رسالة إلي

العودة إلى النبع

هذه مجموعة من الرسائل كتبتها ولم يقدر لها أن تصل إلى أصحابها والحمد لله

سيدي:

* ليتك تعود إلى صفائك القديم، فلقد كنت من أشد الناس صفاء وأكثرهم مودة ورحمة وأقربهم إلى الصديق، توليه من حبك ورعايتك حتى يحس أنه بغير حاجة إلى مزيد.

*ليتك تعود إلى تلك النفس المشرقة أبدا العامرة أبدا بالحب المليئة دائما بالرضا التي تفيض على كل من حولها برا وسماحة.

*ليتك تعود إلى ذلك كله فليس في الدنيا كلها ماهو أصفى ولا أحب ولا أعمق ولا أبقى قيمة من ذلك كله.

*هل تذكر تلك الأيام الخالية عندما كان وردك صافيا ورفدك ميمونا، لا يقترب أحد من الإخوان إلا وجد عندك الأنس والحب والصدر الحنون؟.

* هل تذكر تلك الأيام؟، وهل تظن أن شيئا في الدنيا يعد لها أو حتى يقترب منها؟.

* أنا واثق أنك ستقول عندما تقرأ هذه السطور: وماذا تغير وماذا تبدل؟ لا شيء قط، إنني هو أنا وإنما الذي تغير هو الزاوية التي أصبحت تنظر منها إلى الأمور والعين التي أصبحت تنظر بها إليها، لقد كنت في الماضي تنظر إليّ وعينك حانية راضية، وأنت اليوم لاتنظر إليّ كما كنت تنظر بالأمس، وهذا وحده هو مصدر ما تراه من تغير وتحول.

* ولعلك يا صاحبي على صواب، فما أحب أن أظلمك وما أظن أن شيئا أقسى على نفسي من أن أظلمك، فأنت تعلم مدى حبي لك، وأنت تعلم مدى حرصي على أن أحتفظ لك في نفسي بهذه الصورة الحلوة المريحة التي جمعت بيننا في الماضى والتي أريدها أن تظل باقية أبدا تجمع بيننا جميعا وتجمع معنا ذلك النفر القليل من قدامى الصحاب.

* ليتك يا صاحبي تكون على حق وأكون أنا على غير حق، فليس أحب إليّ من ذلك شيء قط.

* ولكن ما قولك ولست وحدي في هذا الذي أسره إليك، ولست وحدي الذي يجد غير قليل من الأسى لأنك قد نبوت عن طبيعتك تلك الحلوة الرائعة إلى طبيعة أخرى غريبة عنك لا تليق بك ولاتليق بها وليست منك ولست منها في شيء قط؟، إنك تبدو وأنت تسلك تلك المسالك الغريبة وكأنك ترتدي ثوبا ليس ثوبك، وتركب مركبا ليس مركبك، وتتحدث حديثا غير الحديث الذي تعود الصحاب أن يسمعوه منك وأن يألفوه ويحبوه.

وأعلم أنك ستقول: وهل لا تريدون لسنة التطور والتغير أن تلحقني كما لحقتكم؟، وهل مازلتم أنتم أيضا على ما كنتم عليه من بساطة بسيطة وود مقيم أم أنكم تغيرتم بدوركم وبددت تصاريف الحياة ما كان من بساطتكم وما كان يملأ نفوسكم من ود، وأحلت محلها هموما غير الهموم ومشاعر غير المشاعر حتى لينكركم بعض من كان يعرفكم إنكارا شديدأ؟.

* وأنت على حق في هذا الذي تقول من غير ريب، فمن منا لم تغيره الأيام والليالي، ومن منا من لم تعتصره صروف الحياة عصرا وترهقه إرهاقا وتعنت نفسه وقلبه وعقله جميعا أشد العنت وأقساه؟، من منا قد ظل على حاله القديم حتى تظل أنت على حالك القديم لا يتغير منه شيء؟

* هذا الذي تقول صحيح ولا ريب فيه، فلا أحد لا يتغير إلا وجه الله، ولكن الذي يريد أن يقوله لك ذلك النفر القليل من الخلان القدامى هو غير ذلك تماما. إن فينا جميعا خيرا وفينا جميعا شرا وفينا حبا للغير وفينا حبا للذات وفينا ذكاء ورقة وفينا أيضا ثقلا وغلظة، وطبيعة الواحد منا هي جماع ذلك كله، وقد كانت تلك الطبيعة غير ناضجة ولا واضحة ونحن في سن الصبا ومقتبل الشباب، حتى إذا عبرت بنا أطوار العمر وعبرنا بها وجدنا طبيعتنا تلك قد أصابها من النضج بل واليبوس ما أصابها، ولكنك لا تخطىء فيها شيئا مما كان قديما، هذا الجانب هو هو ولكنه زاد قليلا، وهذا الجانب هو هو ولكن الأيام قد صقلته وشذبته، وهذا الجانب هو هو ولكن ما فيه من سوء قد أصبح أكثر وضوحا وهكذا، أما أنت فالذي يبدو لي ويبدو لبعض الإخوان من تلك القلة القليلة هو شيء غير ذلك، لقد تغيرت طبيعتك ذاتها أو لأكن دقيقا فأقول: لقد تغيرت بعض جوانب طبيعتك حتى لكأنها شيء جديد.

* وأرجو ألا تأخذ كلامي على غير محمله ولا معناه، فأنا لا أريد بك سوءا ولا أستطيع. وأنا لا أقول إنك كنت خيراً وأصبحت شريرا، معاذ الله أن أقول ذلك، وليس هناك أبعد عن الحقيقة، من ذاك، وأنت مازلت في نظر الكثيرين من غير دائرتنا المحدودة، مازلت أكثرنا نقاء وصفاء وودا حتى ليخيل إليّ في لحظات كثيرة أن العيب عيبي وليس عيبك، وأنني أريد منك أكثر مما تحتمل طبائع الأمور، وأنني أحببت فيك بعض جوانب شخصيتك، ووددت لو أن هذه الجوانب بقيت على حالها لم يصبها نضج ولا تطور ولا تغيير، وما إلى شيء من ذلك كله من سبيل، لأن ذلك كله يخالف طبيعة البشر وطبيعة الأحياء.

* ومع ذلك فإني أحب أن أسر إليك ما قد لايستطيع غيري أن يعبر عنه أو أن يبلغك إياه.

*حاذر الحذر كله من أن تغلبك اعتبارات المادة والمال والصرافة على نفسك وطبيعتك وصفائك القديم، فإنك إن فعلت فأنت الخاسر خسرانا مبينا وإن " اكتنزت " ملايين الأرض والسماء، وما أنت بمستطيع.

* عد إلى بساطتك البسيطة، وعد إلى ودك القديم وحنانك الغامر، فأنت أنت بذلك كله ولست أنت بتلك الأثقال الغلاظ من أثقال المادة.

* عد إلى حيث كنا.

* ولكن صدقني يا أخي إذا قلت لك يبدو أنني حالم واهم، وأنني أريد أن أكلف الأيام ضد طباعها، وأنني أطلب منك ما لا أطلبه من نفسي ولا أطلبه من أحد سواك. لعل ذلك لأنه لا يوجد لدي مثلك سواك.

* رعاك الله يا أخي وغفر لي ما قد أكون قد أسأت من ظن. إن الله غفور رحيم.