الاستهلاك طوفان التلوث القادم سمير رضوان

الاستهلاك طوفان التلوث القادم

أغرق السلوك الاستهلاكي المكثف الإنسان في طوفان عن المشاكل المتعلقة بتلوث البيئة، وما لم يأخذ الإنسان حذره فقد يغرقه هذا السلوك في طوفان حقيقي.

لست ممن يميلون إلى ما يراه ويردده الكثير من البشر اليوم من أن الإنسان في عصرنا أسوأ من الإنسان في الأزمنة الماضية، بل إنني مقتنع تماما برأي فيلسوف المعرة أبي العلاء الذي أوجزه في بيت من شعره:

وهكذا كان أهل الأرض مذ فطروا

فلا يظن جهول أنهم فسدوا

نعم.. للإنسان في كل زمان حسناته وخطاياه، وعلى قدر حسناته تكون خطاياه، ولإنسان الزمن الحالي حسناته التي يغبطه عليها الإنسان في العهود الغابرة: التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل، لذلك ليس من قبيل المصادفة أن تكون خطاياه هي الأخرى هائلة. ومن أهم هذه الخطايا سلوكه الاستهلاكي الشره الذي أصبح ينمي ويغذي مشكلة التلوث البيئي، وهي مشكلة تهدد كوكب الأرض بمخاطر جمة.

ازدواج الشخصية

من العجيب أن الوعي البيئي لدى الإنسان الحديث، خاصة إنسان الدول الصناعية المتقدمة، غالبا ما يكون غاية في النضج. ومع ذلك فسلوكه تجاه البيئة غالبا ما يتناقض تماما مع ذلك الوعي الناضج. في دراسة أجرتها مؤسسة متخصصة في ألمانيا، وهي إحدى أكثر الدول المتقدمة اهتماما بالبيئة، عن تحليل لأولويات الهموم من وجهه نظر المواطن الألماني. احتل التلوث البيئي المرتبة قبل الأخيرة عن قائمة ضمت تسعة هموم، وذلك في أوائل الثمانينيات، ولكن مع حلول عام 1984 قفز هذا الهم إلى المرتبة الثانية تاليا لمشكلة البطالة التي وضعوها في المرتبة الأولى. ومنذ عام 1989 حتى اليوم استأثرت مشكلة التلوث بالمركز الأول عن الاهتمام الشعبي في ألمانيا بإجماع 60% على الأقل من المواطنين. وأظهرت نتائج هذه الدراسة أيضا أن نسبة المواطنين الذين أبدوا استعدادا لتغيير أساليب تسوقهم وتحمل بعض التضحيات من أجل صيانة البيئة، هذه النسبة كانت هي الأخرى تتزايد، إذ بلغت عام 1985، 39% من مجموع 5000 مستهلك وارتفعت عام 1995 إلى 60%، ومع ذلك فلم يحدث أي تغيير في واقع الأمر بخصوص السلوك الاستهلاكي للمواطن الألماني. خلاصة القول أن هناك تناقضا بين وعي المواطن الألماني بمشاكل البيئة وسلوكه الفعلي لحل هذه المشاكل.

الإنسان كائن استهلاكي

هناك مقولة تهكمية شائعة في دول غرب أوربا: "لقد ولد الأمريكي لكي يشتري". على أن الموضوعية تقتضي أن نصححها لتصبح "لقد ولد الإنسان لكي يشتري" فلم يعد السلوك الاستهلاكي مقصورا على الأمريكيين بحال، بل هو أصبح شائعا حتى في أفقر دول العالم الثالث. ولعل الكم الهائل من الإعلانات الدعائية التي تزخر بها أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة في جميع دول العالم هو أحد المقاييس الأمينة لنزعة الاستهلاك التي ألمت بالبشر في الزمن الحديث، إذ إن هذه الإعلانات المكلفة لا جدوى منها ما لم يكن الاستهلاك يغطي تكاليفها ويزيد كثيرا. ويلجأ المنتجون إلى كل وسيلة متاحة لحث البشر على زيادة الاستهلاك ولا يقتصر الأمر هنا على الإعلانات والدعايات الجذابة، والتي لا تتوخى بالضرورة الصدق والواقع، إنما تتجاوزهما إلى أساليب عديدة، مثل التسهيلات في عملية الشراء من خلال التليفون أو البريد، وحمل السلع إلى المستهلك في عقر داره، وفي أساليب الدفع بالبطاقات والأقساط، ومكافأة المشتري كلما كثف من سلوكه الاستهلاكي، وغير ذلك الكثير. وهم هنا لا ينضب معين فكرهم أبدا. وقد سهل الكمبيوتر مهمتهم في ذلك، فهم يدرسون من خلاله نفسية المستهلك وأنسب أساليب الدعاية لسلعهم. وبديهي أن رفع معدل الاستهلاك لأي سلعة يعني تكثيف المشاكل البيئية خاصة مشكلة التلوث على كوكبنا.

