هانز هولباين الابن «السفيران الفرنسيان»

هانز هولباين الابن «السفيران الفرنسيان»

المعروف أن الخلاف الذي نشب بين هنري الثامن ملك إنجلترا وبابا الفاتيكان، وأدى لاحقاً إلى الانشقاق وتأسيس الكنيسة الأنجليكانية، بدأ عندما أراد هنري الثامن أن يطلِّق زوجته الأولى، واعترض الفاتيكان على ذلك. وعند بدء هذا الخلاف، أوفد ملك فرنسا عام 1533م أسقفاً يُدعى جورج دي سيلف إلى إنجلترا في مسعى لحل هذا الخلاف. ووجد المبعوث الفرنسي في السفير جان دي دانتفيل سنداً في المهمة السرية التي لا يعرف أحد شيئاً عنها. ولكن دانتفيل أراد الاحتفاظ بتذكار عن لقائه التاريخي هذا، فطلب من هانز هولباين الابن أن يرسم هذه اللوحة التي تمثِّله مع موفد الملك.

كان هولباين الابن، المولود عام 1497م، والذي تلقَّى تربيته الفنية الأولى على يد والده هانز هولباين الكبير في أوغسبورغ، قد حظي بشهرة كبيرة في موطنه وفي بازل بسويسرا خلال العقد الثاني من القرن السادس عشر. غير أن التوتر الطائفي بين الكاثوليك والبروتستانت دفعه إلى الهجرة إلى إنجلترا عام 1532م، حيث تحول بسرعة إلى رسام النبلاء والبلاط، ومن ثم بدءاً من العام 1536م، أصبح الرسام الرسمي للملك.

طغت الصور الشخصية على أعمال هولباين الابن، فقد رسم البرجوازيين والتجار والنبلاء في سويسرا، لاحقاً في إنجلترا، بلوحات مدهشة في واقعيتها لجهة أمانتها لصورة الأصل، إضافة إلى ما حوته من إشارات رمزية للمكانة الاجتماعية. كما رسم عدة لوحات للملك هنري الثامن بغية إرسالها إلى ذوي الفتيات المرشحات للزواج من الملك (الذي تزوج ست مرات)، كما رسم عدة لوحات لفتيات التقاهن في أسفاره لعرضها على الملك، علّه يجد فيها عروساً ملائمة! ولكن من بين ما يقارب نحو 150 لوحة رسمها هولباين الابن في السنوات العشر الأخيرة من حياته، تعتبر لوحة «السفيران الفرنسيان» أهمها وأشهرها على الإطلاق.

نرى في هذه اللوحة السفير دانتفيل إلى اليسار بمعطفه الباذخ المصنوع من الفرو، وإلى اليمين الموفد دي سيلف، وبينهما طاولة عليها رموز المعارف والعلوم الجديدة آنذاك: كرة سماوية وأدوات مستخدمة في علم الفلك على الطبقة العليا من الطاولة، وكرة أرضية وكتاب حساب وعود وناي وغير ذلك من علوم الحياة الدنيا وفنونها.

وقد كشفت الدراسة الدقيقة لهذه الأدوات، أن الكرة الأرضية تُظهر مقاطعة بوليسي التي كان دانتفيل سيدها، وأن واحداً من الكتابين المفتوحين، كان معروفاً جيداً آنذاك ويتضمن نشيداً لمارتن لوثر مؤسس المذهب البروتستانتي.

ولكن هذه الواقعية الدقيقة، تنتهي فجأة بالشيء الغريب المرسوم بشكل موارب أسفل اللوحة، والذي عندما يتم التطلع إليه من زاوية ملائمة يظهر أنه يمثل جمجمة، أي رمز الموت.

ففي هذه اللوحة، كما في معظم أعمال هولباين الابن، لم يتوقف الرسام عند إظهار براعته في الرسم والأمانة للواقع، ولا في اكتناز الرموز الكثيرة الراوية لمكانة الشخصيات، بل وضع فيها أيضاً فلسفته الشخصية ونظرته إلى العالم الذي كان يموج بالعلوم الجديدة، وأيضاً إلى الحياة التي مهما علا شأننا فيها، ستنتهي بالموت.
---------------------------------
* ناقد تشكيلي من لبنان.

 

 

عبود طلعت عطية*