قراءة نقدية.. في كتاب
قراءة نقدية.. في كتاب "جودت بك وأولاده"
رواية وملحمة الأجيال في تركيا المعاصرة من تأليف الروائي التركي أورهان باموق تنتسب رواية "جودت بك وأولاده" للروائي التركي المعاصر "أورهان باموق" لنوع الرواية النهرية.. رواية الأجيال التي تطمح إلى أن تقدم صورة بانورامية ملحمية شاملة وعريضة لمراحل تاريخية متعاقبة.. تلتقي فيها أحداث التاريخ المعاصر والتطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية مع مصائر الشخصيات وتحدد السمات الطيفية لجدل العملية الاجتماعية. والنهج الروائي والبناء المعماري الذي شيده الكاتب التركي هنا، يبدو متأثرا بنهج وأسلوب كبار الروائيين الواقعيين بلزاك، وتولستوي، وتوماس مان، ونجيب محفوظ فهو يصور ويجسد بالصورة والرمز ويحلل في تفصيلات جزئية بناء ورسم أنماط ونماذج إنسانية تصور كلية المراحل البارزة والحاسمة من تاريخ وحياة تركيا منذ عام 1905 في أواخر انهيارات الخلافة العثمانية وترهلها في عهد الخليفة "عبدالحميد" حتى الانقلابات العسكرية في السبعينيات.. بكل تناقضاتها وصراعاتها السياسية والأخلاقية. ويكاد التماثل والتطابق يتحقق بين كل من رواية "آل بادنبرك" لتوماس مان، وثلاثية "بين القصرين" لنجيب محفوظ، وبن رواية" جودت بك وأولاده" لأورهان باموق في اختيار شريحة عائلة التجار وتتبع أجيالها كتجسيد لنماذج المراحل التاريخية والسياسية والأخلاقية والثقافية، بجانب تصوير ينبض بالإيقاع التاريخي والطراز المعماري وحواشي وتفصيلات الحياة والعادات والتقاليد والمثل والتصورات الشعبية. وقبل أن نقوم بمحاولة تحليل وتفسير البناء الجمالي والفني ونكشف عمق وثراء الموضوعات والإشكاليات التي طرحها الخطاب الروائي في استعادة وإعادة خلق مراحل زمنية عريضة لتاريخ تركيا المعاصر تبدأ بانهيار الإمبراطورية العثمانية "1905" ووفاة أتاتورك "1938" والفوضى والانقلابات العسكرية في السبعينيات من هذا القرن، ولكن كما عاشها الشعب التركي في أجياله المتعاقبة "عائلة جودت بك" وحيث كل جيل يمثل منعطفا وكل منعطف يكون رجالاته وعقلياتهم، قبل كل ذلك نتوقف عند بعض المعلومات عن الروائي التركي المعاصر "أورهان باموق". هو من مواليد "1957" أستاذ زائر في جامعة بريتستون وحائز على جائزة أدبية في تركيا "جائزة الروائي أورهان كمال". إن أبرز ما حققه "أورهان باموق" هو إدراكه المشكلة المنهجية الأساسية لهذا النوع من الروايات الواقعية ذات النفس الملحمي وهو أن "كل شيء سياسة" ولم يكن يعني أن كل شيء سياسة بالمعنى المباشر، بل يعني أن نفس القوى الاجتماعية التي تحدد - وهي في قمة نشاطها - القرارات السياسية، تمارس أيضا تأثيراتها على جميع مظاهر الحياة اليومية في العمل الواجب والصداقة والزواج .. وغير ذلك. وفي كل مرحلة من مراحل التاريخ تخلق هذه القوى الاجتماعية نماذج معينة من الناس، تظهر سماتها المتميزة بنفس الطريقة في كل مجال من مجالات الحياة والنشاط الإنساني حتى على الرغم من أنها تتخذ اتجاهات متباينة ومضامين مختلفة ودرجات متفاوتة من الشهرة وهو هنا يشارك عظمة الكتاب الواقعيين الكبار، على وجه الدقة في قدرتهم على كشف وجلاء هذه السمات الإنسانية النموذجية في