الخداع الدعائي والتخبط الاستهلاكي

في الواقع أنه ما من سلعة إلا ابتكر منتجوها وسائل للدعاية تغري المستهلك باقتنائها، حتى أصبح الإنسان الحديث ليس مجرد كائن استهلاكي، بل هو أيضا متخبط في هذا الاستهلاك، وأحيانا مخدوع فيه. وسوف أورد لكم مثال يوضح أن الدعاية لا تلزم نفسها بالصدق والموضوعية دائما. المثال هو المشروبات الأيزوتونية (المقوية)، وهي ليست شائعة في بلادنا، ولكنها كانت وما زالت تحوطها دعاية ضخمة في دول الغرب الصناعية، تغري بالذات ممارس الرياضة البدنية العنيفة على شربها، على أساس أنها ضرورية لتعويض الجسم عما فقده من أملاح مع العرق، لذلك فمعدلات استهلاك هذه المشروبات بين الرياضيين في تزايد مستمر، غير أن هيئة مختصة في مدينة بادن فروتنبرج الألمانية قد نشرت في صيف 1992 نتائج دراسة تحليلية لهذه المشروبات أثبتت بها أنها ليست سوى خدعة. وذكرت الدراسة أن هذه المشروبات أطلق منتجوها عليها صفة "أيزوتونية" بدون وجه حق، فقط من أجل إغراء المستهلك بتناولها، وكلمة أيزوتونية يقصد بها أن تركيزات هذه للمشروبات مشابهة لتركيز دم الإنسان، مما يسهل من إمكان انتشارها من الجهاز الهضمي إلى الدم. غير أن الدراسة المذكورة أثبتت أن الكثير من هذه المشروبات أعلى تركيزا من الدم بما يحتويه من سكر ومواد تحليلية أخرى وعناصر وفيتامينات ومحسنات للطعم، وأن مثل هذه المواد ليست ملائمة لتزويد الجسم بكل ما فقده مع العرق. والدعاية - كما ورد في تقرير الهيئة المختصة - تستغبي المستهلك..

الاستهلاك وتراكم المواد الاصطناعية

والواقع أن مشاكل التلوث البيئي في عصرنا أحد أسبابها المهمة هو الاستهلاك الشره للمواد الاصطناعية التي استخدمها التقدم العلمي والتكنولوجي. فهذه المواد تستعصي على الهضم من قبل ميكروبات البيئة. ومن ثم فهي لا تتحلل إطلاقا، أو هي تتحلل بمعدلات جد بطيئة، وتتراكم كملوثات على وجه الأرض. من أكثر هذه المواد شيوعا أنسجة الخيوط الاصطناعية وشتى منتجات البلاستيك.

لعل القارئ مازال يذكر أحد أفلام المطرب الراحل عبد الحليم حافظ، الذي كان يلعب فيه دور مخترع مبتدئ، ابتكر نوعا من النسيج أمتن من الأقمشة الدارجة، يستعصي على التحلل، عند إنتاج هذا الفيلم كانت الخيوط الاصطناعية قد ابتكرت بالفعل رغم أن نسجها كأقمشة لم يكن قد شاع بعد. وقد دخل أحد تلامذة "باستير" التاريخ لمجرد اقتراحه أن تنسج الخيوط الاصطناعية لإنتاج الأقمشة. ولقد سبق الألمان والأمريكيون العالم في هذا المضمار. وكانوا أول من أنتج القمصان المصنوعة من النايلون والبرلون في أوائل الستينيات. ويطلق على العالم الألمان "بول شلاك" أبو خيوط البرلون. كانت هذه الاختراعات بشتى المقاييس ثورة بنيت عليها آمال عريضة، فها هي أنسجة لا يحتاج تنظيفها إلا لمجهود قليل، وإذا عولجت كما ينبغي استغنت أيضا عن الكي. ومع ذلك سرعان ما فطن المستهلك إلى أن هذا الاختراع الجديد له عيوب جمة، فالنسيج شديد الحساسية إذا صبغته مادة كان من الصعب إزالة البقعة. أما إذا طاله الشرر عن أعواد الثقاب أو لفائف التبغ المشتعلة، فالنتيجة ثقوب كثيرة تشوه النسيج، كما أن اللون ناصع البياض الذي كان يميز المنتج الجديد سرعان ما كانت تكسوه غشاوة قبيحة مع تكرار غسله. وبالطبع حدا ذلك بالصناعة لإنتاج مساحيق غسيل خاصة بالخيوط الاصطناعية، مما أضاف أعباء جديدة على البيئة حيث صارت تلك المساحيق ملوثات هي الأخرى.

