عليه والثقة به وأن الأفضل هو الإيمان بالتفكير المتحرر من كل القيود والالتزام به فى كل تصرفاتنا وهو الأمر الذى حملته ثورة التحرر الجنسى والفكرى بالفعل فى الستينيات ويمثله الهيبيز خير تمثيل بينما أصبح ينظر إلى السلوك الأخلاقى التقليدى الملتزم على أنه سلوك رجعى متخلف عن متطلبات العصر ودليل على ضيق الأفق.

وقد تحققت توقعات هينلين التى كتب عنها فى الستينيات فى المجتمع الأمريكى المعاصر وظهرت أنماط كثيرة ومتنوعة من العلاقات الجنسية المعترف بها من المجتمع ككل حتى وإن كان يستهجنها ويسخر منها مثلما ساد التمرد كل أنواع الهيمنة والتسلط السياسى والاجتماعى والاقتصادى فى كل أنحاء العالم وزادالشعور والاعتزاز بالفردية حتى فى أشد المجتمعات إيمانا بالقبلية السياسية والاجتماعية. وقد تعرضت أفكاره وكتاباته لكثير من النقد اللاذع على أساس أنها سطحية وساذجة وصادرة عن فكر تحررى أو حتى إباحى ولكنه لم يلبث أن اعتبر أنه ليس فقط أحد الثلاثة الكبار فى أدب الخيال العلمى فى أمريكا بل وأحد كبار الكتاب فى الفكر المستقبلي وصاحب رؤية مستقبلية فى العلاقات الإنسانية وخاصة علاقة الفرد بالسلطة والعلاقة الجنسية القائمةعلى التسلط والسيطرة الذكورية وتمرد الأفراد والتجاء السلطويين إلى العنف وكبح الأفكار المتحررة وغير التقليدية ونفي أصحاب الفكر المستقل الذي يعبر عن التمرد حتى ولو كان ذلك الفكر يعبر عن الحرية الفردية التي تعطى الفرد شخصيته المستقلة المتميزة. فأي نظام اجتماعي مهما كان ليبراليا فيه جانب من التسلط والسيطرة.

وتلقى أعمال هينلين الآن اهتمام بعض علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا المهتمين بالتواصل الاجتماعي والاحتكاك الثقافي بين المجتمعات والثقافات المتباينة وكيف يفلح سكانها فى تعديل أوضاعهم مع الظروف الجديدة مما يكشف عن طبيعة الجنس البشري عن المرونة والقدرة على التأقلم والتكيف مع شتى التغيرات. ففى إحدى الروايتين اللتين تكلمنا عنهما باختصار شديد يفلح الوافد من المريخ فى فرض عناصر ثقافته على كوكب الأرض وتهيئة المجتمع لقبول تغيرات جذرية في أساليب السلوك وتعزيز الميول الفردية والاعتزاز بالحرية بينما فى الرواية الثانية يفلح المنبوذون من كوكب الأرض إلى القمر فى إقامة مجتمع يتلاءم مع طبيعتهم المتمردة وتوفيرالحرية الكافية للنساء لإثبات شخصيتهن المستقلة. وفى كلا الحالين دروس من سكان الفضاء إلى أهل الأرض فضلا عن النظرة المستقبلية التى تحققت على أرض الواقع. فالأعمال الأدبية مهما كانت مغرقة فى الخيال لا تخرج عن مجال الإنسانية وهو ما يعطيها أهميتها ويوفر لها القدرة على الصمود والبقاء.

------------------------------
بَردٌ عَلى الأَدنى وَمَرحَمَةٌ 
وَعَلى الحَوادِثِ مارِنٌ جَلدُ
مَنَعَ المَطامِعَ أن تُثَلِّمَني
أَنّي لِمَعوَلِها صَفاً صَلدُ
فَأَظلُّ حُرّاً مِن مَذّلَّتِها
وَالحُرُّ حينَ يُطيعُها عَبدُ

دوقلة المنبجي

 

 

أحمد أبوزيد