كل مجال من مجالات الحياة. فمنذ أواخر القرن السابع عشر والدولة العثمانية تتعرض لانهيارات سياسية واقتصادية، ويتربص بها في الخارج أعداؤها في أوربا شرقا وغربا. ودفع هذا الأتراك إلى محاولات عدة للإصلاح، وتجددت أيديولوجيات متعددة حاولت علاج هذه الانهيارات، منها ما هو إسلامي يرى في الجامعة الإسلامية طريق الخلاص، وما هو عثماني يرى الوحدة بين الولايات العثمانية خير وسيلة إلى تحقيق التجانس بين العناصر والقوميات المختلفة، ومنها ما يرى في النظم الغربية وحضارة الغرب أرقى وسيلة لإنقاذ الدولة العثمانية.. بجانب ذلك ظهرت دعوة إلى القومية التركية واستقطبت غالبية المثقفين الأتراك، خاصة بعد هزيمة الدولة في حرب البلقان عام 1911 وما نتج عنها من انسلاخ الولايات العثمانية، ثم هزيمة حرب طرابلس عام 1912 أمام إيطاليا، ثم أعقبتها الحرب العالمية الأولى عام 1914 والتي فجرت القومية التركية ضد احتلال الدول الأوربية لأجزاء من تركيا، بجانب ذلك فقد أصيب الأتراك في صميم قوميتهم الإسلامية حين انضم العرب إلى أعدائهم الحلفاء. في أتون هذا الصراع السياسي والقلقلة الاجتماعية التي صاحبته وجدل العملية الاجتماعية، تبدأ وقائع وأحداث الرواية ونتعرف في سرد تقليدي يعتمد الوصف والتفصيلات الجزئية الميكرسكوبية على "جودت بك" عميد أسرة التجار في إسطنبول والذي سوف يتابع الروائي تقديم حياته وسلوكياته وطموحاته حتى الجيل الثالث من أحفاده في نسق بنائي تتداخل فيه أحداث وتطورات الواقع التركي السياسي والاجتماعي والأخلاقي على مصائر وهموم ورؤى الشخصيات الرئيسية والثانوية.. بحيث يصبح المعطى الفكري في النهاية صورة إجمالية موسعة لأخلاقيات ومثل وتقاليد وأعراف الشعب التركي منذ عام 1905 حتى السبعينيات. "جودت بك" في السابعة والثلاثين من عمره خاطب وسيتزوج قريبا ابنة أحد الباشوات القدامى الذين عملوا مع "السلطان عبدالحميد" وهو غارق في عالم التجارة والربح والخسارة، يتجنب إبداء الرأي في مشاكل السياسة وينأى بنفسه عن التورط في إبداء رأي مع أو ضد، بعكس شقيقه "د. نصرت" الذي قرأ تراث الثورة الفرنسية وذهب إلى فرنسا وبعض بلدان الشرق الأوسط، وأصبح عضوا في تنظيم "جمعية تركيا الفتاة" وهو عدو معارض للسلطان يدعو إلى النظام الجمهوري ويعتنق المبادئ الليبرالية، رغم أنه يعاني مرض الصدر، يسحقه القلق والإفراط في تناول الكحول.. والعربدة، و"جودت بك" يعرف أن أخاه "نصرت" يحتقره لبلادته وجموده ولا مبالاته ويثير هذا نوعا من الخجل لدى "جودت" الذي يعاني من تحديد مشاعره تجاه أخيه بين الكراهية والحب، ورغم ذلك فهو يقف بجانبه في مرضه ويعمل على تنفيذ وصيته في احتضان وتربية ابنه "ضياء" الذي سوف يصبح عسكريا في الجيش التركي، ونطل من خلاله على نموذج العسكرية التركية في عهد أتاتورك. وعبر علاقة "جودت بك" بصديقه التاجر المتحرر "فؤاد بك" وهو ابن لأسرة ذات تقاليد تجاري، فهو من عائلة سيلانكية يهودية اعتنقت الإسلام نستمع لصوت تيار معارض للخلافة يقول "فؤاد بك" : "اسمع الحياة هنا لا تطاق.. الحرية معدومة هنا.. الدولة عليلة.. كل شيء عفن وفاسد وأنت تعرف هذا جيدا.. أليس كذلك.. مادمت تعرف ذلك فلا بد لك أنت أيضا من أن تكون في