سوق عكاظ إعلامية

سوق عكاظ إعلامية

السيد رئيس تحرير مجلة «العربي»، السادة أعضاء أسرة التحرير: تحية احترام وعرفان بالجميل لما تبذلونه من جهد في خدمة الثقافة العربية.

اهتمّ السيد رئيس التحرير ضمن ركن «حديث الشهر» في العدد (628 - مارس 2011) بما سماه «الإعلام الأصفر» في بيئتنا العربية ودوره الهدام في إعاقة تنمية المجتمع العربي فكريا وحضاريا، عارضا نماذج من برامجه الهابطة ومحتواه الضحل الذي كرّس ويكرّس الرداءة والانحطاط الفكري والأخلاقي. ونظرًا لأهمية الموضوع أردت إثراءه بهذه الملاحظات البسيطة، خاصة أن «حديث الشهر» يحرّك بجرأته، المياه الراكدة ويتحدى المسلّمات والبديهيات المستقرة في النفوس.

إن المتأمل الممحّص في المشهد الإعلامي العربي يلاحظ أننا في سوق عكاظ إعلامية يختلط فيها الحابل بالنابل، ويتنافس فيها أغلب المتنافسين على الرداءة والفوز بقصب السبق في تسطيح الوعي وبث الخمول والتواكل والبلادة الذهنية، لا على الجودة والنهوض بالمواطن العربي فكريا وثقافيا وأخلاقيا. وهو أمر راجع في تقديري إلى مجموعة من العوامل، منها ما هو متعلق بنموذج السلطة السياسية السائدة في منطقتنا العربية ومنها ما هو متعلق بالمرجعيات الفكرية والخلفيات الذهنية لأصحاب هذه القنوات.

ففي وطننا العربي الممتد من المحيط إلى الخليج، يتميّز المشهد السياسي في أغلب دوله بغياب الحرية والديمقراطية، ومعلوم أن الاستبداد والإعلام الحر البناء ضدان لا يلتقيان أبدًا، وإن التقيا فلابد أن يلغي أحدهما الآخر. والغلبة تكون دائما للاستبداد لأنه يمتلك من أدوات القمع وكبت الحريات ما يفرض على الإعلام الانحناء والرضوخ لمشيئته ورؤيته الأحادية للأمور. ومن ثم الترويج لما يريده الحاكم المشغول بالحفاظ على عرشه، موظفا وسائل الإعلام المختلفة في سبيل ذلك. وقد زاد من تردي وضع الإعلام، سيطرة بعض أباطرة المال على المشهد الإعلامي العربي، فهؤلاء أنشأوا القنوات التلفزيونية والصحف، ووظفوها لخدمة مصالحهم التجارية والمالية وتكديس الثروات، متناسين رسالتهم الوطنية والقومية في الرقي بمستوى المواطن العربي الفكري والثقافي وتهذيب ذوقه وأخلاقه. فنشأ تبعًا لذلك إعلام تجاري سيئ جدا، همه الوحيد الترويج لثقافة الاستهلاك بما تعنيه من وعي سطحي وانبتات عن العادات والتقاليد الأصيلة وتشويه للهوية الثقافية والحضارية وتهميش قضايا الأمة المصيرية. لقد غابت في أغلب وسائل الإعلام العربية البرامج الجادة سياسية كانت أم ثقافية أم ترفيهية هادفة. استخف بالمواطن العربي، واعتبر في هذه الوسائل مجرد زبون يستهلك ما يعرض عليه من بضائع إعلامية مائعة وهابطة، أو ما يدفع إلى شرائه من سلع استهلاكية.

والملاحظ أن وسائل الإعلام التجارية هذه تعتمد في جميع ما تعرضه من برامج، الإبهار والإغراء،إنها تخاطب غرائز المتلقي ونوازعه النفسية وتحرك شهواته الباطنية فينشدها ويتعلق بها. ويضحي عبدًا لها، تملي عليه اختياراته وأفكاره كما تحدّد له أنماط سلوكه وقيمه الأخلاقية. وهي ضرورة أفكار وقيم مشوّهة تخدم أغراض القائمين عليها ومصالحهم التجارية. إنها تبيع المتلقي وهمًا زائفا يستلذه، وهم الجمال والوسامة إن اقتنى هذه البضاعة أو تلك، ووهم الثراء السريع والكسب السهل إن شارك في هذه المسابقة أو تلك، والأدهى من هذين الوهمين وهم الرجولة والعظمة إن اقتدى بهذا المغني «التافه» أو ذلك اللاعب «الجاهل»، فتغيب رسالة الإعلام النبيلة وأهدافه السامية. ويضيع أمل الأمة في النهوض وبناء مشروع حضاري عربي خلاق ينافس مشاريع الأمم الأخرى ويثري الحضارة الإنسانية بتميزه وأصالته. وهي بهذا تكون- من حيث لا تدري - قد خدمت مصالح أعداء الأمة وسعيهم الدءوب لإبقائها متخلفة عاجزة عن منافستهم ومقارعتهم سياسيا واقتصاديا وعلميا. فعندما تنشأ أجيال منبتّة عن واقعها، منصرفة عنه إلى أوهام لذيذة تحبذها النفس وتزينها وسائل الإعلام تكون سهلة الانقياد يسيرة الامتثال مثلما تصبح تعبئتها لصالح المشاريع الهدامة من أسهل ما يكون. وهو ما نلاحظه في نجاح أعداء الأمة - أحيانًا - في إذكاء النعرات المذهبية والطائفية والعرقية بين أبنائها لتقسيمها وتفتيتها، خاصة أن بعض وسائل الإعلام العربية - سامحها الله - تعمل، بوعي أو من دون وعي، على إثارة هذه النعرات الكريهة.

تطوير المشهد الإعلامي العربي، لن يكون فاعلا وقابلا للتحقيق، إلا في ظل إستراتيجية إعلامية عربية شاملة، تواجه تحديات الحاضر والمستقبل بعيدًا عن التقوقع والرؤى القطرية الضيقة التي تقدم المصلحة القطرية على المصلحة العربية الشاملة، فتفشل في كلتيهما لأن تلك جزء لا يتجزأ من هذه.

سامي الحاجي
القيروان - تونس