جبال النفايات تتراكم

كلما ازداد الاستهلاك نمت جبال النفايات على وجه الأرض بما تحويه من مواد تستعصي على التحلل والهضم، ومن مواد متباينة السمية. وعلى الرغم من أن الدول الصناعية المتقدمة لا يمثل سكانها إلا حوالي خمس سكان العالم، فهي تخلف مجتمعة حوالي 70% عن نفايات العالم وملوثاته، إذ تنتج فرنسا مثلا 70 مليون طن سنويا، بينما تنتج ألمانيا 230 مليون طن، سبعة ملايين منها فقط هي القابلة للحرق، وعلى ذلك يستطيع القارئ أن يتصور حجم هذه المشكلة التي تتعقد عاما بعد عام. ولهذا السبب أصبحنا نقرأ ونسمع عن "مافيا النفايات" وهي مؤسسات تتعاقد مع الدول الصناعية لتخليصها من النفايات بأسلوب مشروع يتم الاتفاق عليه، ولكنها تلجأ إلى تهريب هذه النفايات إلى دول العالم الثالث والتخلص منها هناك. وليت الأمر مقتصر على النفايات الصلبة والسائلة، فهذه يمكن على الأقل السيطرة عليها في بقعة من الأرض تمهيدا لمعالجتها. أما الملوثات الغازية فلا سيطرة لأحد عليها، ومن ثم فهي تعبث في طبقة الأوزون تارة وتارة أخرى تتسبب في رفع متوسط حرارة الكوكب من خلال ما يعرف بتأثير الصوبة، وترتبط كميات الملوثات الغازية أيضا بكثافة الاستهلاك من قبل البشر. خذ مثلا أعداد السيارات التي أصبحت تجوب الشوارع - حتى في معظم دول العالم الثالث شديدة الفقر، فضلا عن الدول الصناعية - في إحصائية طريفة، إذا صفت السيارات الموجودة في إحدى دول غرب أوربا بعضها خلف البعض لدار الصف دورتين كاملتين حول الكرة الأرضية عند خط الاستواء ولنا بعد ذلك أن نتصور مقدار النفايات الغازية التي تطلقها السيارات في جو الأرض، بل ومقدار الحرارة التي تشعها هذه المحركات الساخنة في هذا الجو، فإذا أضفنا النفايات الغازية والحرارة الصادرة مع شتى وسائل المواصلات من طائرات وسفن وقطارات وشاحنات ومركبات عامة، ومن ملايين المصانع على سطح الأرض بدت الصورة أكثر قتامة، ثم نعجب بعد ذلك أن متوسط حرارة كوكب الأرض يرتفع باستمرار.. وهناك حسابات علمية تثير إلى أن درجة حرارة الأرض سوف ترتفع إلى حد تشرع عنده ثلوج القطبين في الذوبان، وذلك بعد عقود قليلة إذا استمر النمط الاستهلاكي للبشر على هذه الصورة. وذوبان الثلوج في المناطق دائمة التجمد سوف يرفع من منسوب المياه في البحار التي سوف تغمر مناطق ساحلية شاسعة على الأرض، إذ تدل الحسابات مثلا على أن منسوب المياه في البحر المتوسط سوف يرتفع إلى مستوى يغمر دلتا النيل حتى القاهرة التي سوف تصبح مدينة ساحلية على هذا البحر.

