أرقام

السنوات الصعبة عشر

"فخ الديوان" أصبح تعبيرا شائعا، فما أن تستدين دولة نامية حتى تكتشف أن معدلات النمو بعد الاقتراض لا تتحسن كثيرا، ولا تغطي الزيادة في الدخل المترتبة على القرض فوائد هذا القرض.. و.. بقية القصة معروفة: تعود الدولة للاستدانة لتسدد الديون القديمة، حتى تعجز عن السداد، وعن الاستدانة.

هذا الفخ عبر عنه تقرير صادر من الأمم المتحدة عام 1991، ويقول إن ديون العالم الثالث عام 1990 قد بلغت (1.2) تريليون دولار - أي 1200 مليار من الدولارات - وتنبأ التقرير أن تظل أعباء الديون ثقيلة ومرهقة بالنسبة للدول عالية المديونية، ولمدة عشر سنوات قادمة.

نبوءة البنك بعشر سنوات عجاف لها ما يبررها، فالمديونية تزيد ولا تنقص، وصافي ما يتدفق من الدول المتقدمة من أموال للعالم الثالث يتناقص ولا يزيد، والاتجاه في السنوات المقبلة - وحتى نهاية القرن - لمعونات وقروض واستثمارات تتجه شرقا في البيت الأوربي، أكثر مما تتجه جنوبا لدول العالم الثالث. لقد أصبح لرأس المال العالمي مهمة تاريخية وهي استرداد مواقعة في مجموعة دولية هائلة طالما ناطحت بنظامها الماركسي أسس النظام الرأسمالي.

والآن، لابد أن يعيد الجنوب حساباته التي يقول عنها البنك الدولي إنها حسابات صعبة.

هذه الأسباب
قائمة الأسباب طويلة.

في السبعينيات ارتفع سعر النفط حتى وصل في نهايتها إلى عشرة أضعاف ما كان عليه في بدايتها، وتحمل الجميع أثمان نفط أغلى، ولكن، وبينما صححت الدول الصناعية أوضاعها خلال عام واحد من ارتفاع الأسعار، فرفعت أثمان منتجاتها وعوضت فواتير النفط فإن الدول النامية لم تستطع أن تفعل نفس الشيء، وعلى العكس فقد سددت الفاتورتين: فاتورة النفط وفاتورة السلع الصناعية المستوردة، وكلتاهما بأسعار أعلى، بينما كانت موادها الأولية التي تعتمد عليها في حصيلة الصادرات تتراجع في السوق العالمية.

وانعكس ذلك على ارتفاع المديونية، والدخول في فخ أوسع اسمه "الديون - الشروط"، فالبداية أن تستدين والنهاية الخضوع لشروط الدائن والمنظمات الدولية.

استدان الكثير من دول العالم الثالث، وكان ذلك معبرا عن علاقات مختلة بين العالم الأول والعالم الثالث، وهو خلل عجز شعار "التعاون بدلا من المجابهة" عن أن يعالجه.

أيضا، وبين الخمسينيات والستينيات وما جرى بعد ذلك كان هناك فارق، وكان هناك نمط جديد للاقتراض في الفترة الأولى وهي سنوات الاستقلال العظيم كان الاقتراض في معظمه للتنمية وبناء المشروعات، وكانت معركة التنمية جزءا من معركة الاستقلال وتعبيرا عن الوطنية، وبرزت في تلك الفترة قروض الدول الاشتراكية الخالية من الشروط وذات الأعباء الرمزية. في السبعينيات تراجع العنصر الأخير، وبات الاقتراض في معظمه للاستهلاك والتسليح. أصبح الاقتراض بلا عائد كبير، حتى بالنسبة لقضية الأمن القومي التي كدسوا السلاح من أجلها، ويشير تقرير آخر للبنك الدولي أن إنفاق الدول النامية على التسليح قد بلغ في السنوات الأخيرة (170) مليار دولار سنويا، وأن ذلك الإنفاق لم يكن هناك في كثير من الحالات ما يبرره وأن دولا كثيرة قد أصبحت تنفق على الدفاع أكثر مما تنفق على الصحة والتعليم. وقد سجل البنك العديد من الحالات التي اتجهت فيها الاستثمارات للصحة والتعليم فزاد معدل النمو إلى (5.5) بالمائة، في مقابل معدل يقترب من (3) بالمائة لدول أخرى قللت هذه الاعتمادات وزادت نفقات الدفاع.

وربما عكس ذلك حقيقة الموقف الذي أدى لمديونية متزايدة للعالم الثالث وهو: غياب الأولويات، سواء في مجال الإنفاق وتخصيص الموارد، أو في مجال الإنتاج ونوعيته وعلاقته بالطلب المحلي.

لقد كانت أزمة العالم الثالث والتى يترجمها رقم مديونية يبلغ (1200) مليار دولار ترجمة لغياب البرامج الوطنية والإدارة الاقتصادية السليمة.

لقد غابت في كثير من الأحيان الفلسفة التي تحدد: إلى أين؟، وغرقت الدول في أنماط مستوردة للحياة، فغزت أدوات الغرب المتقدم أسواق الشرق المتخلف، أصبح على الفقراء أن يدفعوا ثمن تقليد الأغنياء.

زادت أسعار السلع الصناعية، فدفعت الدول الفقيرة. وزادت أسعار التكنولوجيا، حتى أصبحت أعلى سلعة في العالم، ودفع الفقراء وزادت أسعار السلاح، وراحوا ينزحون منه.

وزادت تكلفة الديون، ولم يتوقفوا عن الاقتراض. لقد كسبت الدول النامية ما يكسبه الفقراء ومحدودو الدخل، وأنفقت ما ينفقه الأغنياء والأقوياء..و.. كان ذلك بيت القصيد في مشوار الديون الذي انتهى إلى فخ كبير.

الخروق من المأزق
كيف توقفت العجلة؟ ذلك هو السؤال الصعب، فالديون كالدوامة تبدأ من أعلى لكنها تتجه بالضحية إلى القاع، ومع ذلك فلا مفر من محاولة النجاة، لا مفر من ثورة تنموية حقيقية، وسياسة وطنية تكرس الاعتماد على الذات.

إن العالم ليس عجينة واحدة، تحتاج إلى طريقة واحدة في الطهو. العالم متنوع الظروف والإمكانات والآمال، إنه - أيضا - ينتسب لفترات حضارية مختلفة.

العالم الثالث بحاجة لثورة اقتصادية وثورة في المفاهيم، إنه بحاجة إلى أن يصنع نفسه بنفسه، لا أن يستورد كل شيء حتى برامج وفلسفة الإصلاح.

لا يعني ذلك أن المطلوب هو الانعزال عن العالم، أو تجاهل ما يجرى فيه، أو تقليل القيمة الواقعية لقانون السوق. لكن السؤال: أي قدر من الاندماج؟ وأي قدر من الخصوصية؟ أي قدر من الاعتماد على الذات، وأي قدر من الاعتماد على الآخرين؟ وقد تكون العبارة: "أي قدر من الاستقلال، وأي قدر من التبعية؟".

تلك هي القضية وإن عبرت عن نفسها في أرقام صماء عن الديون، وأعباء الديون.

القضية أكبر من ذلك.