صف المطالبين بأن نصبح نحن أيضا مثلهم، مثل الأوربيين.. بأن نتقدم إلى الأمام ولو بضع خطوات، غير أن هذا لا يعني الجلوس هنا ونتناول الطعام مع هؤلاء المتباهين الفارغين.. لا يعني الرقص والتكلم باللغة الفرنسية، بل يعني الوقوف في صف مؤيدي قضية الحرية والديمقراطية.. ما رأيك؟" وعلى لسان "شكري باشا" والد خطيبة "جودت" نقرأ اعتراف رجال السلطان بالمصير المعتم الذي ينتظر الخلافة. في صراحة يقول "شكري باشا" : "عصرنا نحن يولي إلى غير رجعة.. ألقيت قنبلة على الخاقان الكبير عبدالحميد.. الصبية جميعا ثوريون.. ما من أحد راض بالأوضاع ومن كان يخطر بباله أن من الممكن إلقاء قنبلة على عبدالحميد؟ هذا أيضا سيطاح به سيدحرجونه عن عرشه". وتقع الثورة ويتم التحول الكبير وتسقط الخلافة العثمانية العتيدة وتعلن الجمهورية.. ولا يقدم الروائي تصورا وتفسيرا وتحليلا لعذابات وويلات التحول فهو يختصر الأحداث والأزمات التي صاحبت الثورة، لينقلنا فجأة إلى حكم أتاتورك حيث يرصد التشوهات والتغيرات العنيفة التي أحدثها نزوع أتاتورك المتهور لاعتناق الأسلوب والنمط الغربي والقضاء على مألوف العادات والتقاليد الإسلامية، وتتبدى أزمة الانفصام التي عانتها الشخصية التركية والتي ما زالت قائمة حتى الآن. ونجد أنفسنا دون تمهيد في عام 1936 ونلتقي في القطار العائد من أوربا بعائلة تركية ينطق كبيرها بلسان حال هذه المرحلة وتوجهاتها في عبارات دالة، يقول "سعيد بك": "ستكون أوربا بالنسبة لنا، بعد الآن شيئا.. أقول شيئا وأعني هدفا أو على الأصح نموذجا ومثالا" كان سعيد بك يقول هذه الكلمات بسرعة وهو يهتز مع اهتزاز عربة المطعم في القطار: "حان وقت التخلي عن الكبرياء وتركها جانبا، ما أكثر ما كررت العبارة التالية: مضت سنوات وسنوات على نجاح دوي المدافع وضجيج الآلات في إسكات صليل سيوفنا.. لم تعد الدولة تلك الدولة القديمة، لم تعد الدنيا أيضا كما كانت قديما.. أشرفنا على منتصف القرن العشرين.. نحن الآن في شباط عام ألف وتسع مئة وستة وثلاثين وماذا يتبقى حتى نصل عام ألف وتسع مئة وخمسين، لنشرب.. لنشرب ولنترك الكبرياء جانبا ولتتمثل الجمهورية وأوربا في أعماقنا". وعلى هذا المستوى من التعبير المرتفع النبرة يكشف "أورهان باموق" عن "بورصة المعاملات الروحية" بوصفها مأساة "تراجيدكوميدية" عميقة تسيطر على روح الطبقات البرجوازية.. ويقدم الروائي نماذج نمطية لجيل هذه الفترة من حياة تركيا الحديثة مجسدا في ثلاثة زملاء هم المهندس "عمر" العائد من دراسة وعمل في أوربا، والمهندس الحالم "رفيق" ابن جودت بك، والمهندس الشاعر "محيي الدين". غير أن الروائي.. في معظم الحالات وفي رسمه وبنائه لهذه الأنماط والنماذج، لم يعطنا سوى هياكل مجردة ترفل في عبارات مدوية من البلاغة اللفظية، ولم يصل لما أحدثه كبار الروائيين الواقعين أمثال بلزاك وستندال وتولستوي من خلق أقدار ومصائر نماذج رجال ونساء من لحم ودم، ورغم ذلك فهؤلاء الثلاثة.. عمر، ورفيق، ومحيي الدين على الرغم من أنهم يمكن أن يعتبروا من الناحية السطحية فقط مجرد حالات فردية قصوى.. رغم ذلك فإن مثل هذه الحالات الفردية القصوى تجسد الأشواق والرؤى والأحلام والطموحات العميقة لأفضل أبناء