الاستهلاك وتسمم البيئة

وثمة أنماط من الاستهلاك ينجم عنها تلوث البيئة بمواد ضارة وسموم، يتعلق المثال الأول هنا بالاستهلاك الترفي للأثاث المنزلي في زمننا الحديث، ذلك أن كثيرا من المستهلكين أصبحوا يبدلون الأثاث مرة كل عام أو أعوام قليلة. وقد أصبحت صناعة الأثاث الخشبي تستخدم مجموعة من المواد الكيميائية الجديدة لحفظ الخشب من مهاجمة الآفات، وهي مواد سامة، تتطاير من الأثاث بعد تصنيعه ببطء شديد، ولكنها تتجمع بالطبع في أجواء الغرف داخل المنازل، ولهذه المواد - حتى في تركيزات ضئيلة - آثار جد خطيرة على صحة البشر، وقد تفضي إلى قتل الإنسان. وهناك دراسات عديدة في دول صناعية أثبتت نتائجها أن هذه المواد المتطايرة قد أحدثت في المستهلكين آثارا نفسية بعد دخولها الجسم خلال الجهاز التنفسي. كما أن منها ما أدى إلى حالات من التخلف العقلي، ومنها ما دفع البعض إلى محاولة الانتحار. ووصل الأمر إلى أن النيابة العامة في ألمانيا قاضت بعض شركات إنتاج الأثاث بسبب الكوارث التي حاقت ببعض المستهلكين من جراء استنشاق المواد الحافظة التي تطايرت من الأثاث. ومن أشهر هذه المواد خماسي كلور الفينول، ويعالج خشب الأثاث أيضا بمادة فور مالدهير، وهي مادة متطايرة وتسبب السرطان في تركيزات ضئيلة. أما المثال الثاني فيتعلق بالأدوية والعقاقير التي تنتهي فترات صلاحيتها، وتتجمع معظم هذه النفايات الضارة في مراكز الإنتاج (المصانع) والتسويق (الصيدليات) ولدى المستهلكين. وفي معظم دول العالم، خاصة في العالم الثالث يلقى بهذه المستحضرات، لكن القوانين في معظم دول العالم تحرم التخلص منها على هذه الصورة. وتمثل دولة مثل ألمانيا أحد الشواذ القليلين في هذا المضمار. فإذا ما وصلت للتربة تسللت السموم إلى المياه الجوفية والسطحية وإلى النباتات والحيوانات. ومن هؤلاء جميعا إلى الإنسان، ولا تقتصر الملوثات السامة على ما ذكرنا بالطبع، بل هناك منها ما لا يحصى ولا يعد، نذكر منها مضادات الآفات المستخدمة في الزراعة الحديثة، والمعادن الثقيلة كالزئبق والرصاص في البطاريات الجافة المستهلكة وغير ذلك الكثير. كل هذه السموم تتركز في بيئة الأرض كلما زاد الاستهلاك من قبل البشر.

بيئة الغد

يعيش إنسان اليوم بأسلوب استهلاكي غير مسئول، وكأن لسان حاله يقول: "أنا وبعدي الطوفان"، ولكنه - كنوع من أنواع الأحياء - التي تسعى بالغريزة إلى الحفاظ على نفسها من الانقراض لا بد أن يشغل فكره دائما بالسؤال عن شكل البيئة التي سوف يتركها من بعده لأبنائه وأحفاده. لو حاور الإنسان نفسه بجدية وموضوعية حول هذا الأمر لغير الكثير من أساليب عيشه تغييرا جذريا. ولكنها الشيزوفرينيا التي أشرت إليها في بداية المقال. نحن نعي المخاطر المحدقة بنا، ولكننا لا نفعل إلا القليل من أجل تجنبها. ينطبق ذلك على الأفراد كما ينطبق على الحكومات، ولعل لرأس المال سطوة تحول دون تنفيذ الترتيبات الضرورية لصيانة البيئة. تتجلى شيزوفرينيا البشر أوضح ما تتجلى في المؤتمر العالمي عن بيئة الأرض الذي عقد في ريو دي جانيرو بالبرازيل في صيف 1992. إن مجرد عقد هذا المؤتمر ومشاركة عدد من رؤساء الدول فيه لهو أبلغ دليل على وعي الإنسان بالمخاطر التي تهدد بيئة الأرض. وعلى الجانب الآخر فالقرارات والتوصيات الهزيلة التي خرج بها هذا المؤتمر تعني بوضوح أن الإنسان ليس مستعدا بعد لتغيير سلوكياته وأنماط معيشته تغييرا جذريا من أجل الحفاظ على بيئته. ومع ذلك فأنا على يقين أن العقود القليلة القادمة سوف تشهد مثل هذا التغيير، سواء أكان ذلك برضا الإنسان أو على غير هواه.

 

سمير رضوان







الاستهلاك طوفان التلوث القادم





الاستهلاك يهدد بطوفان مائي حقيقي نتيجة ارتفاع درجة حرارة ذوبان الجليد





الاستهلاك يخلف تلالا من النفايات التي لا تتحلل وسحبا تفسد تركيب الهواء والمطر