البرجوازية التركية فيما بعد ثورة أتاتورك. ولقد حاول بجهد مركب من الغنائية الرومانسية والواقعية أن يصور الكارثة الحتمية لتلك النماذج وهزيمتهم المؤكدة في صراعهم ضد القوى السائدة في عصرهم وانسحابهم الضروري من الحياة أو بتعبير أدق نبذهم الضروري من العالم الذي عاشوا فيه. إن "عمر" نموذج مجسد للطموح والمغامرة.. والعصامية.. لقد وصفه "سعيد بك" بأنه "راستنباك" بطل الكوميديا الإنسانية لبلزاك إنه نموذج عصر أتاتورك.. ونتعرف من كلماته على توجهاته منذ البداية عقب عودته من أوربا.. "أنا أيضا كثير الشوق والتوق، أنا مولع بكل شيء .. وأريد أن أمتلك كل شيء .. سبق أن سألتموني قبل قليل.. أريد امتلاك كل شيء.. أتوق إلى النساء الجميلات.. إلى المال.. إلى الشرف والحياة.. إلى الشهرة.. لماذا تضحكون؟ عندي رغبة جامحة في كل هذه الأمور إلى درجة أستطيع معها أن أقدم روحي فداء لها!". غير أن برجماتية ونفعية "عمر" لا تنفي عنه أنه يتمتع بموقف فكري أعلنه أكثر من مرة. إنه يقول لرفيق في أرض الموقع الذي ينشأ فيه خط السكة الحديد متأملا: "هذا صحيح تماما.. هنا في تركيا.. لا يستطيع الإنسان أن يؤمن بشيء عن طريق العقل!.. إما أن تؤمن بالله مثل أولئك أو لا تؤمن بشيء لأن كل شيء مزور في هذه البلاد.. كل شيء تقليد.. كل شيء كاذب.. جميع الأمور ملأى بالذبذبة والنفاق والتضليل.. أنت تتحدث عن هوسو.. من هو هوسونا نحن؟ أهو نامق كمال؟ هل تستطيع أن تقرأ ما يكتبه؟ وهل يستيقظ أي إحساس في داخلك إذا فعلت؟ ربما استطاع ذات يوم أن يحرك بعض المشاعر لدى بعض الناس، يبدو أنه كان أفضلهم، وماذا بعد؟ إن الألماني محق في كلامه! هذه الكلمات المثقلة بالمرارة والحيرة تحدد إشكالية. التحول السياسي والاجتماعي والأخلاقي الذي أحدثته ثورة أتاتورك الفوقية في جدل العملية الاجتماعية لبيئة وأسس المجتمع التركي.. لقد عجل بجعل تركيا تتوجه كليا لنمط وأسلوب ونسق الحياة الأوربية الغربية، وأجبرها على الانسلاخ عن تراثها العربي الإسلامي، وأحدثت هذه التحولات خلخلة للقيم القديمة، ولم تحل محلها قيم لها جذورها ونسقها بحيث تربط المستقبل بتراث الشعب التركي، ولعل معركة تغيير حروف اللغة العربية إلى اللاتينية وإجبار الشعب على ارتداء القبعة بدلا من الطربوش، تقدم نماذج دالة للمفهوم القشري السطحي للحداثة والتغريب التي هبت كالعاصفة على حياة ومثل الشعب التركي.. وكل هذا طرح ارتباكا وقلقلة جسدتهما النماذج المقدمة في هذه الرواية الاجتماعية النقدية ولعل أبرز نماذجها الدالة على المعاناة والخبرة والبحث المضني عن طريق وهوية.. نجده في نموذج "رفيق" الابن الأصغر لجودت بك ومثل الجيل الثاني من هذه الأمور. وفي غمار جو البرودة وعواصف الثلوج وفرح ولزاجة الطبيعة وحومة عمل عمال السكة الحديد يبدأ "رفيق" يتخلص من حيرته وضجره ويشرع في القراءة الجادة في كتب التنظيم والإدارة والاقتصاد، ويبدأ في الكتابة المنظمة عن مشروعاته وتنظيماته ومبادئه والأسس ذات العلاقة بالتنمية الريفية، ويلتقي هناك بشخصية مؤثرة فكريا وعقليا وهو المهندس الألماني الإنساني النزعة والثقافة والمعادي لنازية هتلر، والذي يكشف لرفيق التناقض بين سمات وجوهر الشخصية التركية ويدله على قراءة جيته، وشيلر وسماع الموسيقى الكلاسيك وأشعار هولدرين. يقول المهندس الألماني ملخصا رؤيته في إحدى المناقشات مع رفيق وعمر: "أنا لا أحب الشرق.. أنا أمقت هذه الأجواء هنا وأكره هذه الأرواح التي لا تتناغم قط مع روحي".. ثم أعاد قراءة قصيدة هولدرين "إن الشرق.. مثله مثل أحد الطغاة المثيرين للرهبة يسحق الإنسان وينزله إلى الدرك الأسفل بقوته وأنواره المزيغة للبصر، فالإنسان هناك مضطر لأن يتعلم الركوع قبل أن يتعلم المشي ولأن يتعلم الصلاة والدعاء قبل أن يتعلم الكلام". وهو يسخر من طموحات عمر.. وتقمصه لشخصية راستنباك قائلا: "وأما أنت فإن هذه التربة ليست مناسبة لمطامحك وأهوائك، ذلك لأن هذه التربة لم تطهر بعد، حسب اعتقادي، من حشائشها وأشواكها العنيفة التي لا تفيد في شيء.. إن الثورة الفرنسية الدامية هي الأرضية التي وقف عليها راستنباك بلزاك، ماذا نرى هنا؟ ما زال كريم بك هو السيد الأكبر، أكبر أدباء العمل في أعمال تمديد سكة الحديد هنا، هو أحد الأغوات الإقطاعيين.. إقطاعي كبير ومتعهد خط حديدي ونائب في مجلس الأمة في وقت واحد.. لأمثالك أنت لم يتركوا أي شيء يا صديقي.. آه ما الذي سيقوم بفتحه أنت ياهر فاتح.. أيها الفاتح العمر.. أنت.. إذا كانت الحشائش والأشواك العنيفة تغطي كل مكان!؟". وتكشف هذه المناقشة عن عدم إحداث ثورة أتاتورك لتغيير جذري للعلاقات الاجتماعية في الريف وأنها حركة إصلاحية مست سطح الحياة الاجتماعية التركية واكتفت بالقشريات والمظاهر دون الجوهر، وأنها استبدلت باستبداد الخلافة وصاية أتاتورك وعصابته من المنتفعين، ويسلط الكاتب الضوء على رجال مجلس الأمة والحزب ويسخر من وصوليتهم وخوائهم وإفلاسهم السياسي، وانتهاء زمنهم. أما النموذج الثالث لشباب وجيل هذه المرحلة المليئة بالمتناقضات والرؤى المتعارضة للسياسة والأخلاق والقيم والفكر فيعكس جانبها الأدبي المهندس "محيي الدين". هو مثقف وشاعر حاول بلا جدوى أن يصطاد طائر الشعر المختال فأجهده، ولقد أصدر ديوان شعر صغيرا لم يحدث صدى في الحياة الثقافية الراكدة.. هو شخصية عصابية قلقة سكيرة.. انتحارية يفكر في إنهاء حياته لو لم يحقق طموحاته كشاعر، وهو ساخط على عفن وخواء الحياة السياسية يتابع أخبار الواقع التركي والعالم بنهم ويقظة ويشعر بالحيرة والتمزق، ينفق حياته في خمارات حي "البي أوغلو" باسطنبول القديمة ويلجأ إلى العاهرات لعله يجد اليقين في الجنس، وهو يشعر بذاتيته المتورمة وأستاذيته ويفرضها على طالبين من طلاب الأكاديمية العسكرية يقرضان الشعر، ويحلم بالتسلل إلى المؤسسة العسكرية عن طريقهما، ويفكر بأن شاعريته وحياته ذهبتا سدى. ويلتقطه من براثن أزمته وفي إحدى الخمارات مفكر قومي تركي متمرس هو "ماهر التالي" يقرأ في هذه الكلمات أعماق نفسه ويشخص أزمته يقول: "قرأت أشعارك.. حين قرأت هذه الأشعار وتذكرت وجهك الذي رأيته عند باب دار النشر، أدركت أنك إنسان حزين يائس مثقل بالهم، شاعر موهوب وحزين.. من النظرة الأولى يبدو للمرء أنك تمتلك كل ما هو ضروري لكتابة الشعر الجيد ولكن هناك نقصا محددا.. وهذا النقص يكمن في المبدأ.. في القضية.. حياتك بلا عقيدة!" وبعد مناقشة يعرض عليه الانتساب إلى عقيدته "أنت تركي.. فكر بذلك!؟ فكر بالذوبان في بوتقة المجتمع، في نار معارك النضال في سبيل العقيدة المشتركة لجميع الأتراك بوصفك واحدا منهم! فكر بالاندماج في المجتمع مع إخوتك الآخرين في الدم .. فكر بنسيان ذاتك في سبيل أن يكونوا سعداء.. أنت لا تؤمن إلا بالشعر وبنفسك.. وما يثير إعجابك على أنه شعر هو ذلك الكلام القذر الذي كتبه الأوربيون كها فهمت من كتابك.. ألم يكن بودلير هو من أثار إعجابك؟ ذلك الفرنسي العفن المدمن الحشيش.. يجب أن تعلم أنك تركي.. ألا تعرف المظالم التي يمارسها الفرنسيون ضد أبناء قومنا؟". ويعرض عليه الانتساب إلى تحرير مجلة النذير صوت الحركة القومية التركية. وفي عام 1938 يتوفى أتاتورك.. بعد أن أحدث هزة وبلبلة وعاصفة في بيئة وواقع المجتمع والتاريخ التركي، وأثر في مسار تاريخه المستقبلي.. لقد كان الزعيم الأوحد والقائد والدكتاتور.. هو الذي يفكر ويحلم ويشرع ويتخذ القرارات القومية في وصاية على الشعب ولعل لقبه أكبر رمز على ذلك. لقد حاول "أورهان" أن يقدم صورة إجمالية موسعة وعريضة لتراجيديا الحياة التركية منذ أوائل القرن العشرين حتى السبعينيات.. ولا جدال أنه تأثر بهذا النوع من الروايات الملحمية واختار شريحة أكثر عناصرها حركة ودلالة وهي الشباب، إنه يبدو متأثرا في نهجه الروائي بجالزورشي في "ملحمة أسرة ال فورست" ونوماس مان في "ال بادنبرك" وهو تلميذ مجتهد في رسمه لنماذج العصر والمرحلة لبلزاك في واقعيته غير أنه يكتفي بالسطح دون عكس جدل علاقاته الشخصية بالطبقية والصراع الاجتماعي. ولا يتسع المجال لإيراد التشابه بين هذه الرواية وتصويرها للأجيال والتاريخ التركي مع ثلاثية نجيب محفوظ.. فثمة قرابة بين فهم وطموح الكاتب لتصوير ملحمة الصعود والسقوط لحياة طبقة وأسرة من التجار ورصد الفكر والأخلاق والعادات لطبقة البورجوازية كأنشط الطبقات في حركة الصعود القومي والتحول الثوري. إن هذا النوع من الروايات يؤكد محاولة الروائي التركي هضم الدرس الذي قدمه كبار معلمي الرواية الواقعية.. ويحقق مقولة لوكاتش "الروائيون العظام بحقهم في هذا الصدد أبناء أصلاء دائما لهوميروس، ومن الحق أن عالم الأشياء قد تغير والعلاقات بينه وبين الناس قد تعثرت وأصبحت أكثر تعقيدا وأقل شاعرية وتلقائية، ولكن الروائيين العظام يكشفون عن فنهم وقدرتهم على تخطي الطبيعة غير الشاعرية لذلك العالم، من خلال الإسهام والمعاناة في الحياة وتطوير المجتمع الذي عاشوا فيه، ولقد استطاع هؤلاء الروائيون العظام بدفع لأبطالهم النمطيين بشكل تلقائي، كي ينحدروا إلى مصائرهم الحتمية بطريقة غريزية،. أن يسيطروا بقوة قاهرة على ذلك النسيج المتغير من اللحظات الخارجية والداخلية العظيمة والضئيلة الشأن التي تصنع الحياة، ولقد انطلق أبطالهم على دربهم، وواجهوا بشكل طبيعي تماما الأشياء والأحداث المحددة في مجال حياتهم، ولأن هؤلاء الأبطال يحيطون بالمعنى الأعمق لهذه الكلمة فهم لا بد يخوضون طريقهم النمطي في الحياة، والكاتب حر في أن يقدم هذه الأشياء في الوقت والمكان الذي تصبح فيه مطلبا ضروريا في دراما الحياة التي يصفها. ويبقى أن نشير لدقة وسلاسة ترجمة "فاضل جنكر" لهذه الرواية التي تقدم لنا لمحة عن الرواية التركية المعاصرة.
|